}

أليساندرو باريكو: الثورة الرقميّة تعيد تشكيل الحضارة

يارل فان در بلوخ 15 فبراير 2020
تغطيات أليساندرو باريكو: الثورة الرقميّة تعيد تشكيل الحضارة
باريكو: لديَّ ولع لفهم مفردات العالم الذي أعيش فيه


بعد مجموعة مقالاته اللاذعة "البرابرة" 2006، والتي لاقت نجاحاً كبيراً، بسبّب ما تناولته من مناقشة التّأثيرات السّلبية العديدة للثّورة الرّقمية ومنصّات التّواصل الاجتماعي على حياتنا الرّاهنة، والتي ترجمت إلى أكثر من لغة منذ صدورها، ها هو الكاتب الإيطالي الشّهير أليساندرو باريكو (مواليد 1958) يقدّم لنا مجموعة مقالات جديدة تحت عنوان "اللعبة The Game"، وفيها هي الأخرى لا يتوانى عن إبداء رأيه في كلّ شيء حوله، بدءاً من واتساب ونتفليكس وصولاً إلى نادي أياكس الهولندي ومواقع البورنو.

لأليساندرو باريكو علاقة خاصة بنادي أياكس، ففي "البرابرة"، حيث سافر بقرائه كعالم أنثروبولوجيا عبر عالمنا سريع التّغير، شارحاً كيف يتطوّر نوعنا البشري ببطء، كرّس باريكو فصلين كاملين لكرة القدم الهولنديّة باعتبارها استعارة للرّغبة "البربرية" في الحصول على نهاية فوريّة، بدلاً من سلام "الرّوح الرّياضية" الذي خيّم طويلاً على منافسات اللعبة الأولى في العالم.
في النّهاية، كان ثمّة وقت تتطلّب فيه مشاهدة مباراة كرة قدم المعرفة والجهد اللازمين للاستمتاع بها. ترسّخت جماهيرية "اللعبة" أواخر ستينيّات القرن الماضي، لكن وحدهم أولئك الذين بذلوا قصارى جهدهم للحكم على المدافعين الإيطاليّين الأقوياء بناءً على مزاياهم القتاليّة، تذوّقوا في النّهاية جمال "اللعبة"، تماماً كما كان على قرّاء غوستاف فلوبير أن يفكّروا أوّلاً وبعمق قبل أن يدركوا جمال ما يكتب، وكما كان على عشّاق كأس من النّبيذ أن يتركوا السّائل يدور في أفواههم لفترة ما، ليتمكّنوا من تذوّق النّشوة الحقيقيّة لطعمه، وفوق ذلك، كان عليهم أن يتعلّموا طلب الجبن الفرنسي الملائم لنوع النّبيذ الذي يشربونه.
عندها، وفي السّبعينيّات، ظهر الهولنديّون - البرابرة - بطريقتهم المذهلة والجديدة في لعب كرة القدم، والتي كانت ممتعة ومفهومة للجميع، بمن فيهم غير الخبراء بـ"اللعبة".
حدث الشّيء نفسه في الأدب عندما ظهر "كُتَّاب في متناول اليد" مثل أومبرتو إيكو، الذي قُرئت كتبه كما لو كانت نبيذاً يُشرب. قبل ذلك بقليل، وتحديداً سنة 1966 تمّ تدشين أوّل خطوط إنتاج لـ"نبيذ هوليوود" في كاليفورنيا، نبيذ ذو لون جميل، له مذاق دائري غير منقوص، ومن دون طُعوم غريبة أو حادّة الحوافّ. نبيذ يسهل ارتشافه إلى جوار شريحة من الهمبرغر.
حقّق كتاب "البرابرة" شهرة عالمية لمؤلّفه القادم من مدينة "توراين" الإيطاليّة، وكان منذ صدوره في 2006 أحد أكثر كتب المقالات رواجاً ونجاحاً في أوروبا. ربّما بفضل وجهة نظر باريكو القائلة بأنّ: "المجتمع الهمجي ليس فقط أمراً حتميّاً، بل ربّما ينطوي على شيء من الإيجابية"، وهو ما تسبّب في شن حروب ثقافية مسلّحة ضده خلال الأعوام الـ 14 السّابقة، ومن قبل أسماء كبيرة لها وزنها بين النّخبة الفكريّة والثّقافيّة الإيطاليّة، تلك النّخبة التي لا تطمح إلّا إلى "النّقد الثقافي الجاد" من وجهة نظرها الأكاديميّة، وليس إلى "الملاحظات الإيجابيّة" حتى وإن جاءت من أحد أبناء النّخبة ذاتها.
أليساندرو باريكو، الذي يمكن اعتباره اليوم واحداً من أهمّ كتّاب إيطاليا منذ جيل إيتالو كالفينو وبريمو ليفي وأومبرتو إيكو، لم يهتم بكلّ هذه الحروب والانتقادات، وها هو الإيطالي الأكثر مبيعاً يقدّم كتابه الجديد "اللعبة"، والذي يعتبر الجزء الثّاني والمتمّم لكتابه السّابق "البرابرة"، وفيه يبدأ الحديث مباشرة عن كرة القدم مرّة أخرى، لكن هذه المرّة ليوضّح إلى أيِّ مدى تغيَّرت حضارتنا مع بداية الثّورة الرّقمية؛ منذ أن توصّل عدد قليل من الرّجال البيض في "وادي السّيليكون"(1) إلى ابتكار تقنيّات جديدة ستبدّل العالم.
وكما غيّر فريق يوهان كرويف (1947 - 2016) لعبة كرة القدم تماماً (2)، أعادت الثّورة الرّقمية هي الأخرى تشكيل حضارتنا، وبحسب ما يرصده باريكو: "من خلال هذا المزيج المثير من سهولة الحصول على المعلومات، وإيقاع الحرّية والسّرعة الذي يحكم لحظتنا المعاصرة، تشكّلت قطيعة موازية مع عقود كاملة من أنظمة الحجب والبُطء والانتقائيّة. هنا، تمّ اختفاء جزء صلب من العالم، وبدا أن قطاعات كاملة من ذوي الخبرة قد تمّ تجريدهم فجأة من الإطارات الشّكلانية القديمة عديمة الفائدة".

