أزمات الخبز العربية صناعة حكومية

أزمات الخبز العربية صناعة حكومية

19 ابريل 2022
من حصاد القمح في مصر (محمد الشاهد/ فرانس برس)
+ الخط -

عصفت بالمنطقة العربية أزمات خبز طاحنة ومتكررة خلال النصف قرن الأخير، سقطت فيها أرواح كثير من المواطنين في طوابير الخبز، وفي الاحتجاجات الشعبية ضد الغلاء وارتفاع أسعار السلع الغذائية وغياب أو شح بعضها.

يكفي أن تكتب كلمتي "أزمة الخبز" على محرك البحث غوغل حتى تظهر آلاف الأخبار عن شح الخبز وارتفاع سعره وسقوط المواطنين قتلى في طوابير الخبز في الدول العربية فقط وعلى مدار سنوات طويلة.

وفي كلّ أزمة تطلق الحكومات الوعود بلسان الحال والمقال بأنه قد حان وقت الاكتفاء الذاتي من قمح الخبز الذي اندلعت بسببه الثورات الشعبية وسقط فيها المئات والآلاف من المواطنين العرب. لكن عقب انفراج الأزمة تتناسى الحكومات وعودها، وتنتكس عن الوفاء بتعهداتها التي قطعتها على نفسها حتى تفيق على أزمة غذاء جديدة وهكذا دواليك.

في سنة 2007 شهد العالم صدمة عالمية خطيرة وغير مسبوقة في أسعار الغذاء. وفي النصف الأول من 2008 أوقفت الدول المنتجة صادرات القمح. وارتفعت أسعار القمح، المادة الأساسية لصناعة الخبز حول العالم، بمعدل 130 بالمائة.

وعلى وقع الأزمة، عقدت جامعة الدول العربية جمعية عمومية للمنظمة العربية للتنمية الزراعية في إبريل/ نيسان 2008.

وأصدر وزراء الزراعة والمسؤولون عن الشؤون الزراعية العربية "إعلان الرياض لتعزيز التعاون العربي لمواجهة أزمة الغذاء العالمية"، ووضعوا ما سموه استراتيجية التنمية الزراعية العربية المستدامة حتى سنة 2028 لسد الفجوة الغذائية العربية، وقالوا إنهم أدركوا بوعي كامل، وبمنتهى الإحساس بالمسؤولية، خطورة استمرار تدني معدلات نمو الإنتاج الغذائي الراهنة، والتي عجزت عن ملاحقة الزيادات في معدلات الاستهلاك، والحد من اتساع الفجوة الغذائية، وما لذلك من انعكاسات سلبية تهدد الأمن الغذائي والاجتماعي للمواطن العربي.

وأعلنت الجامعة العربية التزام الحكومات العربية بإطلاق مبادرة لبرنامج عربي طارئ للأمن الغذائي تهدف إلى زيادة إنتاج الغذاء في الوطن العربي، وبخاصة إنتاج القمح والبذور الزيتية والسكر، وأيضاً تبني برنامج غذاء عربي لدعم الدول العربية الأكثر تضرراً من نقص الغذاء وارتفاع أسعاره.

وضعت الجامعة خطة عمل وبرنامجاً زمنياً محدد الآجال لتنسيق السياسات الزراعية في الدول العربية للإسراع في بلورة السياسة الزراعية العربية المشتركة في المدى المتوسط، باعتبارها أحد الأهداف الاستراتيجية الرئيسة للتنمية الزراعية العربية، وقيل كلام آخر كبير.

ورصدت مليارات الدولارات لتنفيذ مشروعات الأمن الغذائي والتكامل الزراعي العربي، وبناء مخزون استراتيجي من القمح في المنطقة، والنهوض بالثروة السمكية، وتوطين التكنولوجيا الزراعية في الدول العربية، ومشروعات أخرى عملاقة وخطط براقة لو نفذت لكفت العالم بأسره، وليس المنطقة العربية وحدها.

وعود زائفة

بمجرد تحسن أسعار الغذاء في الربع الأخير من سنة 2008، اختفت الخطط والبرامج التي وضعتها الحكومات، بل تراجع الإنتاج الزراعي في الدول العربية بعد الأزمة، وأهدرت الأموال في اجتماعات ومؤتمرات عن الإنجازات الزائفة في مواجهة الأزمة.

