}

نانسي هيوستن: لا ينبغي للأدب أن يصير أفيون النخبة

أليكس بيثينتي 2 فبراير 2020
ترجمات نانسي هيوستن: لا ينبغي للأدب أن يصير أفيون النخبة
"صدمتُ كثيراً بالرسوم الكاريكاتورية المعادية للمسلمين"
لم تكن الكاتبة الكندية نانسي هيوستن (كالغاري، 1953)، التي يعرفها القارئ العربي من خلال كتابها "أساتذة اليأس"، عضوة في أيّ جماعة أو تجمع. كانت تقف وحيدة في فناء المدرسة، خلال سنوات طفولتها، لأنّها ابنة معلّم كان يتنقّل باستمرار عبر الأراضي الكندية. وحتى عندما جاءت إلى باريس في السبعينيات، وصارت طالبة لرولان بارث، وتعرفت على الأوساط النسوية - ونشرت في مجلة "سورسيير" مع مارغريت دوراس وجوليا كريستيفا – لم تفقد مطلقاً تلك المسافة النقدية من الجميع. عاشت هيوستن في بلدها الثاني بالتبنّي، فرنسا، رفقة زوجها عالم السيميولوجيا تزفيتان تودوروف لمدة 40 عاماً تقريباً، وظلّت إلى اليوم من المفكرين الذين لا يمكن التنبؤ بمواقفهم، والمثقفين الذين لا يقفون أبداً على حياد.
في هذا الحوار، تتحدث كاتبة "خطوط الصدع" و"النوع الأسطوري" عن الهوية المعاصرة وتحرير المرأة (ومفارقاتها) والأزمة البيئية التي كانت تحذّر منها لسنوات. وهو حوار أجري معها بمناسبة صدور ترجمة كتابها الجديد إلى الإسبانية، "شفاه الحجر"، الذي تقارن فيه سنوات تكوينها بفترة حكم الدكتاتور بول بوت، زعيم الخمير الحمر، حينما تواطأ المثقفون الأوروبيون بصمتهم مع الإبادة الجماعية للشعب الكمبودي.
(*) هل تعتقدين أننا جميعاً مستبدّون محتملون؟
 - لا أعرف نساءً مستبدّات، وهذا يُلغي في الواقع نصف سكان العالم. لكن إذا توفّرت الظروف الصحيحة، بإمكان أيّ شخص أن يصبح ديكتاتوراً. كلّ ذلك يتوقّف على التعليم الذي تلقّاه. لم يكن بول بوتّ شريراً بهذا المعنى: إذ تتساوى مدرسة تيرافادا البوذية، الّتي تشجّع على عدم العيش في العالم بعواطف قويّة جداً، مع المرور بطفولة غير سعيدة. وهذه هي حالة هتلر، من زاوية أخرى.

(*) هل أُسيء فهم كتابك هذا أكثر من سابقيه؟
- إنّه يتضمّن انتقادات قاسية لجيلي، وأعتقد أنّني شعرت فيه بالهجوم عليّ حتّى من قبل أن أكتبه: لقد شاركنا في المأساة من خلال دعم نظام بول بوت، تماماً مثلما دعَّمنا الشيوعيين في فيتنام. في فرنسا، اتّبع المثقّفون الخطّ الرّسمي بالتّوافق التام. وهنا سأقحم نفسي: أنا أيضاً اتّبعت هذا الخطّ مثل خروف.

(*) ما الّذي بقي من الماركسية في نظرك؟
- تحليلها لنشوء الرّأسمالية واستغلال الطبقة العاملة دقيقٌ للغاية. المشكلة أنه سرعان ما ظهر التفاوت الطبقي في البلدان الشيوعية. وأعيد الملك أو القيصر إلى الحكم، مع حاشيته، وظهر رجال الدين الذين كانوا يتمتّعون بامتيازات هائلة. الفرق الوحيد هو أنّهم كانوا يسمّون بـ"أعضاء اللّجنة المركزية"، وليس البلاط...

(*) غادَرت والدتك البيت عندما كنتِ صغيرة. كيف أثّر ذلك في حياتك؟
- لقد أصبحتُ كاتبة. عشتُ في أماكن بعيدة، مثل لندن أو مدريد أو مايّوركا، بحيث لم نكن نتواصل إلّا بالرسائل مع البلد الأمّ كندا.
حاولتُ أن أجعل حياتي تبدو مثيرة للاهتمام وأن أكتب رسائل نابضة بالحياة. كان تصرُّفها شجاعاً جداً، وكانت نسويّة في وقت مبكّر. استغرق الأمر منّي سنوات، كنت خلالها أرى هذا الأمر غير مقبول. لكن كلّ شيء تغيّر عندما صرتُ أماً. حين رأيتُ مدى ارتباطي بابنتي، فهمتُ أنّ شيئاً عنيفاً للغاية قد حدث.