 أليساندرو باريكو:  المجتمع الهمجي ليس فقط أمراً حتميّاً، بل ربّما ينطوي على شيء من الإيجابية


















(*) ما هي "اللعبة" هنا بالضّبط؟
- "اللعبة" ليست مقالاً، لا هي رواية ولا عمل صحافي، ليست تقريراً أو فلسفة، وليست أيضاً كتاباً في التّاريخ. هي كلّ هذا في الوقت عينه. ربّما تشبه أكثر إعلاناً تشويقيّاً عن فيلم مثير. لكنّها في كلّ الأحوال ليست كتاباً يخبرك عبره الكاتب شيئاً يعرفه، أبداً، وأيضاً لا تزال النّتيجة النّهائية للعمل غير مؤكّدة بعد بالنسبة لي. كلّ ما أريده هو أن يتمّ تلقّي الكتاب باعتباره رحلة شخص ليس لديه أدنى فكرة عن المكان الذي سينتهي إليه. شخص يكتشف شيئاً جديداً كلّ يوم، ويستمرّ في الحفر والحفر، محاولاً وببطء تفكيك شفرة لغة حضارة مجهولة، هي نفسها حضارتنا. أنظرُ اليوم إلى Google بذات الطّريقة التي ينظر فيها عالم آثار إلى بقايا حضارة المينوا (3)، ومن ثمّ فالكتاب نوع من رحلة استكشافيّة تشبه ما كان يقوم به "إنديانا جونز" في السّينما. على أيّ حال، فإنّ هذا يعني أنّ الكتاب سيتمّ تصنيفه وفقاً للمكتبات تحت فئة كتب الخيال، في حين أنّه غير خيالي بالمرّة.