ثم استيقظت الحكومات النائمة على أزمة غذاء جديدة بعد سنتين فقط، عام 2010، وفرضت الدول المنتجة حظراً على تصدير القمح والذرة والأرز وارتفعت الأسعار إلى الضعف مرة أخرى.

واندلعت المواجهات بين قوات الشرطة والمواطنين وسقط قتلى في الشوارع، واشتعلت الثورات الشعبية في نهاية سنة 2010 في العديد من الدول العربية، وسقطت حكومات وأنظمة لم تع الدرس ولم تتعلم من الأزمات السابقة.

موقف
التحديثات الحية

وولدت حكومات من رحم الربيع العربي استهدفت الاكتفاء الذاتي من القمح وكادت تنجح، ثم أسقطتها الثورة المضادة وكررت السيناريو الذي جرى في بداية سنة 2008، ونكثت الحكومات الجديدة في وعودها مرة أخرى وتناست الأزمة، ثم استيقظت من سباتها على أزمة غذاء عالمية جديدة في بداية سنة 2020 بسبب أزمة كورونا. وتوقفت الدول المنتجة عن تصدير السلع الغذائية وزادت الأسعار إلى مستويات تاريخية.

وخلال السنة الماضية ارتفعت أسعار المواد الغذائية العالمية بأكثر من 33%، لتصل إلى أعلى مستوى لها خلال عقد من الزمن بسبب وباء كورونا الذي عطل الإنتاج، وأصبح حوالي عُشر سكان العالم، 800 مليون نسمة، ليس لديهم ما يكفي من الطعام، كثير منهم في الدول العربية. وكالعادة، اجتمعت الحكومات العربية وأبرمت الوعود ووضعت الخطط، ثم تناستها وعادت ريمة لعادتها القديمة.

ولسوء الحظ، تكررت المأساة بعد أقل من سنتين بسبب حرب روسيا على أوكرانيا في فبراير/ شباط سنة 2022 والتي لم تنته بعد، وارتفعت الأسعار العالمية للأغذية إلى مستويات جديدة غير مسبوقة، وتوقفت تماماً واردات القمح والذرة وزيت الطعام من أوكرانيا إلى الدول العربية.

أزمة جديدة

في الثامن من إبريل/ نيسان الحالي، كشفت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، عن أنّ مؤشر الأسعار العالمية للسلع الغذائية الأساسية حقق قفزة نوعية في مارس/ آذار الماضي ليسجّل أعلى مستوى تاريخي له منذ إرساء المؤشر في عام 1990، وبلغ 159.3 نقطة، بزيادة قدرها 12.6 في المائة عن مستواه المسجّل في شهر فبراير/ شباط.

وقالت المنظمة إن الزيادة الأخيرة تُظهر ارتفاعاً جديداً في مؤشرات أسعار الأغذية الأساسية جميعها، وعلى رأسها القمح والذرة واللحوم والزيوت النباتية والسكر ومنتجات الألبان، لتبلغ أعلى مستويات لها على الإطلاق.

وعن القمح، قالت المنظمة إنّ مؤشر الأسعار بلغ 170.1 نقطة في مارس/ آذار، بزيادة قدرها 17.1 في المائة عن مستواه المسجّل في شهر فبراير/ شباط، ليبلغ أعلى مستوى تاريخي له منذ تدشين المؤشر في عام 1990، ومتخطياً بذلك مستواه خلال أزمتي الغذاء العالمية في سنة 2008 وسنة 2010، وعزت المنظمة السبب إلى توقف الصادرات من أوكرانيا ومن الاتحاد الروسي.

أزمة طويلة

يبدو أنّ أزمة القمح ستزداد تعقيداً وقد يطول أمدها، لسببين، الأول، هو توقف الصادرات من روسيا وأوكرانيا وهما مصدر رئيس لهذه السلع. والثاني، ما كشفه الاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع وبعد أربعين يوماً من بداية الحرب عن استهداف روسيا مخازن القمح وتدمير المخزونات في أوكرانيا بالقصف، وحصار السفن الحربية الروسية سفن نقل القمح ومنع التصدير من الموانئ الأوكرانية، ما أدى إلى تفاقم أزمة الغذاء العالمية.