على الجميع التحدّث بلغة ثانية
(*) تؤلّفين كتبك باللّغة الفرنسية قبل ترجمتها إلى الإنكليزية. ما هي مزايا ازدواجية اللغة؟
- على الجميع التحدّث بلغة ثانية، لأنّه بفضلها نمتلك طريقة أخرى لفهم العالم والهويّة. لقد اعتقدتُ دائماً أنّها تمنحك ميزة في الحياة الأسرية، لأنّنا في هذه الحياة نميل إلى أن نصبح متوحّشين قليلاً. لهذا، فالتحدّث بلغة أجنبية يدفعك إلى التحضُّر.

(*) هل تقلقك حالة أوروبا؟
- ألاحظ نزوعاتٍ قومية وحمائية.
وأنا قلقة للغاية بشأن ما يحدث مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو ما يحدث في هنغاريا أو إيطاليا. ولكن من الصعب للغاية التنبّؤ بما سيحدث... أهمّ شيء في الوقت الحالي هو تغيرّ المناخ والباقي في خلفية المشهد تقريباً. نحن نتّجه نحو كوارث لم يسبق لها مثيل. في ردّة فعلها تجاه كارثة المناخ، تحاول أوروبا حماية نفسها جزئياً من المهاجرين القادمين من بلدان في أفريقيا والشرق الأوسط. سوف تتزايد هذه الهجرة. لا يمكن لأحد أن يتوقّع بالضبط كيف سيبدو العالم في 20 أو 30 عاماً.

(*) لماذا تأخّرنا طويلاً في اكتشاف هذه الأزمة؟
- مع تحذيرات العلماء الأولى، في السبعينيات، كان هناك جهد متضافر من قبل الاقتصاديين وبعض السياسيين لإثارة الانتباه. الشيء المهمّ هو أنّ الأغنياء يزدادون ثراء. أنا أوّل من يتحمّل مسؤولية هذه اللّامبالاة، لأنّني جزء من الجماهير الّتي يجب أن تهتمّ بالأمر. يجب أن يكون جيلي مثل جيل غريتا ثانبرغ.

(*) هل تعتقدين أنّ الوقت قد فات؟
- نحن نتّجه نحو أعداد كبيرة من الوفيات، لكن هذا لا يعني أنّها ستكون نهاية الكوكب. ستنجو الأرض لأنّها شُفيت سابقاً من الرعب. لقد شاهدتُ أنواعاً أخرى تظهر وتنقرض. وفي الماضي، عندما قرأت لشوبنهاور وهو يقول إنّه لا يهتمّ إذا اختفى الجنس البشري بدا لي ذلك أمراً وحشيّاً. الآن يبدو لي وكأنّه احتمال.

(*) هل المساواة بين الجنسين ممكنة؟
- ما نحتاج إلى معرفته هو أنّ المساواة لا تستبعد الاختلاف وأنّ هذا الاختلاف لا يستبعد المساواة. في فرنسا، كما هي الحال في العالم الغربي بأسره، تروج موضة حول نظرية الجندر تستبعد هذا الاختلاف. ما يسقط دائماً في غياهب النسيان هو الأمومة، وهي قضية أزعجت الذكوريين والنّسويات على حدّ سواء.
النّسويات كنّ غالباً محتقرات للمرأة. على سبيل المثال، على الرغم من أنّني قمت بالكثير من أجل قضية المرأة، يمكننا القول إنّ سيمون دي بوفوار كانت تحتقر المرأة. لم يكن يعجبها ما يشكّل خصوصية جنس الإناث في جميع أنواع الثدييات. يبدو لي أنّ هذه الرغبة في أن يصير الإنسان وعياً عقلانياً خالصاً هي جزء ممّا سوف يقودنا إلى نهاية العالم، على المستوى البيئي. نريد السيطرة على الحياة من البداية إلى النهاية، وهذا مستحيل أن يتحقّق.

(*) لماذا النساء مختلفات؟
- عندما تنضمّ امرأة إلى مجال معيّن يحدث تغيير. على سبيل المثال، عندما تكون الحكومة أقلّ ذكورية، فإنّها تتغير دائماً. في البداية، لكي يتمّ قبول النساء على قدم المساواة، يتعيّن عليهن إثبات أنّهن مطابقات للرجال. وبمجرّد وصولهن إلى السلطة، يتمكنّ من إبراز قِيَمٍ لم يبرزها الرجال تقليدياً. لقد رأينا ذلك مع أنجيلا ميركل، ومارغريت تاتشر.
(*) تدعمين هاشتاغ " #أنا_أيضاً"، وفي الوقت نفسه تنتقدين فيه بعض الجوانب. ما الذي لا يقنعك في هذه الحملة؟
- لقد اتّخذ الجدل حول النوع الاجتماعي المكانة الّتي كانت للماركسية ذات يوم. كما هو الحال مع الماركسية، تمّ تبنّي مواقف أرثوذكسية. لكي تتغيّر الأشياء، يجب أن يحرّر الرجال أنفسهم مثل النساء. من الجيّد للغاية محاربة الاعتداءات الجنسية، لكن يجب أن نذهب أبعد من ذلك. تتحمّل النساء مسؤولية مشتركة تجاه عنف الرجال، لأنّنا ما زلنا نتوقّع من الرجال أن يكونوا أقوياء ويدافعوا عنّا. إذا كنّا نريد مجتمع مساواة، فلماذا لا توجد نساء على جبهة الحرب؟
نانسي هيوستن : نحن محكومون بتغيير طريقة حياتنا في السنوات المقبلة
















