}

رحيل ماري هيغينز كلارك.. "ملكة التشويق" ووريثة أغاثا كريستي

نجيب مبارك 5 فبراير 2020
تغطيات رحيل ماري هيغينز كلارك.. "ملكة التشويق" ووريثة أغاثا كريستي
ماري هيغينز كلارك (1927- 2020)
مساء الجمعة الماضي ودّعتنا الروائية الأميركية الشهيرة ماري هيغينز كلارك (1927- 2020)، الملقّبة بـ"ملكة التشويق"، وهي في سنّ الثالثة والتسعين. وكان مسؤولو دار "سايمون أند شوستر"، وهي دار النشر الحصريّة التي تحتضن أعمالها منذ عقود طويلة، هم أوّل من أعلن خبر وفاتها عبر حسابهم في تويتر: "بحزنٍ عميق نودّع "ملكة التشويق" ماري هيغينز كلارك. لقد توفّيت بسلام هذا المساء، محاطة بأفراد عائلتها وأصدقائها". وقد تركت ماري أزيد من خمسين كتاباً، بيع منها حوالي 100 مليون نسخة عبر العالم، بما في ذلك أكثر من 80 مليون نسخة في الولايات المتحدة وحدها.
 
مأساة عائلية متكرّرة
وُلدت ماري تيريزا إليانور هيغينز كلارك في 24 كانون الأول/ديسمبر 1927، في حي برونكس بمدينة نيويورك، من عائلة متواضعة ذات أصول إيرلندية. وتحكي أنّها أصيبت بلوثة الكتابة في سن السابعة، وكان ذلك طبيعياً لأنّ الإيرلنديين هم "رواة قصص" بالفطرة، حسب تعبيرها. توفّي والدها بنوبة قلبية عندما كان عمرها 10 سنوات وأُجبرت والدتها، التي تُركت وحدها مع ثلاثة أطفال، على تقاسم منزلها مع المستأجرين. هكذا، ستضطَّر ماري إلى العمل في سنّ مبكرة، كموظفة سويتش في فندق. وعن هذه الفترة، تذكر في مذكراتها أنها كانت تتنصّت أحياناً على محادثات الزبائن، بما فيها محادثات الكاتب الشهير تينيسي ويليامز، لكن من دون أن تجد فيها أيّ شيء يستحقّ الانتباه. ثمّ بعدها عملت سكرتيرة، قبل أن تتزوّج وهي في العشرين من عمرها، لتصبح مضيفة طيران على خطوط شركة "با نام". وبعد فترة قصيرة، ستتوقّف عن السفر حول العالم لتتفرّغ لتربية أطفالها، مع الاستمرار في الكتابة في مطبخها من الساعة الخامسة إلى السابعة صباحاً، قبل أن يذهب الأولاد إلى المدرسة.
كانت تبلغ من العمر 35 عاماً، حين توفّي زوجها فجأة بنوبة قلبية وهو في الرابعة والأربعين، تاركاً وراءه خمسة أطفال في حاجة لمن يُعيلهم. وقد سبق لها أيضاً، حين كانت أصغر سنّاً، أن فقدت شقيقها الأكبر الّذي توفّي فجأة بسبب التهاب السحايا، ثمّ حلّت الكارثة بوفاة ابن أخيها، البالغ من العمر 15 شهراً، حين سقط من نافذة. ورغم كلّ هذه المآسي، لم تستسلم وجرَّبت حظّها مع الكتابة باستمرار، وظلَّت لسنوات تحلم أن تعيش من مداخيل كتاباتها في يوم من الأيام. كتبت في البداية قصصاً قصيرة، ثمّ مسلسلاً إذاعياً، ونشرت سيرة لجورج واشنطن، ورغم ذلك لم يحالفها النجاح، فقرَّرت أخيراً أن تجرّب كتابة الرواية البوليسية. وبمجرّد أن نشرت روايتها الأولى "بيت المراقبة" في عام 1975 تصدّرت المبيعات بسرعة قياسية، ثمّ تلتها رواية "ليلة الثعلب" عام 1977، التي فازت بالجائزة الكبرى للأدب البوليسي، وجعلت منها مليونيرة بين ليلة وضحاها، مما دفع ناشرها الفرنسي ألبان ميشال إلى إنشاء سلسلة خاصة بروايات التشويق أسماها Special Suspense.
نجاح بعد الخمسين
بعد هاتين الروايتين، لم تتوقّف النجاحات مع توالي الروايات التشويقية، التي تصدرها بوتيرة سنوية وفاق عددها الخمسين رواية، مثل "صرخة في الليل"، "نامي يا حلوتي"، "مطلوب فتاة تهوى الموسيقى والرقص"، "ما تعيشه الورود"، "لن نذهب إلى الغابة بعد الآن"... وغيرها. لكن رغم تكريسها روائية ذات شهرة ومكانة في الساحة الأدبية، لم تكفّ عن محاولة تعويض ما فاتها في حياتها السابقة. هكذا، التحقت بجامعة فوردهام في نيويورك، حيث حصلت على درجة البكالوريوس في الفلسفة، شهادتها الجامعية الأولى، وهي تبلغ من العمر 50 عاماً. أمّا في عام 2000، فقد فاجأت القرّاء بنشر رواية "ثلاثة أيّام قبل عيد الميلاد"، وهي بتوقيع مشترك مع ابنتها كارول، وستتوالى بعد هذه الرواية أربعة إصدارات تجمع الأم وابنتها. وطوال حياتها، أُعيد طبع أعمالها عشرات المرّات سنوياً، بما في ذلك رواية "أين هم الأطفال؟" التي وصلت إلى طبعتها الخامسة والسبعين، بينما شرع المخرجون منذ عام 1982 في تحويل كثير من هذه الروايات إلى أفلام سينمائية وتلفزيونية.
يصف البعض ماري هيغينز كلارك بأنّها وريثة أغاثا كريستي، لما تركته من تأثير كبير في الأدب البوليسي المعاصر. وهي لا تنكر أنّ مصدر إلهامها المفضّل هو عمود الأخبار في صحيفة "مورنينغ نيويورك بوست"، التي كان من عادتها أن تقرأها كلّ صباح بينما تحتسي قهوتها. وعلى سبيل المثال، في عام 2008، احتلّت قضية مادوف (التي سُمّيت على اسم هذا المحتال الأميركي الذي حوّل ما يقرب من 60 مليار يورو لعملاء شركته المتخصّصة في الاستثمارات المالية) عناوين الصحف، فاتّخذت من هذه القضية موضوعاً لروايتها "صندوق الموسيقى". ورغم زواجها عام 1996 برجل الأعمال الغنيّ والمتنفّذ جون كونيني، فقد كتبت في مذكراتها الصادرة عام 2003 بعنوان "بين الأمس واليوم" أنّها ستظلّ تكتب حتّى وفاتها لأنّ "الفوز في اليانصيب قد يجعلك سعيداً لمدّة عام، لكن ما تحبُّ فعله يجعلك سعيداً مدى الحياة".
يصف البعض ماري هيغينز كلارك بأنّها وريثة أغاثا كريستي، لما تركته من تأثير كبير في الأدب البوليسي المعاصر 
















