}

ذكرى ألدوس هكسلي..لا شيء أهمّ من حريّة التفكير

ألكسندر ليفرغانت 25 سبتمبر 2019
ترجمات ذكرى ألدوس هكسلي..لا شيء أهمّ من حريّة التفكير
هكسلي الكاتب الإنكليزي الأعظم بالنصف الأول من القرن العشرين
في 26 تموز/يوليو الماضي، مرّت الذكرى 125 لولادة الكاتب الساخر والروائي والفيلسوف الإنكليزي ألدوس هكسلي (Aldous Huxley). ولد هكسلي في إنكلترا في 26 تموز/يوليو 1894، ومات في لوس أنجلوس/الولايات المتحدة الأميركية عام 1963. من أهمّ أعماله الرواية الشهيرة "أيها العالم المدهش الجديد".

كان هكسلي إنسانياً، وكاتباً ساخراً، وواحداً من أنصار أيديولوجية مقاومة العنف بهدف القضاء عليه (pacificus / lat.). ولاحقاً بدأ اهتمامه ينصبّ على المسائل الروحية، مثل التخاطر في علم النفس Parapsychology))، فلسفة التصوّف (Mysticism)، وبشكلٍ خاصٍّ الشمولية (Universalism) (عكس الفردية). وفي آخر أيامه حصل هكسلي على اعترافٍ واسع كمفكرٍ رائدٍ في عصره. ورشّح عدة مراتٍ لجائزة نوبل (أعوام 1938، 1939، 1955، 1960، 1961، 1963).
بهذه المناسبة كتب رئيس تحرير صحيفة الأدب الأجنبي الروسية "إيناسترانّايا ليتيراتورا"، ألكسندر ليفرغانت، مقالةً في صحيفة " ليتيراتورنايا غازيتا/ الأدب الروسي" بعنوان "لا شيء أهمّ من التفكير بحرية"، تحدّث فيها عن هذا الكاتب الكبير.
هنا ترجمة له:

لنمعن النظر في صورة الكاتب الإنكليزي الأعظم في النصف الأول من القرن العشرين من خلال مضمون سلسلة من رسائله. فالرسالة وسيلة رائعة لتوصيف الحياة. وإبداع هكسلي أقلّه في مرحلة ما قبل الحرب معروفٌ أفضل بكثير من تفاصيل حياته خلال المدة (1910 – 1930).
أمامنا صورة شخصٍ متشائمٍ، ملحدٍ، كارهٍ للجنس البشري، عاشقٍ للحرية، إنّه رجلٌ مدمنٌ ومتناقض. وهو في كلِّ شيءٍ - في جميع أعماله، إبداعاته واهتماماته - شخصيةٌ متعددة الجوانب، واسع الإبداع، علميّ، مفكّرٌ وذو طيفٍ إنسانيّ.

