قتل وتقطيع وحرق
في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2018، نشرت وكالة رويترز للأنباء تقريراً يتناول أحداث مقتل خاشقجي، بناء على معلومات قدمها مسؤول سعودي طلب عدم الكشف عن هويته. وجاء في التقرير أن فريقاً سعوديّاً من 15 شخصاً، كانوا قد وصلوا من المملكة السعودية لينتظروه في الداخل بهدف إقناعه بالعودة إلى السعودية، بعد أن صدر أمر باستعادة خاشقجي بالإقناع وإن لم يقتنع يعاد بالقوة. غير أن المناقشات داخل القنصلية تطورت إلى أقصى مداها حين ارتفع صوت خاشقجي وتحول الأمر إلى شجار وتشابك بالأيدي وأصيب فريق الإقناع بالذعر خوفاً من افتضاح أمرهم.

كان حادثاً مروعاً، أدى إلى تداعيات خطيرة وسؤال عن الحريات في المملكة العربية السعودية وإنهاء خدمات عدد من الضباط بالاستخبارات العامة السعودية وعزل سعود القحطاني، المستشار بالديوان الملكي، وتشكيل لجنة لإعادة هيكلة رئاسة الاستخبارات العامة السعودية. وأعلنت المملكة عن التزامها بتقديم جميع المتهمين إلى العدالة، ومحاسبة جميع المتورطين "بالحادثة"، فيما أعلن البيت الأبيض في بيان رسمي عن متابعة التحقيقات على المستوى الدولي.
وفقاً لرواية الحكومة فقد حاولوا إسكاته بكتم أنفاسه، وهو ما أفضى لوفاته خنقا، "نتيجة إصرار جمال على رفع صوته ومغادرة المكتب ومحاولتهم فحسب تهدئته، لكن الأمر تحول إلى عراك بينهم، ما اضطرهم لتقييد حركته وكتم نفسه فمات مختنقا وهو أمر ليس بغريب على من في مثل سنه، إذ شارف الستين، أما عن نية القتل فقد تم إنكارها تماما".
وبينما أشادت معظم دول العالم بنتائج التحقيقات الأولية، صرحت سماح حديد، مديرة حملات منظمة العفو الدولية في الشرق الأوسط، برفضها لتلك النتائج وأصدرت بياناً قالت فيه" إن نتائج التحقيق التي تزعم أن خاشقجي توفي إثر "مشاجرة" داخل القنصلية ليست جديرة بالثقة وتشكل تدهوراً جديداً لسجل حقوق الإنسان في السعودية"، وحثت الأمم المتحدة على التحقيق في وفاته. مطالبة السعودية بتقديم جثة خاشقجي ليتسنى لخبراء البحث الجنائي المستقلين إجراء تشريح لها.

يروي الفيلم، إلى جانب قصة القتل المدبرة بعناية، تفاصيل البحث المعقد عن الحقيقة خلال الفترة المنصرمة والتي امتدت 16 شهرا  (Getty)

الحقيقة بالصوت والصورة
منذ أيام، كتبت صحيفة "واشنطن بوست" عن فيلم وثائقي يتناول تفاصيل مقتل الصحافي الذي كان يعمل بها تحت عنوان "المنشق". الفيلم من إخراج برايان فوغل، المخرج الأميركي الحائز على جائزة الأوسكار 2018 عن أفضل فيلم وثائقي "إيكاروس"، وتم عرض "المنشق" في مهرجان صندانس السينمائي الأميركي يوم الجمعة 24 يناير/كانون الثاني.

وكانت الصحيفة قد ذكرت في تقرير لها نُشر قبل العرض الأول للفيلم "كان مقتل جمال خاشقجي عام 2018 حدثاً تاريخياً… والآن من المتوقع أن يتحول إلى شيء آخر: حدث سينمائي".
وأعلن فوغل بدوره قبل عرض الفيلم بأسبوع أن هذه القصة جذبته وهو يعمل في فيلم "سكاي والكر رانش"، في أراض تقع شمالي كاليفورنيا، و"أنها قصة نظام قمعي، فلدينا صحافي مقتول، وهناك خطيبة تنتظر العيش معه بحب، وهناك أيضا تواطؤ أميركي. إنها قصة تهز كل الأحاسيس والمشاعر هزا عنيفا".

