}

في ذكرى ميلاد أزيموف الـ100.. نصف توقعاته تحقّقت!

سيرغي أروتيونوف 21 فبراير 2020
ترجمات في ذكرى ميلاد أزيموف الـ100.. نصف توقعاته تحقّقت!
اكتشف آزيموف (1920-1992) ثلاثة قوانين في تقنية الروبوتات
[بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد كاتب قصص الخيال العلمي آيزيك آزيموف]


يبحث البعض منّا، وقد أرهقه عطشٌّ روحيّ مختلف الأشكال، عن أنبياء داخل الوطن، أو خارجه، بحيث أصبحنا على أتمّ الاستعداد للاعتراف بهم عند أيٍّ من سوابق "مقاربة الواقع العلمية". وهذا ينطبق حتى على مقاربات الخيال العلمي!
لو كنت مكان عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) لبدأت منذ أربعينيات القرن العشرين برصد تحركات وأعمال آيزيك آزيموف (سوفييتيّ المولد عام 1920، والمهاجر عام 1923 بصحبة والديه). بيد أنّ المستهترين في هذه الوكالة، التي نصّبها القانون حارساً للحرية والديمقراطية في العالم أجمع، لم تكن تمتلك الوقت الكافي للقيام بملاحقةٍ شاملة للكاتب، بحيث تنتهي هذه الملاحقة بتحطيمه شخصياً ومهنياً. وعندما بدأت الملاحقة الفعلية المتأخرة في ستينيات القرن العشرين، لم يتمكّن المكتب، لبالغ الأسف، من تقديم إثباتاتٍ كافية تدين هذا الروسيّ – اليهودي - الشيوعي المتخفي العاشق لمجالس النواب السوفييت!
اشتبه المخبرون بأنّ آزيموف ليس سوى جاسوس سوفييتيّ يعمل باسمٍ حركيّ: البروفيسور روب (اسم مستعار شفاف ابتكره آزيموف عن قصد!)، وادّعى المخبرون أنّه يكفي فكّ بعض الخيوط لإدانته، ولكنّ التخبّط الإجرامي والمحزن في مكتب التحقيقات الفيدرالي لم يسمح بالقيام بذلك!
لو كنتُ عضواً في مكتب التحقيقات الفيدرالي المتخصص في مكافحة الأنشطة المعادية للولايات

المتحدة الأميركية لما تشبّثت بتعليقات آزيموف الجنونية حول أهميّة الإنجازات التقنية السوفييتية (من قبيل بناء أول محطة كهرو - ذرية في العالم)، بل كنت لأطرح عليه سؤال الجائزة الكبرى: سيّد آزيموف، كيف تفسرون حقيقة تكدّس قصصكم على رفوف مكتبات معظم العائلات في الاتحاد السوفييتي؟ ولَكنت شاهدت كيف سينجو من المصيدة هذا الهيبيّ الأشعّث (الذي يشبه - إلى حدّ التطابق- البروفيسور هانسن من "الماراتون الخريفي"(1). مات آزيموف، عالم الكيمياء العضوية، وأحد أعظم أدباء الخيال العملي في القرن العشرين، نتيجة إصابته بمرض نقص المناعة، الذي أصيب به بعد خضوعه لعملية جراحية في القلب عام 1982. بالطبع، نحن التقدميين حتى النخاع، ننكر فرضية نقل مرض الإيدز للكاتب عمداً. فقد سبق لنا وسمعنا أيضاً مزاعم مماثلة حول قيام المخابرات المركزية الأميركية بالتنصّت على الروائي الأميركي إرنست همنغواي. وحتى لو كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنّ الأمر يبقى مضحكاً، أليس كذلك؟!
من أيّ طينةٍ عُجنَ أولئك الجواسيس السوفييت الملاعين، فحتى المراقبة الحثيثة لم تتمكّن من تقديم أدلةٍ ولو بالحدّ الأدنى لاتهامهم؟ من حقِّ أجهزة الاستخبارات السوفييتية أن تفخر بأنّ عملاءها معروفون ويتمتعون بالنفوذ في بلدان الإقامة، وأنهم يصبحون أثرياء في منتصف العمر، لدرجةٍ ترفض الجامعات التي يعملون فيها دفع أجورهم لقاء خدماتهم التدريسية. وأكثر من ذلك، في استطاعتهم الوصول إلى الأسرار العسكرية بمنتهى السهولة!
على التوازي، ومع ظهور عمله القصصي الأول (حكاية "روبي" عام 1939، التي شكّلت البداية لسلسلة أعماله عن الروبوتات)، كان آزيموف يقضي خدمته العسكرية كيميائياً في