 

تأثير الثّورة الرّقمية على حضارتنا
(*) هل كان من الواضح لك منذ البداية أن "اللعبة" سيكون عنوان الكتاب؟
- لا، بدأت التّفكير في العنوان بعد أن وصلت إلى منتصف الكتاب، في البداية فكّرت في عنونته بـ"البرابرة 2" باعتباره عنوان عملي، فهو تكملة للكتاب الأوّل، لكن عندما وصلت إلى مقالة عن ستيف جوبز، والتي كنت أصف فيها كيف قدّم أوّل جهاز آيفون للعالم وهو "يلعب" مع اختراعه أمام الشّاشات، أدركت أن "اللعبة" ستكون عنواناً أكثر ملاءمة لمحتوى الكتاب ككلّ. وما أقصده من كلمة اللعبة" هنا، هو باختصار شديد فكرة أنّ ما نحياه اليوم لا يتعدّى كونه "لعبة" ما، فالكتاب يناقش التّأثير الهائل الذي أحدثته الثّورة الرّقمية على حضارتنا.
(في وقت مبكّر من 2006، لاحظ باريكو أنّ بداية همجيّة أيّ مجتمع غالباً ما تسبقها سلسلة من الابتكارات التّقنية، فبدون اختراع أجهزة التّكييف لم يكن بإمكانهم إنتاج نبيذ هوليوود في كاليفورنيا أبداً. اليوم، وبعد مرور 14 سنة، يقوم باريكو مجدّداً في "اللعبة" بتوضيح تلك النّقطة خطوة فخطوة، بادءاً من لعبة الكمبيوتر "Space Invaders" التي ظهرت سنة 1978، وهي اللعبة التي يعتبرها باريكو "الفقرة الصّفرية للثّورة الرّقمية". ثم يصف اللحظة التي ظهر فيها حاسوب "Commodore 64" في يناير/كانون الثاني 1982، الكمبيوتر النّاجح المبكّر، ثمّ لاحقًا Google، يشرح باريكو كيف تغيّرت الإنسانيّة كلّها أكثر بفضل وصول ويكيبيديا وأجهزة الآيفون، ويوضّح كيف غيرت نيتفليكس ومواقع البورنو حضارتنا بالفعل).
- مباشرة بعد أن أكملت "البرابرة" في 2006، عرفت أنّه سيأتي يوم وأكتب جزءاً ثانياً له، وها أنا أخيراً، وبعد مرور 14 عاماً من صدور "البرابرة"، أنتهي من "اللعبة". طال الأمر بسبب انشغالي بإنهاء روايتي "العروس الشّابة" التي ظهرت في 2015، ولكن بعد انتهائي منها عرفت أنّ هذه هي اللحظة المناسبة لاستئناف الكتابة في سلسلة المقالات ذاتها، حينها أدركت أنّ الكثير من الأمور تغيّرت حولي؛ كانت هناك هواتف ذكية وTwitter وSpotify وغيرها، لم أكن مهتمّاً حقّاً بكلّ هذه التّقنيّات الجديدة، بقدر اهتمامي بالطّريقة التي أثّرت فيها هذه التّقنيات على سلوكياتنا.
أتذكّر جيّداً أنّني أثناء التّحضير للـ"اللعبة"، كنت أتحدّث مع طالبة تبلغ من العمر 19 عاماً، وكان حديثنا حول الرّسائل النّصية، قالت: "أنا لا أستخدم الرّسائل النّصية إلّا إذا أردت إرسال شيء رسمي إلى شخص أو جهة ما، بمعنى أنّ الرسائل النّصية هي اليوم للأمور الرّسمية، أما مع أصدقائي فأنا أستخدم واتساب عادة".
حينها لم يكن لديّ أيّ فكرة عمّا كانت تتحدّث عنه هذه الطّالبة، وقتها قلت في نفسي: "ما هذه المخبولة"؟! لكن ما إن مرّت ثلاث سنوات فقط على هذه القصّة، حتى وجدت نفسي أفعل مثلها، على سبيل المثال، قبل بضعة أيام كان لديّ اتصال عبر الرّسائل النّصيّة مع أحد مساعدي الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بخصوص تحديد موعد معه، فيما صرت أستخدم واتساب مثلها للتواصل مع الأصدقاء والأهل، وجدت حينها أنّ هذا التّغيّر غير المنطقي على سلوكي الشّخصي كان رائعاً، فلطالما كان لديَّ الولع الكافي لفهم مفردات العالم الذي أعيش فيه.