السخرية من السكان المظلومين ليست
كالسخرية من الّذين يملكون القوة
(*) كنتِ من المفكرين القلائل الذين انتقدوا صحيفة "تشارلي إيبدو" بعد الهجوم الإرهابي عليها سنة 2015. بالنسبة لك، هل هناك حدود لحرية التعبير؟
- كان الهجوم على "تشارلي إيبدو" فظيعاً ومزّق جزءاً من أرواحنا، على الرغم من أنّ هذه الصحيفة لم تكن قريبة من قلبي، لأسباب نسويّة على وجه التّحديد... لقد وجدتها دائماً ذكوريّة وعنصرية فيما يتعلّق بالجنس.
 لكن مشكلة "تشارلي إيبدو" لا علاقة لها بحرية التعبير، فقد بدا من الخطأ الإصرار على ذلك. لا يمكن مطالبة الإرهابيين باحترام حرّية التعبير. يجب أن نسائل القوانين والحكومات. استغلّت "تشارلي إيبدو" حرية التعبير بطريقة لا أوافقها عليها. لقد صدمت كثيراً بالرسوم الكاريكاتورية المعادية للمسلمين، وهي تبدو لي عنيفة مثل الرسوم المعادية للسامية في ألمانيا في الثلاثينيات. حين يخبروننا بأنّ "تشارلي إيبدو" تسخر أيضاً من الكاثوليك واليهود، أُجيبهم بأنّ السخرية من السكان المظلومين ليست هي نفسها السخرية من الّذين يملكون القوة. أنا لا أقول إنّه فعل جيّد ولن أقول أبداً شيئاً فظيعاً كهذا، لكن يجب أن ندرك أنّ الكلمة والرّسم هما أيضاً من الأفعال.

(*) ما تقصدين هو أن نعرف كيف نستخدم حرية التعبير على أحسن وجه؟
- السؤال الذي لا نطرحه على أنفسنا هو: من يحقّ له ذلك؟ من يعبّر ومن يملك حقّ الولوج إلى وسائل الإعلام الّتي تسمح له بالتعبير عن نفسه؟ على سبيل المثال، كانت جميع الهيئات الصحافية في حوزة الرجال لقرون عدّة.
 كانت حريتهم في التعبير تقدّم النساءَ كعاهرات. وقد أثّر ذلك على العقليات وتربية الأطفال. سألني ابن زوجي، عندما كان في الرابعة من عمره، عن سبب خلع النساء ملابسهن دائماً، لأنّه كان يشاهد النساء في المحلّات التجارية بلباس خفيف. يحدث الشيء نفسه مع سكّان المنطقة المغاربية أو الشرق الأوسط: تمثّلاتهم تعزّز وجود الأحكام المسبقة.

(*) في إحدى المرّات، قلتِ بأنّك لم تعودي تؤمنين بفائدة الخيال. لماذا؟
- أنا أقلّ اقتناعاً بفائدة الخيال في المجال السياسي. أنا مندهشة من النخبة الأدبية. لا ينبغي للأدب أن يصير أفيون النخبة. يجب على الكتّاب مغادرة مكاتبهم والنزول إلى الشارع. نحن محكومون بتغيير طريقة حياتنا في السنوات المقبلة. على كلّ واحد أن يقرّر نسبة الوقت والطاقة الّتي يكرّسها للعمل الأدبي، قراءةً وكتابة، ونسبة الوقت الّتي يكرّسها لواجبه كمواطن.

(*) بالنسبة لك، هل يوجد الخير والشر؟
- لم أؤمن أبداً بالخير أو بالشر. أنا أجهل طبيعتهما. يجب أن تكون متديّناً قليلاً لتؤمن بهما. ينبع الخير والشر من أحكامنا، لأنّنا ملزمون بوجود نظام قضائي يقرّر ما هو ممنوع. ولكن لا بدّ أن أقول إنّني لا أستخدم تقريباً هذه المفاهيم في حياتي الشخصية...
 
[نشر بجريدة البايس الإسبانية قبل نحو شهر]
 
ترجمه عن الإسبانية: نجيب مبارك


مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.