ترسانة فيلادلفيا العسكرية إلى جانب زميلٍ، اتضح (ويا للعجب) أنّه روائيّ كبير آخر في عالم الخيال العلمي - روبرت هاين لاين(2). يتبيّن في ما بعد أنّ صاحب الكنية الروسية لم يكن أبداً جنديّاً في مختبر القنبلة الذرية في إحدى جزر المحيط الهادئ، بل كان متواجداً في الخدمة العسكرية، فقط، ما بين أكتوبر 1945 ويونيو 1946، أي في بداية "الحقبة النووية".
في سنوات لاحقة، تجنّب آزيموف التعاون مع وكالة "DARPA )"3) قويّة النفوذ، وهي البادئة عملياً بكافة البرامج الحربية الأميركية تقريباً، ليدسّ لهم بدل ذلك..... مفهوم "الإبداع"، الذي سيؤمّن له غطاءً رائعاً لبقية حياته، ويمكِّنه من تأليف 500 رواية، والحصول بشكلٍ مستمر على جوائز أدبية من ثلاثة أنواع لا غير، وهي ليست بالجوائز العظيمة بالفعل!... بعضٌ من جوائز نوبل، والبعض الآخر من جمعية "Hugo) "4).
كانت مؤلفات: "السؤال الأخير"، و"رجلٌ عمره مائتا عام" (الذي حوّل إلى فيلمٍ يصوّر عملية تطورٍ عكسيّ من الكمال الميكانيكي إلى الموت البروتيني)، و"الصبيّ المسخ"، هي الأكثر قرباً إلى قلبه.
فما هو روبي؟ هو روبوت يؤدي عمل المربية المستعدٌّة للتضحية بنفسها لحماية من تقوم برعايتهم، فما أجمل أن يحلم  زرّاع الجينات بخلق خدمٍ مخلصين سودٍ؟! على سبيل المثال، وكما فعل "براد بيري"(5) في رواية "أُمجِّد الجسد الكهربائي"، حيث يتمتّع الروبوت - الجدّة - على غرار "ماري بوبينس"(6) ذات الميزات المتعددة ــ بالمشاعر، ولديها طبعٌ رقيق.... وتوقٌ إلى الحبّ مدفوع بتمدّنٍ حضاريّ، أو بشيءٍ آخر أكبر؟ إنجيل العصر الصناعي ــ هو كما هو. وهذه الحقيقة هي ما جلب الشهرة لكثير من الفنانين، بدءاً من آزيموف، وبراد بيري، وصولاً إلى كلارك(7)، وشيكلي(8).
إن كنّا مخلوقين بالفعل، فإنّ الخالق لن يخشى منحنا حرية الإرادة. فهل نستطيع نحن، على