وعن سياسة روسيا الجديدة في الحرب على أوكرانيا، قال منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن الروس ينشرون الجوع في العالم من خلال تدمير مخازن الحبوب في أوكرانيا ومنع تصدير القمح. إنّ خسارة الصادرات من منطقة البحر الأسود أدت إلى تفاقم العجز الموجود أصلاً في كميّات القمح المتوافرة للتجارة عالمياً في الأشهر الثلاثة المتبقية من موسم التجارة الذي ينتهي في يوليو/ تموز المقبل.

وإذا كان العالم مهددا بالجوع من جراء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فإن الدول العربية ستكون الأقرب إلى الجوع المحتمل من أي منطقة أخرى، لأنّها تستورد من روسيا وأوكرانيا المتحاربتين 60 بالمائة من القمح المخصص للخبز والذرة الصفراء اللازمة لأعلاف الدواجن وزيت دوار الشمس.

توقعت المنظمة أيضاً أن ينخفض إنتاج القمح في أوكرانيا هذا العام إلى أقل مستوى له في السنوات الخمس الأخيرة بسبب احتمال عدم حصاد ما لا يقل عن 20 في المائة من المساحة المزروعة خلال الشتاء بسبب الدمار المباشر أو عراقيل الوصول للحقول أو نقص الموارد اللازمة للحصاد.

وفي ظل القلق بشأن تراجع إنتاج القمح في الدول المصدرة الأخرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، حيث يحتمل تراجع صادراتها من القمح بنسبة 25 بالمائة، ارتفعت الأسعار العالمية للقمح بشكل حاد في مارس/ آذار، مسجلة زيادة حادة بنسبة 19.7 في المائة، وزاد السعر إلى ضعفي ما كان عليه قبل سنة، وهو أعلى مستوى لها منذ تدشين المؤشر في عام 1990.

توقف التصدير أفضى إلى حرمان السوق العالمي من حوالي 4.5 ملايين طن من مخزون القمح، ونحو 8.3 ملايين طن من مخزون الذرة في أوكرانيا.

وأدّى التراجع الكبير لصادرات الذرة الصفراء من أوكرانيا إلى زيادة بنسبة 19 في المائة في الأسعار العالمية للذرة المستخدمة في أعلاف الدواجن واللحوم الحمراء خلال الشهر الماضي، إذ تعتبر أوكرانيا رابع أكبر مصدِّر له.

صناعة الأزمة

رغم الأخبار السيئة عن ارتفاع أسعار القمح وشحه في السوق العالمية والتداعيات المؤكدة بقوة على استقرار المنطقة العربية والأنظمة، لم تتبن حكومة عربية جادة سياسة الاكتفاء الذاتي من القمح حتى كتابة هذه السطور.

إنّ أهم سياسة لزيادة إنتاج القمح تتمثل بالشراء من المزارعين بسعر محفز. الحكومات العربية تفعل العكس، إذ تفرض أسعارا بخسة لشراء القمح من المزارعين العرب، رغم أنّها تشتريه بأسعار باهظة من الدول الأجنبية وبالعملة الصعبة.

على سبيل المثال، مصر، وهي أكبر مستورد للقمح في العالم، فرضت سعر 885 جنيهاً لشراء القمح المحلي، وزن 150 كيلوغراماً، ليكون سعر الطن 5900 جنيه، ما يعادل 321 دولاراً، وفي التوقيت نفسه اشترت شحنة قمح من فرنسا بسعر 466 دولاراً للطن، ما يعادل 8500 جنيه، بزيادة قدرها 145 دولاراً، 2668 جنيهاً، عن سعر القمح المحلي.

الجزائر، خامس أكبر مستورد للقمح في العالم، فرضت سعر 5000 دينار، 35.9 دولاراً، لقنطار القمح المحلي وزن 100 كيلوغرام، ليكون سعر الطن 50000 دينار، ما يعادل 359 دولاراً، وفي التوقيت نفسه اشترت شحنة قمح من أوروبا بسعر 485 دولاراً للطن، بزيادة قدرها 126 دولاراً عن سعر القمح المحلي.

بخس الحكومات العربية أسعار القمح المحلي يدعم مزارع القمح الأجنبي، وينفر المزارعين العرب من زراعة القمح المحلي فتزداد الأزمة تعقيداً.

المساهمون