}

سفيتلانا أليكسيفيتش: نعيش بمجتمع عسكري والحرّية مسلسل طويل (2/2)

29 يوليه 2019
ترجمات سفيتلانا أليكسيفيتش: نعيش بمجتمع عسكري والحرّية مسلسل طويل (2/2)
سفيتلانا أليكسيفيتش في فرنسا (18/1/2005/Getty)
تحبّ سفيتلانا أليكسيفيتش (1948، ستانيسلاف) وصفَ أعمالها بأنّها "مشروع اجتماعي"، عملت على تطويره لمدّة 40 عاماً. تقول إنّه "مشروع اجتماعي" بغير قليل من التواضع والتحفّظ فيما يتعلّق بهذا المفهوم، وهذه ميزة مرحّب بها دائماً في عالم يسوّق باستمرار لعجرفة ما لا يحصى من الأسماء الثقافية الكبيرة، لكنّه مع ذلك مفهوم لا يكفي لتحديد طبيعة عملٍ استثنائيّ وأساسيّ في الأدب وفي التاريخ، يتجلّى بوضوح من خلال كتب أليكسيفيتش الّتي قدّمت بشكلٍ رائع صورة عن العالم المعقّد والمأساوي المحيط بها، عندما اختارت لكلماتها أن تنقذ أصواتَ رجالٍ ونساء كانوا من أبطال تلك التجربة الاجتماعية والسياسية والتاريخية العظيمة الّتي تمخّضت عن الثورة الروسية عام 1917.
صاحبة نوبل الآداب عام 2015، المنحدرة من أسرة تمتهن التعليم، درسَت الصحافة في الجامعة، وعلى مرّ السنين أصدرت العديد من الكتب التي تمثّل مجهوداً هائلاً وأصيلاً، يستند فقط إلى الموهبة والمثابرة والحساسية، من بينها: "ليس للحرب وجهٌ أنثوي" (1985)، حيث لأوّل مرّة تعبّر النساء الرّوسيات عن وجهات نظرهنّ بخصوص ما حدث خلال الحرب العالمية الثانية؛ "فتيانُ الزنك" وتروي فيه أمّهات الجنود قصّة الغزو السوفييتي (1989)؛ "صلاةُ تشيرنوبيل" الّذي تعدّ بمثابة وصف كوراليّ صادم لمأساة النّاجين من الكارثة النووية الّتي وقعت في أبريل  1986 (1997)؛ "نهايةُ الإنسان الأحمر" الّذي يروي تفكّك يوتوبيا الإنسان الجديد (2013)؛ "آخر الشهود" الذي يتضمّن شهادات أطفال الحرب العالمية الثانية (2016).
إذا كان معظم القرّاء في العالم قد تعرّفوا على اسم سفيتلانا ألكسيفيتش عام 2015، عندما قرّرت الأكاديمية السويدية منحها جائزة نوبل للآداب، لأوّل مرّة عن مجموعة أعمال غير روائية، فإنّ هذا الاسم الذي كان نسيه البعض سرعان ما عاد بقوّة إلى الواجهة مع بداية هذا العام، والسبب كتاب "صلاة تشيرنوبيل"، الّذي أثار الكثير من الفضول والجدل وصار مطلوباً من طرف القرّاء والمشاهدين على السواء، وذلك بعد عرض مسلسل درامي جديد بعنوان "تشيرنوبيل"، تمّ اقتباسه من الكتاب، والّذي اقتفى عبر خمس حلقات آثار واحدة من اللّحظات الدراماتيكية في القرن العشرين: الكارثة النّووية الشهيرة الّتي وقعت عام 1986، والّتي في نظر الكثيرين كانت من بين الأسباب الّتي سرّعت في انهيار الاتحاد السوفييتي، خمس سنواتٍ بعد ذاك.
كثيراً ما صرّحت ألكسيفيتش أنّه بسبب الصّمت الّذي فرضته السّلطات، وعدم وجود توجيهات بخصوص الحديث عن هذه الكارثة، فقد كان من السّهل عليها نسبيّاً القيام بتحقيق والحصول على شهادات مجّانية وتلقائية عن "تشيرنوبيل".  لقد حظي هذا المسلسل بشعبية كبيرة - هو الّذي قامت حبكته على قصّة مستوحاة من شهادات وردت في كتاب ألكسيفيتش- لأنّه يسهم في استرجاع لحظة تاريخية مأساوية فشلت كلّ محاولات طمسها حتّى الآن، بحسب رأي الصحافية الروسية المرموقة ماشا جيسن في مقال لها نشر في مجلة "نيويوركر".
فيما يلي الجزء الثاني من الترجمة الكاملة لآخر حوارٍ حصريّ مع هذه الكاتبة البيلاروسية:


(*) في كتابه "إم سي مافيا"، كتب المؤلف البريطاني ميشا جليني أنّه فيما يتعلّق بالعالم الشيوعي "كانت المافيا هي قابلة الديمقراطية". حين نتحدّث عن المافيا، فإنّنا نتحدّث عن الفساد، وأنتِ قلتِ ذات مرّة: "في تلك الفترة، كانت محاربة الدولارات من الناحية الأخلاقية أكثر صعوبة من محاربة معسكرات الاعتقال، لأنّنا لم نتمّكن من فعل أيّ شيء حيال هذه المعسكرات". كيف يمكن للمرء أن يستوعب أنّه كان هناك فساد في الجمعيات الخيرية للناجين من تشيرنوبيل؟
إنّها مشكلة ثقافية، وكثيراً ما عاينتُها في تجربتي. أتذكّر الحالة الخاصّة لمؤسسة هولندية، قامت بجمع الأموال وجلب الأدوية للأطفال. كانوا أشخاصاً عاديين، ساعدوا وقدّموا أموالهم، وبمجرّد أن أحضروا الشاحنات محمّلةً بالمساعدات الإنسانية، دعاهم رئيس المؤسسة البيلاروسية للاحتفال في منزله. عندما وصلوا، وجدوا أمامهم قصراً حقيقياً من ذهب، ومن كريستال، قصراً فخماً بمعنى الكلمة. شاهدت كيف انذهل هؤلاء الأشخاص العاديون القادمون من هولندا: "كيف لشخصٍ كان معلّماً أن يحصل على كلّ هذا، وهل يمكن لمؤسّسته أن تحصل على هذا المبلغ من المال وعلى هذا النوع من الحياة؟"، لكنّ الأمر كان كذلك فعلاً، إنّها مشكلة ثقافية.
لهذا السبب، عندما أُلقي خُطباً أو أتحدّث إلى الجمعيات الخيرية في الخارج، أقول لهم دائماً: عليكم أن تتبعوا مهمّتكم حتّى النهاية، حتّى تصل المساعدات الّتي جمعتم إلى أيدي الناس، إلى الّذين يحتاجون إليها، لهذا أنصحكم أن لا تمنحوها إلى الحكومة البيلاروسية أو إلى منظّمي الأعمال الخيرية في بيلاروسيا.


لدينا نسبة ألمٍ أعلى
قليلاً من المعتاد
(*) تقولين دائماً إنّ المجتمع الروسي والمجتمع البيلاروسي اضطرّا إلى إعدام الجلادين والضحايا وأنّ الجميع واصلوا مشاركة الحياة المجتمعية في ما يعرف بأنّه "مجتمع المخبرين". ما هي الآثار الّتي فُرض على الناس أن يعيشوها بهذه الطريقة على مدار عقود طويلة؟
من الصعب التّراجع قليلاً والنّظر من الخارج إلى ما يحدث لأنّ هذا هو ما نعيشه، وفي حالتي هذا ما أعيشه منذ طفولتي. أتحدّث دائماً عن قصّة آبائنا الّذين ذهبوا إلى الحرب: لقد قاتلوا وقُتلوا. ثمّ أتذكّر دائماً قصة والدي. قال لي إنّه كان يدرس في الجامعة قبل الحرب، وأنّه في كلّ مرّة يعود فيها إلى المنزل، خلال الإجازة، يكتشف أنّ نصف أعضاء هيئة التّدريس قد

اختفوا من الجامعة، لأنّهم سجنوا ببساطة وحلّ محلهم أشخاص آخرون. هذا يعني، أنّه كان يجد الكثير من أساتذته معتقلين. لهذا أعتقد أنّ لدينا نسبة ألمٍ أعلى قليلاً من المعتاد، وهذا هو السبب في أنّ العدوانية والكراهية شائعتان في مجتمعنا.
مثلاً، قبل أيّام كنتُ في موسكو، وشعرتُ بالدّهشة والخوف عندما مررتُ بمتجر يبيع ملابس عسكرية للأطفال من عمر 3 إلى 15 عاماً. كان هناك آباء يشترون تلك الملابس، ويلبسُونها أطفالهَم للذّهاب إلى حفلات أو ما شابه. لقد لاحظتُ أنّ كمية الألعاب العسكرية قد ازدادت، لذلك أعتقد أنّنا أيضاً نعيش في مجتمع عسكري.