غرار الخالق، أن نتقاسم حرية الإرادة مع أولئك الذين خلقناهم (الروبوتات)؟ فما هي الإنسانية إذاً، إن لم تكن ظلّ المسيح، تحاول التحرّر منه لتظهر كطفل رضيع من أطفال أنابيب الاختبار؟
كنت شاهداً في أحد الأيام، عندما عبّر أحد المهندسين السوفييت في مجال البيولوجيا الميكرونية عن أسفه لأنّ تطور الحواسيب الإلكترونية تسير في طريق المنطق الثنائي ("نعم - لا") فقط. حينها، شرح لي معنى هذا أحد المشككين الإنسانيين العقلانيين:
"كان بإمكان الآلات أن تفكّر تماماً بالطريقة نفسها التي نفكّر نحن بها. فبإضافة ثنائية ("نعم - لا") التي تمنح هذه الآلات وحدة حجم "لا أعرف" - أيْ الحدس. فما أعظم هذه الكلمة "لا أعرف"!، ففيها يكمن سرّ حريتنا. ولكننا، للأسف الشديد، عندما قمنا (نحن البشر) باختيار طريق تطوّر هذا الفرع من العلوم، لأننا كنّا في واقع الأمر نخشى فعلياً ظهور منافسين لنا. عند هذه النقطة يكون الكاتب قد قام بنصف خطوة باتجاه اللاهوت".
كانت علاقة آزيموف بالدين شديدة التعقيد، فلم يكن والداه، لإحساسهم بتغيّرات القرن القادمة، ولقناعتهم بأنّ "على الغلام أن يفعل شيئاً"، يدفعان به داخل أُطر التقاليد الدينية اليهودية الصارمة. تمكّن آزيموف من تحقيق أحد القيم اليهودية العليا (تأمين حياة جيدة للعائلة) - فما الذي نحتاجه، نحن البشر، أكثر من ذلك في زمننا المضطرب؟ إنّ ما نحتاجه هو تكوين نظرتنا الخاصة في التاريخ والدين الفلسفة، النظرة المجسّدة في "عوالمنا".
يقول آزيموف: "ليس لديّ دليلٌ يثبت أنّ الله غير موجود، ولكني أشكّ بقوة في وجوده لدرجةٍ لا أريد معها أن أهدر وقتي عبثاً"،- مبدأٌ في صلب روح برنارد شو، أو وايلد! ويتابع: "الجحيم – هو "حلم الساديّ"، المفروض بكلّ وقاحة على الإله الرحمن الرحيم، - وهذا تصريحٌ يحمل جرعةً فائضة من التشكيك تجاه فترة طفولة المسيحية الغربية. هنا نصل إلى استنتاج منطقيّ: "من غير الممكن كتابة قصص خيالٍ علمية ونتجاهل الدين بالفعل في الوقت ذاته".
وضعت عضويته الطويلة في المؤسسة الإنسانية الأميركية (ِAHA) النهايةّ: "لا أظنّ في الإمكان إرغام الناس على محبة بعضهم بعضاً، ولكن لو كان الأمر في يدي فسأقضي على الكراهية بينهم".
اعتُبر كتابه "حلول الليل" كتاباً من الكتب الكلاسيكية. إذ تدور قصته حول كوكب النور

الأبدي، حيث يسود "الليل" نتيجة اصطفاف الكواكب القريبة منه اصطفافاً معيناً، دَمّر حضارة الكوكب هذا مرات عديدة خلال بضع آلافٍ من السنين. وقد كُتب هذا الكتاب صراحةً بروح الحياة الأُخروية، كنايةً عن هشاشة الموجودات كافّة مهما اعتبرت نفسها أبديةً لا يمكن الاستغناء عنها.
تفوح روح العهد القديم من روايات سلسلة «Foundation» -، إذ تقول الرواية "إنّ إمبراطورية هائلة والتي لا يتخيلها الإدراك قد نشأت في إحدى المجرات، وامتد سلطانها إلى أطراف الكون النائية، ولكنها أصبحت على حافة الزوال على الرغم من كلّ الجهود التي يبذلها "الأزواج الفطنون"، في محاولةٍ منهم للحيلولة دون انهيارها التام. ولأنّه يوجد إصلاحيٌّ مقابل كل حارسٍ من حراس الإمبراطورية، يكون التغلب عليهم بأن نعيش حياةً ليست بالمضجرة في ظلّ المبادئ".
زعم البعض أنّ رواية «Foundation» كانت بمثابة نبوءةٍ بزوال الاتحاد السوفييتي، ولكن دعونا في الوقت نفسه نتذكّر أنّ إيفان يفريمييف رفض بسخطٍ المشاركة في الرسوم الكاريكاتورية عن حقبة ستالين السوفييتية، وربط ملامح الرواية "على الأرجح مع الصين الماوية"، قائلاً: لننسَ أمر الكلاسيكية.
بالكاد تحققت نصف توقعات آزيموف المستقبلية، التي بدا للراديكاليين الحالمين أنّها كانت