قالوا بعد رحيلها
عن هذا الفراغ الكبير الذي خلَّفه رحيل "ملكة التشويق" في عالم الرواية البوليسية، قال الروائي الفرنسي غيوم ميسو، الأكثر مبيعاً في فرنسا طيلة العقد الأخير: "اكتشفتُ ماري هيغينز كلارك حين كنتُ في الـ 14 أو الـ 15 من عمري من خلال روايتها "ليلة الثعلب". أمّي، التي كانت أمينة مكتبة، هي الّتي نصحتني بقراءتها، مؤكّدةً أنّ هذه الرواية ستنجح في إثارة الرعب بداخلي. كنتُ مراهقاً ولم آخذ كلامها على محمل الجدّ. وفعلاً، كانت على حق! هذه الرواية، التي صدرت في فرنسا عام 1979، ساعدت في تجديد هذا النوع من أدب الإثارة. أسلوبُها فائق السلاسة، وسردها متوتّر، تتداخل فيه العديد من النظرات ووجهات النظر المختلفة، في ميكانيكية لا هوادة فيها... لقد قيل الكثير وبإفراط عن بعض الروايات التي يستحيل إغلاقها بعد الصفحة الأخيرة. وبالنسبة لي، ينطبق هذا الأمر على رواية "ليلة الثعلب"! إنّها تأخذ بلبّ القارئ، فيجد نفسه أسيراً لمناخ من الرعب الّذي يقطع الأنفاس. أنا لم أقرأ كلّ روايات ماري هيغينز كلارك، لكن ذكرى هذا الاكتشاف الأوّل ستبقى إلى الأبد في ذاكرتي كقارئ". ومن جهة أخرى، قال مواطنه الفرنسي مارك ليفي، وهو أيضاً من الكتاب الأكثر شعبية ومبيعاً في فرنسا: "عندما كنتُ كاتباً شابّاً، جمعتني مرّة طاولة واحدة مع سيدني بولاك وجاكلين بيسيت وماري هيغينز كلارك. لقد سُحرتُ على الفور بروح دعابتها ولطفها وإحساسها وسخريتها العالية من الذات. كانت سعيدة، وتعيش حياة جيّدة. أتذكّر أيضاً إتقانها المذهل لهذه الحرفة (كتابة الروايات البوليسية)".
أمّا صديقها الكاتب الأميركي هارلان كوبن، وهو كاتب روايات بوليسية شهير أيضاً، فاقت مبيعات رواياته 70 مليون نسخة في السنوات الأخيرة، وهو أوّل كاتب في التاريخ يفوز بجوائز الأدب البوليسي الكبرى في أميركا (جائزة إدغار ألان بو، جائزة شاموس وجائزة أنتوني)، فصرّح: "قلبي منكسر. ببساطة كانت ماري هي الأفضل، ككاتبة طبعاً، ولكن أيضاً كأعزّ صديقة يمكن أن يحظى بها المرء. كنّا قريبين جداً، نعيش على بعد كيلومترات من بعضنا البعض. وقد علَّمتني الكثير في مجال الكتابة، ولكن أيضاً في الحياة بشكل عام. كانت سخيّة للغاية، ودائماً تهبُّ لمساعدتي عند الحاجة. بدونها ما كنتُ لأصل إلى ما وصلت إليه الآن. كانت تشتغل بجدّية عظيمة، وعندما كنتُ أعجز عن كتابة رواية ما، يذهب تفكيري إليها فأعود بسرعة إلى العمل في مكتبي! أحبَّت ماري النّاس والحياة على الرغم من المآسي التي عاشتها، بما في ذلك اضطرارها إلى العيش أرملة مع خمسة أطفال صغار. كانت قريبة جداً من قُرّائها، وكانت تحبّ اللقاء بهم، والتحدّث معهم، والإجابة عن أسئلتهم. لقد شعَّ حضورها في جميع الأماكن الّتي حلَّت عليها".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.