  اليوم، و بعد مرور 14 عاماً من صدور "البرابرة"، أنتهي من "اللعبة"


















(*) كيف تعلّمت الكتابة؟

- كنت جيّداً في الكتابة مذ كنت طفلاً، لذلك عندما غادرت المنزل وأنا في سنّ الـ21 عاماً، قرّرت أنّ عليَّ من الآن فصاعداً أن أكسب مالي من الكتابة. لذلك فعلت كلّ شيء في عالم الكتابة: الصّحافة، الكتابة عن العروض الموسيقيّة، كتابة الإعلانات، البيانات السّياسيّة، المنشورات التي تصاحب الأدوية، كلّ شيء. وفي سنواتي العشر الأولى كشاب يعيل نفسه، تعلّمت أن أجرب وأدرس
أكبر عدد ممكن من أشكال الكتابة السّردية والقصّصية، قبل أن أقوم باختيار حقيقي ونهائي بينها، من تلك التّجربة تحديداً ولدت فكرتي لإنشاء هذه المدرسة التي نجلس فيها اليوم.
(هذا صحيح، فأليساندرو باريكو ليس روائيّاً فحسب، بل إنّه أيضاً مؤسّس ورئيس مدرسة "Scuola Holden" للكتابة في تورينو، وهي معهد ضخم لتعليم فنون وأساليب الكتابة، أقيمت المدرسة على أنقاض مبنى عتيق كان مصنعاً للأسلحة أثناء الحرب العالميّة الأولى، وتمّ تحويله اليوم إلى مدرسة ضخمة، تعجّ بشاشات العرض العملاقة وأجهزة كمبيوتر Apple التي تبرق، وتمتلئ خزائنها بجداول الفصول الدّراسية المعقّدة، و.. الكتب، الكثير والكثير من الكتب: "ظلّت القنابل والأسلحة الفتّاكة تُصنع هنا حتى انتهاء الحرب العالميّة الأولى، أمّا الآن فقد تحوّلت إلى مصنع للمتعلّمين"، أو كما يقولها باريكو بالإيطالية "Fabbrica Dei Ragazzi".
في مدرسته، التي يُطلقون على مكتب باريكو فيها اسم "غرفة المدير الأعلى"، يواظب 350 طالباً لمدّة عامين على دراسة فنون السّرد، ما يعني دروساً في لعبة Game of Thrones صباح كلّ خميس في تمام السّاعة 10:30 صباحاً، وصولاً إلى إلقاء محاضرات حول حملة أوباما الانتخابيّة عام 2012، ومناقشات لسلسلة كتب "مارفل" المصوّرة، إضافة إلى قسم كامل لدراسة المحتوى الرّقمي لجريدة الغارديان البريطانيّة، وكذلك دروساً في الأدب الكلاسيكي، ومن بينها دراسة رواية "الحارس في حقل الشّوفان" للأميركي جي. دي. سالينجر، والتي استوحت المدرسة اسمها "Scuola Holden" من اسم بطلها "هولدن كولفيلد").
- في هذه الرّواية تمّ طرد الشّاب هولدن من مدرسته، وكانت فكرتنا هي تأسيس مدرسة بديلة له لن تطرده أبداً، لهذا السّبب فإنّ هذه المدرسة لا تعترف بالعلامات أو بالامتحانات، ومثالاً على ذلك يحظر البدء في الدروس عندنا قبل السّاعة العاشرة صباحاً، لإيماننا بأنّ ساعات المساء والليل أكثر أهمية للكُتَّاب من ساعات الصّباح.

 

(*) وهل تكتب أيضاً في المساء؟
- عادة نعم. فالصّباح وقت مثالي لإعادة القراءة، لأنّك غالباً ما تكون متيقّظاً. أما الشّعور بالوحدة والتّركيز الذي تجده في الليل فيصعب توفيره خلال النّهار.