(*) هناك أناس يعبّرون عن حنينهم إلى الشيوعية. فهل أنتِ شخصيّاً من الّذين يفتقدون شيئاً من تلك الفترة؟
حسناً، إنّه أمر غريب بعض الشيء، وممّا يثير الدّهشة قليلاً، ولكن هناك شيء واحد نفتقده من تلك الفترة، ونتحدّث عنه دائماً مع الأصدقاء، وهو أنّنا كنّا نلتقي في وقتٍ كان ما يزال الغولاج موجوداً، ومع ذلك كانت علاقات الصداقة عميقة جدّاً. كان النّاس يجتمعون كثيراً، لتناول الطعام أحياناً، للغناء معاً، أو لعزف الغيتار. اليومَ صار الهاجس الوحيد هو السّباق للحصول على المال. صارت للنّاس وظيفتان أو ثلاث فقط، عليهم العمل لكسب المال ولم يعد هناك اليوم الكثير من الأصدقاء، لم يعودوا يغنّون أو يقضون عطلات نهاية الأسبوع على متنِ قوارب الكانوا الّتي كانت شائعة جدّاً في ذلك الوقت. وهذا أمر مؤسف حقّاً. كنّا نعيش في زمن يسوده خوف شديد، ومع ذلك كان هناك الكثير من الناس الطّيبين.
سأحكي لك حكاية، لقد اندهشت قبل أيام حين ذهبتُ لمرافقة حفيدتي بعد خروجها من المدرسة. دخلنا إلى مطعم لأنّها كانت تريد أن أشتري لها كعكة، وكان هناك طابور طويل من النّاس، تركتُ الكثير من الأشخاص يسبقونني لشراء ما يرغبون فيه. لكنّ الفتاة عندما رأتني منتظرة، اندفعت نحو الطابور وأخرجت نقودها واشترت الكعكة الّتي تريد، ثمّ نظرت إليّ معاتبة وقالت: "سفيتلا، أنتِ رخوة جدّاً مثل كلّ شيءٍ هذه الأيّام، في هذا العصر يجب أن تكوني بطاطا مقليّة". (تضحك)


(*) الديمقراطية كنظام سياسي تعيش أزمة في كلّ أنحاء العالم. يقول البعض إنّ الروس يضعون النّظام والأمن دوماً في مرتبة أعلى من الديمقراطية. هل تشاطرين هذا الرأي؟
لا أعرف ما إذا كان بالإمكان الحكم على هذا النّحو، أي أنّ الناس يفضّلون النظام والأمن، لأنّنا كذلك نرى كثيراً من الناس يطالبون بالديمقراطية. لكن، من ناحية أخرى، نقرأ أيضاً أنّ هناك الكثير من الناس - واليومَ صار عددهم في تزايد- يحبّون ستالين.

(*) هل ما زالوا يتذكّرونَه؟
نعم، ما زالوا يتذكّرونه. سافرتُ كثيراً داخل روسيا وشاهدت وزُرت العديد من المتاحف

والمعالم الأثرية الخاصّة بستالين. لم يتمّ فتح هذه المتاحف من قِبل السلطات، ولكن من قبل الناس. في التّسعينيات، عندما بدأَت البيرسترويكا، لم نكن نتخيّل أن يحدث شيء من هذا القبيل. اليومَ، على سبيل المثال، نقرأ في الصحافة الروسية الكثير من الانتقادات لمسلسل "تشيرنوبيل"، أوّلاً لأنّه أُنتج في الولايات المتحدة الأميركية، وثانياً، لأنّه لم يُظهر للنّاس أيّة بطولة، كما كانوا يتوقعون. ثمّ يقولون: "علينا أن ندافع عن ماضينا ضدّ ألكسيفيتش المعادية للرّوس وضدّ الولايات المتحدة". أحبُّ كثيراً ما جاء في جواب الممثل الّذي لعب دور ليغازوف في المسلسل (جاريد هاريس)، الّذي قال: "ما الّذي يدافع عنه الرّوس؟ ما هو؟ ومن يدافع عن ماذا؟ هل هم يدافعون عن الأفكار الرّهيبة الّتي سادت في تلك الفترة أم ماذا؟ كنتُ قد سمعت عن فيلمين آخرين حول "تشيرنوبيل" سوف يتمّ تصويرهما في روسيا، وبعدها قرأتُ أشياء عن مؤامرة يستولي فيها عملاء المخابرات السوفييتية على جواسيس أميركيين. ثمّ فكرت: يا إلهي، لماذا كلّ هذا؟".