يروي الفيلم، إلى جانب قصة القتل المدبرة بعناية، تفاصيل البحث المعقد عن الحقيقة خلال الفترة المنصرمة والتي امتدت 16 شهرا، علاوة على شهادات من محققين أتراك عن الكيفية التي تم بها ارتكاب جريمة القتل وطمس معالمها، منها مثلا أن جثة المغدور به تم نقلها إلى فرن في منزل القنصل العام وإحراقها. واتضح أن القنصلية في ذلك الوقت اشترت 70 رطلاً من اللحم من مطعم محلي، لإخفاء رائحة الجثة المحترقة.
كما يتضمن الفيلم مقابلات مع شخصيات مثل خطيبته التي كانت تنتظره خارج القنصلية لحظة قتله، وأخيه، وعدد من الوجوه التي تعمل في "واشنطن بوست"، بما في ذلك الكاتب ديفيد إغناتيوس، والمراسل شين هاريس، والناشر فريد ريان. بالإضافة إلى مقابلات مكثفة مع عمر عبد العزيز، الناشط الديمقراطي الذي فر من المملكة العربية السعودية قبل مقتل خاشقجي ويعيش في مونتريال بكندا.
وفي القسم الأخير من الفيلم، وبموضوعية شديدة، يفضح فوغل الشركات الأميركية التي تواصل العمل مع المملكة العربية السعودية، مع إبراز دور المصالح التجارية الغربية في تمكين الأمير محمد المتهم بإعطاء أمر قتل خاشقجي من الحكم في السعودية.

القرصنة ببرامج خبيثة
يعرض الفيلم كذلك لجريمة القرصنة عبر برنامج بيجاسوس لشخصيات رئيسية في الغرب ومن أهمها جيف بيزوس، الذي كان يخطط لبناء مراكز بيانات كبيرة خاصة بشركته "أمازون" في المملكة العربية السعودية، وأوقفها بعد عملية قتل خاشقجي. ويكشف ديفيد كاي، أحد محققي الأمم المتحدة في الفيلم، بأن عملية القرصنة تمت عبر إرسال الأمير محمد ملف فيديو إلى بيزوس من تطبيق واتس أب في نيسان/أبريل 2018 والذي يبدو أنه كان يحتوي على برامج خبيثة أدت إلى تسرب بيانات من هاتف بيزوس.
في هذا الصدد يقول فوغل: "شيء صادم أن يتمكنوا من اختراق شخص مثل جيف بيزوس، بما لديه من خبرة طويلة في مجال الأمن السيبراني، ولكن في ضوء ما نعرفه في القصة الإجمالية وما فعلوه بجمال خاشقجي، فهو أمر منطقي للغاية".

يتضمن الفيلم مقابلات مع شخصيات مثل خطيبته التي كانت تنتظره خارج القنصلية لحظة قتله، وأخيه، ومجموعة من الوجوه بـ "واشنطن بوست" (Getty)

سطوة الصورة
اتسم فيلم فوغل بطابع درامي وإخباري، فضلا عن انتقادات أخلاقية لاذعة، وظهر الجانب المؤثر فيه في قصة الحب بين خاشقجي وخطيبته، التي عندما تفكر فيما حدث، يبدو عليها عدم التصديق فتقول "لم يخطر ببالي مطلقا أن بوسعهم قتل الناس في القنصلية، لم أصدق ذلك".

وعقب عرض الفيلم مباشرة أثار ردود فعل قوية لدى الجمهور، الذي ورد على لسان البعض منهم أنهم لم يكونوا يعرفون أن هذه هي القصة الحقيقية. كما لعب دورا في دفع الأمم المتحدة إلى نشر استنتاجاتها بشأن الاختراق السعودي لهاتف مؤسس شركة أمازون جيف بيزوس، وهو التقرير الذي وصفه وزير الخارجية، الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، بأنه "سخيف للغاية".
المحققة الأممية أنييس كالامار، التي أجرت مقابلة في الفيلم، صرحت أيضاً بأنها تعتقد أن خبر اختراق الهاتف ليس سوى بداية لتأثير الفيلم، وأن الفيلم أقوى بكثير من أي تقرير تستطيع أن تكتبه لإيصال القصة إلى عدد كبير من الناس. كما أشارت إلى أن محكمة الرأي العام شكل من أشكال المحاسبة رغم اختلاف إجراءاتها عن الإجراءات القضائية. أما مخرجه فيطمح إلى مزيد من التداعيات مع عرض الفيلم في جميع أنحاء العالم، كأن تشعر الشركات مرة أخرى بالضغط فتتراجع عن شراكاتها مع الدولة النفطية القمعية.