 

(*) وماذا تفعل في فترة ما بعد الظّهر؟
- انتهزها للعمل، هنا في المدرسة على سبيل المثال.
(بدأ باريكو عمله على إنشاء مدرسة "Scuola Holden" منذ 25 عاماً مع أربعة من أصدقائه، وهو الآن معهد ضخم يدرّس الطّلاب فيه مجموعة من أكبر المخرجين والصّحافيين ومطوّري الألعاب التّكنولوجيّة وصانعي التّلفزيون في إيطاليا، وباريكو إلى جوارهم بالطّبع، بوصفه أحد أهمّ الكتّاب والمثقّفين في بلده. وبسبب انشغالاته الكثيرة هذه، فقد تمّ تأجيل هذه المقابلة مرّتين. المرّة الأولى بسبب انشغاله بالكتابة، والمرّة الثّانية بسبب موعد مع الرّئيس الفرنسي ماكرون).

 

النخبة والعالم الجديد
(*) أنت أيضا نخبوي جداً، إن سمحت لي بقول ذلك.
 - هذا صحيح.

 

(*) كيف إذاً شعرت النّخبة التي تنتمي إليها في 2006 أنّك تهاجمها في كتابك "البرابرة"؟
- أعتقد أنّ كتاب "البرابرة"، مثله مثل "اللعبة"، جاء نتيجة ما يمكنني تسميته الآن بـ"انزعاجي" الشّخصي؛ في كلتا المرحلتين، رأيت أنّ جزءاً كبيراً من المثقّفين الإيطاليّين لا يرغبون ببساطة في فهم العالم الجديد، بل قاموا بحماية أنفسهم من الواقع واستمرّوا في تحيّزاتهم القديمة. لديّ ميل إلى شرح سبب ردّ فعلهم العنيف وغير المبرّر ضدي، وهو بالطّبع ما استنتجته في "البرابرة" من أنّ أيّام هذه النّخبة صارت معدودة، لعدم اهتمامهم بفهم العالم الذي يعيشون فيه.
"لقد تأزّمت النّخبة الفكرية في إيطاليا بعد صدور "اللعبة""، يجادل باريكو مُضيفاً: "في الوقت الحالي، هناك جزء كبير من النّخبة الفكريّة تُخاطر بفقدان كلّ شيء، أو أنّها فقدت بالفعل كلّ شيء، لأنّ "اللعبة" نشأت أصلاً من الرّغبة في العيش بدون نخبة".
"اللعبة" إذن "تحرّرية" في الأساس، أو كما يقول باريكو: "معظم الأدوات التّكنولوجية التي نعرفها اليوم اخترعت أصلاً لسحق القوّة عن طريق إتاحتها للجميع، والكمبيوتر هو أفضل مثال على ذلك، بعدما صار في جيب كلّ فرد تقريباً اليوم، والذي أتاح للجميع الوصول إلى المعلومات بسهولة، كما صار في إمكان أي فئة التّواصل مع الآخرين بيسر، وأيضاً إبداء آرائها علناً وبحرّية في كلّ شيء، إذاً فإن جميع الإجراءات التي كانت تخصّ النّخبة حصريّاً قبل الثّورة الرّقمية، صارت بفضل "اللعبة" مشاعاً للجميع، وصار احتكار النّخبة لها من أوهام الماضي".

 

(*) إذاً ماذا سيحدث للنّخبة التي تنتمي أنت إليها، تلك الخاصة بالكُتَّاب تحديداً؟
- لقد تغيّر الكثير بالنّسبة لنا أيضاً، لكن المدهش أنّ قلب مهنتنا ظلّ على حاله، على الرّغم من أنّ صناعة الكتب قد تغيّرت تماماً، على الأقلِّ تجاريّاً - فالمبيعات تتمّ اليوم عبر أمازون وليس عبر متجر الكتب - إلا أنّه لا يزال يتعيّن عليك كتابة شيء جيّد لتتمكّن من إثبات أنّك كاتب جيد. بالنّسبة لنا نحن الكُتَّاب، زادت المنافسة بين أشكال السّرد المختلفة، لا سيّما تلك القادمة من عالم المسلسلات التّلفزيونيّة، والتي أصبحت تقدّم لنا اليوم ما كانت الرّواية حتى منتصف القرن التّاسع عشر تقدّمه لقرّائها: السّرد القصصي الممتاز، لكن لا تزال المقاومة التي يبديها الكتاب الورقي كبيرة، صحيح لم نعد في مركز العالم، لكنّنا لا نزال هناك.