محض صدفة بائسة: فعلى الرغم من توفر (السموم) المعدّلة جينياً ليست هناك أشجار تفاحٍ مريخيّة. وعلى الرغم من نماذج أولية خجولة لآلاتٍ طائرة، فإنّها وبعد نصف قرنٍ من العمل لم تدخل مرحلة الإنتاج الصناعي، فهل هو أمرٌ صادم؟ لا تستعجلوا! فقد اقتصر "تقدمنا" المحدود بالفعل على الأدوات البسيطة - أي فورة معلوماتٍ رخيصة. ولأنّ الحضارة تتجنّب سلوك طريق المعرفة السريع، فإنّ نشرنا للعلم، وتدخّلنا في تفسير الكتاب المقدّس لن يكون كافياً لتغيير حامل الحضارة الرئيس، أي الاتجاه صوب الرفاهية لتحقيق الربح، وتكريس الجهالة.
يبقى الشيء الغريب: إنّ الكاتب رحل عنّا في العام التالي لانهيار الاتحاد السوفييتي، وقد أصبحت الحياة مناسبة لوضع نهاية الأبدية كما نريد نحن، ولوقف مسير الإثراء الذي لا يكلّ.
ولهذا فقط فإنّ القرن العشرين هو قرن آزيموف، ولهذا بالتحديد، آزيموف رجُلنا.

هوامش:
(1)ــ "الماراتون الخريفي": دراما/ فيلم – كوميدية حزينة سوفييتية عام 1979 فاز بجوائز في مهرجانات فينيسيا، وسيباستيان وبرلين.
(2)ــ روبرت هاين لاين-  (1908- 1988): ضابط بحرية متقاعد. كاتب خيال علمي أميركي. مهندس فضائي.
(3)ــ وكالة (DARPA) - وكالة مشاريع الأبحاث العسكرية المتقدمة Defense Advanced Research Projects Agency.
(4)ــ (Hugo): جائزة "هيوغو"، جائزة أدبية سنوية تمنح لأفضل كتب الخيال العلمي، تقدمها جمعية العلم الخيالي العالمية.
(5)ــ "بريد بيري"  (1920 - 2012): كاتب أميركي ألّف العديد من الروايات الخيالية العلمية وغيرها. حولت العديد منها إلى أفلام.
(6)ــ "ماري بوبينز" Mary Poppins: شخصية خيالية وردت في العديد من الكتب والأفلام (عودة ماري بوبينز- وداعاً ماري بوبينز- ماري بوبينز).
(7)ــ كلارك Emilia Isobel Clarke: ممثلة إنكليزية معاصرة لعبت أدوار سارة كونرز في فيلم الخيال العلمي"Terminator"، ودور كيرا في فيلم "solo" (قصة حرب النجوم). كما لعبت أدوراً في أفلام رومانسية عديدة.
(8)ــ شيكلي Robert Sheckley: كاتب خيال علمي أميركي (1928 - 2005) كتب 15 رواية وقرابة 400 قصة. أشهرها "الضحية العاشرة"، و"إحداثيات العجائب"، و"حرب النجوم الغريبة"، و"الفضائيون: حصاد الفضائيين".

***

عنوان المقالة الأصلية: Половина предсказаний сбылась/ تحققت نصف التوقعات.
صحيفة ليتيراتورنايا غازيتا.

ترجمها عن الروسية: سمير رمان.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.