في أوّل رسالة (لم يتجاوز عمره حينئذٍ الرابعة عشرة)، وبالضبط كما فعل ستيفنسون في "جزيرة الكنز"، يعطي هكسلي تعليماتٍ لزملائه في الصف بشأن كيفية إيجاد كنوزٍ "لا تحصى" كان قد أخفاها في المدرسة. تضمّنت الرسالة تهديداً قاسياً: "إياكم وإضاعتها". وفي رسالته الثانية (عام 1908)، وقد ازداد حكمةً من خلال تجربته الدراسية في مدرسةٍ داخلية، ينصح هكسلي ابن عمّه كيف يتعامل بأسلوبٍ فعّال مع أحد تلامذة الصفوف العليا: كسر دزينتين من البيض، ومن ثمّ صبّها مع الشاي في حمّام "الجدّ" - من الصفوف الأعلى.
رغم أنّ حياته لم تكن مؤاتيةً للضحك إطلاقاً - بسبب موت والدته المبكّر، انتحار أخيه، انفصال الشبكية-، فقد كان الفتى الهازئ يستعرض على مسافةٍ مثيرة للإعجاب سخرية تتراوح بين فكاهة شفيكوفسكي الناعمة، وفكاهة أوليفر اللاذعة. كان الوصف، الذي تضمنته رسالته لأبيه، لمركز تجميع المجندين في بداية الحرب، تذكّر بالفعل بتحفة يارسلاف هاشيك: "لا أعرف لماذا احتاج الطبيب أن يعرّيني تماماً ليفحص نظري". تتضمن الرسائل عدداً لا بأس به من الفكاهات بنكهةٍ مختلفةٍ تماماً. يكتب هكسلي من أكسفورد لأخيه جوليان حول عظات القسّ المحليّ: "بالطبع، فقط أولئك الذين أُنقذت أرواحهم بالفعل هم من يصغي إلى الموعظة - بينما يفضّل الساخرون شحذ أسنانهم الاصطناعية، وهم يجلسون بسلامٍ وسكينة قرب المواقد".
وفي رسالةٍ أُخرى لأخيه جوليان عام 1916، يسخر التلميذ هكسلي من أصحاب المقامات العالية أيضاً، حيث يقول: "عندما أخبروا عضو البرلمان السير ويليام بايلز بماذا تشتهر جزيرة ليسبوس اليونانية، غضب غضباً شديداً وأبدى خوفه من أن تفسد سلالة سابفو(*) جنود الإمبراطورية البريطانية". وإليكم سخرية آنيّة خالصة: "أقترح أن يتمّ حرمان أيّ أستاذٍ من أكسفورد، يلقي محاضراتٍ، أو يكتب مقالات، أو يؤلّف كتباً عن البلقان.... من جميع ألقابه العلمية، وطرده من الجامعة على الفور".
السخرية والتشكيك ربما كانت النبرة الرئيسة في رسائل هكسلي في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وفي كثيرٍ من الأحيان تكون جزءاً منه هو نفسه: "نظارتي ضخمة، وبها أعتقد أنّ سحنتي أصبحت" يونانية - رومانية متفاخرة. كما وصل الأمر به إلى درجة السخرية من موهبته مصحوبةً بشيءٍ من الغنج: "أشعر برغبةٍ شديدة بالتقيؤ عندما أرى أشعاري"- كتب عن أوّل مجموعاته الشعرية "العجلة الساخنة" التي كانت بالفعل ليست على درجةٍ عالية من الجودة.


تنبؤات مروّعة
كان هكسلي يمزح ويسخر كثيراً، ومع تقدّمه في العمر، وازدياد بوادر نشوب الحرب العالمية، أصبح مزاجه الانعزاليّ، الذي يتصف به فعلاً، يزداد وضوحاً، ويبرز بصورةٍ أقوى وأشدّ. وبالكاد كانت رسالةٌ من رسائله تخلو من تنبؤاتٍ مروّعة فيها كثير من المبالغة، كما يظهر من رسالته لـ"غيلغود" عام 1917: "مستقبل العالم، شعاع العزاء الوحيد في مستقبلٍ ميؤوسٍ منه.... سيظهر جيلٌ من الكائنات البشرية، غير القادرة على التفكير، أو العمل، وستكون ضحيةً فوضى غير مسبوقة... يُخيّل إليّ أنّ مستقبل الكون سيكون ضبابياً، إن لم يكن شريراً". بالطبع، يعود أساس هذه التنبؤات غير المبهجة إلى عدم الثقة بالإنسان: "حبّذا لو نجد وسيلةً ناجعة ضدّ الشرور، التي بمقدور الكائنات البشرية ارتكابها"- يكتب عام 1931 لفلوريه ستروس.
في ضوء هكذاِ "آفاق مشرقة"، تتزايد الشكوك، وتغيب الأوهام لديه بشأن السياسيين الأوروبيين، فقد كتب (في رسالةٍ إلى أخيه في 24 أيار/ مايو 1918): "بصورةٍ عفوية، يتساءل المرء: ما الذي يتصف به حكامنا أكثر - الغباء أم الفساد". وفي عام 1932، يكتب باستهزاءٍ أنّ ظهور "عالمٍ جديد رائع" لن يكون أمراً مفاجئاً!!