 

(*) هل هذا هو السّبب أيضاً في نجاح مدرستك للكتابة؟ أفترض أن معظم طلّابك يدركون أنّ الكتب لا تنسجم حقّاً مع المستقبل الذي تصفه الآن. تبدأ من الصّفحة الأولى لتنتهي في الصّفحة الأخيرة، وفي الوقت نفسه لا يمكنك فعل شيء سوى القراءة من اليسار إلى اليمين. أليس هذا مملّاً؟
- لا يأتي كثير من الطّلاب إلى هذه المدرسة على الإطلاق بفكرة أن يصبحوا كُتَّاباً كباراً فيما بعد، يتعلّم معظم الطّلاب هنا أنّ الكتابة هي إعداد يمكنك البناء عليه لاحقاً، وأنّ تعلّمها يشبه دراسة الفلسفة. نحن فقط نعلّمهم الأسس الجيّدة التي يمكنهم اكتسابها ليكونوا كُتَّاباً إن أرادوا، ولأنّ الكتابة تساعدهم على اكتشاف هوّيتهم الخاصة، فهي أيضاً تجعلهم قادرين على التّفكير وتقدير الجمال، وهذا أمر أساسي، حتى إذا كانوا يريدون التّركيز على السّينما أو كتابة المسلسلات التّلفزيونيّة أو التّخصّص في ألعاب الكمبيوتر أو الصّحافة، يوجد العديد من الطّلاب هنا لن ينشروا كتاباً أبداً، وإذا ذهبت إلى الممر الآن، فإن ثلثي من ستراهم لا يفكّرون في كتابة الأدب أصلاً.

 

(*) ما الكتاب الأكثر قرباً إليك: "البرابرة" أم "اللعبة"، أو ربّما هناك تتمّة حتميّة ستكتبها بعد عشر سنوات مثلاً؟
- الكتابان يشكّلان بالنسبة لي كتاباً واحداً، ومهمّان بالقدر نفسه عندي. وبالمناسبة، لست متأكّداً على الإطلاق من أنّه سيكون هناك جزء ثالث. ذلك لأنّ هذه النّوعية من الكتب هي التي تسبّب الإجهاد الذّهني الغبي لكاتبها، بل تعمل على تفتيته ببطء وتحويله إلى قطع صغيرة، فأثناء اشتغالك على هذه النّوعية من الكتب تفكّر في كلّ شيء دفعة واحدة، وهذا مرهق جداً، أنا نفسي مرضت عند مرحلة معينة كنت فيها دائم الاستيقاظ في الثّالثة صباحاً بسبب أفكار جديدة يجب أن أكتب عنها!

النسخة الهولندية من اللعبة- آخر كتب باريكو 


















هوامش:
(1) "Silicon Valley": منطقة صناعيّة في الجزء الجنوبيّ من خليج سان فرانسيسكو شمال كاليفورنيا، تشكّل اليوم مركزاً عالمياً للتّكنولوجيا المتقدّمة وابتكار وسائل التّواصل الاجتماعي.
(2) Johan Cruyff: لاعب كرة قدم ومدرّب هولنديّ، فاز بجائزة الكرة الذّهبية ثلاث مرّات: 1971 و1973 و1974، وقاد منتخب هولندا إلى نهائي كأس العالم عام 1974.
(3)  حضارة المينوا: قامت في جزيرة كريت وجزر بحر إيجة الأخرى، ازدهرت من 2700 إلى 1450 قبل الميلاد، وانتهت حوالي 1100 قبل الميلاد. وتمثّل أوّل حضارة متقدّمة في أوروبا، خلّفت مجمّعات بناء ضخمة وأعمالاً فنية مذهلة، إضافة إلى أنظمة كتابة وشبكة معقّدة من طرق التّجارة.

 

ترجمه عن الهولندية: عماد فؤاد

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.