السخرية، التشاؤم، الانطوائية - ليست هي الألوان الوحيدة التي تكسو صورة ألدوس هكسلي التي تنضح بها الرسائل. جميع الناس مكونون من تناقضاتٍ، أمّا الشخصيات فإبداعية بشكلٍ خاصّ. على الرغم من ضعف مقدرته على الرؤيا، فقد كان هكسلي حادّ البصيرة كعالم نفس، لدرجة يمكن أن يحسد معها على بصيرته السيكولوجية العميقة والدقيقة. كتب لفلوريه ستروس ما يلي: "ليست هناك نصيحة أكثر غباءً من "اعرف نفسك". ولئن أمضيت الوقت في معرفة نفسك، فإنّك لن تعرف شيئاً أبداً، لأنّ "الأنا" التي تملكها موجودة فقط مرتبطة بالظروف خارج "الأنا" التي تعود إليك". بالإضافة إلى دقّة الملاحظة التي يتمتّع بها هكسلي، فإن رجاحة عقله تتلازم مع السذاجة، الظاهرة في العديد من رسائله. كتب في بداية عام 1915 رسالةً لأخيه، جاء فيها: "أتمنى أن تنتهي الحرب بحلول أيلول/ سبتمبر". وبالمناسبة، لم يكن هكسلي الوحيد في تلك السنوات الذي عانى من مثل تلك الروح الرائعة. والسذاجة الأكبر ستظهر في ما بعد في اهتمامات الكاتب، وقد نضج واشتد عوده، بأفكار (Pacifism) الحركة الاجتماعية المناهضة للجوء إلى الحرب لحلّ النزاعات السياسية (والتي تتقاطع غالباً مع مناهضة سياسات التسلّح)، والتي رأى يوماً أنّها الترياق لجميع المصائب.
إنّ هذه الأفكار وكثير غيرها من النظريات والتكهنات - الاستفزازية (كما يمكن أن يعبَّر عنها هذه الأيام) - سكبها هكسلي في رسائل، يضعها أمام محكمة مراسلاته، وكأنّه يختبر متانة هذه الأفكار (والمراسلات). وبهذا الشكل، تكون رسائله منصة مناقشاتٍ غريبةً نوعاً ما. وفي الوقت نفسه، هو شخص موسوعيّ الثقافة، يُنوِّر أولئك الذين يتبادل معهم الرسائل. فهو يشاطرهم الأذواق والأولويات. ويعطي أيضاً الكتّاب الأقلّ تجربةٍ دروساً في مهارة التأليف الأدبي. ويشرح، على سبيل المثال، لأبيه الذي لم تعجبه "رقصة المهرّج"، جوهر طبيعة الإبداع في القصة: "من وجهة نظرٍ فنية، تتميّز رقصة المهرّج بحداثةٍ معيّنة، ففي هذا المؤلّف نرى كل العناصر - المأساوية، الهزلية، الخيالية، والواقعيّة- متحدةً في مشتركٍ ما، وهي العناصر التي تتواجد تقليدياً متفرّقة، منفصلةً إحداها عن الأُخرى.....".
وهكذا كانت حال رسائل هكسلي خلال الأربعين عاماً الأولى من حياته، فهي يمكن أن تكون أيضاً متحدةً في مشتركٍ ما. فالكاتب شخصٌ مدمنٌ على أمرٍ ما، متناقض، يغيّر آراءه بسرعة وبشكلٍ متكرّر. ولكنّ "نظرة" واحدة تبقى ثابتة - وهي حرية التفكير وليس حرية الفعل "مع نقاطٍ بعد هذه الكلمات...."، إنّما بالتحديد حرية الفكر. "في حياتنا - ينوّه ذات مرَّة- ليس هناك شيءٌ أكثر أهميةٍ من حرية التفكير". وهذه الحرية، ربّما تكون الخصلة المميّزة الرئيسية لإرث ألدوس هكسلي، ولكلّ إبداعه الفنيّ والعلميّ.

(*) سابفو: شاعرة وكاتبة وموسيقية يونانية، كانت محط إعجابٍ كبير من الشعراء والفنانين اليونان، اتخذت من جزيرة "ليسبوس"، التي أعطت اسمها للنساء اللاتي يمارسن الجنس في ما بينهن، مقراً لها. عاشت في القرن السادس قبل الميلاد. تناولت أشعارها الحبّ والشغف بشخصياتٍ من الجنسين (أصبحت لاحقاً رمزاً للحبّ بين النساء)، وأسست جمعية لتعليم الفتيات الغناء والموسيقى وقرض الشعر (المترجم).

رابط المقال: https://lgz.ru/article/-30-6699-24-07-2019/net-nichego-vazhnee-chem-svoboda-myslit/

ترجمه عن الروسية: سمير رمان

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.