هناك بوتين جماعيّ
(*) تصادف هذا العام الذّكرى العشرون لوصول بوتين إلى السلطة في روسيا. أنتِ من أشدّ منتقدي الرئيس الروسي، لماذا تعتقدين أنّ بوتين، على الرغم من مرور الوقت والأزمات المختلفة، لا يزال يحظى بكثير من الدعم الشعبي؟
لا أعتقد أنّ بوتين هو مجرّد واقع أو فكرة، وإنّما هناك بوتين جماعيّ هو الّذي يتشكّل منه الوعي. بوتين في وعي الكثير من الناس في روسيا، ليس فقط عند الأجيال القديمة ولكن حتّى عند الأجيال الجديدة، يمثّل هؤلاء الّذين لا يريدون التعرّض للمزيد من الإهانة، والّذين يريدون عودة روسيا العظمى مرّة أخرى.  ليس من الضروري أن نتخيّل أنّ الجميع كانوا متّفقين على المطالبة بالبيرسترويكا في التّسعينيات، لم يكن الأمر كذلك. لم يكن أحد في ذلك الوقت يريد الرأسمالية، على الأقلّ الرأسمالية كما ظهرت إرهاصاتها آنذاك والّتي نعيشها اليوم في روسيا. كان الديمقراطيون ساذجين بعض الشيء، واعتقدوا أنّهم يريدون ما يريده النّاس. بمعنى أنّه لا يمكننا القول إنّ الشخص الّذي غادر لتوّه معسكر اعتقالٍ سيكون حرّاً تماماً، لأنّ الحرية مسلسل طويل.

(*) قرّاؤنا يعرفون فلاديمير بوتين لكنّهم لا يعرفون كثيراً الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، وهو الّذي يحكم البلاد منذ 25 عاماً. إذا طلبت منك أن تصفي شخصيته كحاكمٍ وسياسيٍ، ماذا ستقولين؟
بكلمات قليلة: إنّه شخص من الماضي. بقدر ما يقول إنّه ليس شيوعياً، فإنّ كلّ ما يقوله ويفعله

شيوعيٌّ للغاية. مع ذلك، وبإيجاز شديد: إنّه شيوعيّ من الطّراز القديم، إذا جاز التعبير.

(*) هل تعتقدين أنّ مكانة المرأة تغيّرت في المجتمع الروسي بما يتماشى تقريباً مع ما يحدث في العالم بأسره؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، ما السبب؟
إنّها عملية تحدث ببطءٍ شديد، لكنّنا بالتأكيد نلاحظها أكثر من الأجيال الشابة.

(*) عملك الأخير يحمل عنوان "ليوبوف"، ويعني الحبّ بالروسية، وهو عمل وثائقي عن الحب. هل كنتِ في حاجة للبحث والعمل على هذا الموضوع بعد سنواتٍ عديدة من الكتابة عن الحرب والعنف والموت بجميع أشكاله؟
لا، لا، لم يكن الأمر كذلك. لكن عندما انتهيتُ من المشروع الاجتماعي الّذي اشتغلتُ عليه على مدى 40 عاماً، ولم تعد لديّ أفكار بخصوصه، بدأتُ أفكّر فيما سأفعله بعد الانتهاء منه، فاخترتُ استكشاف بعض الأسئلة الوجودية، من قبيل هذين الموضوعين الرّئيسين: الحبّ والموت.

(*) على مرّ السنين، قمتِ باستجواب العديد من النساء والرجال الّذين عانوا من مواقف مأساوية جداً، أو الّذين تعرّضوا بأنفسهم إلى الاضطهاد والإدانة اللّذين كانا من أسس النّظام السياسي. هل سبق لك أن شعرتِ بالخوف على حياتك؟ وهل سبق أن خشيتِ من محاكمتك بسبب كتبك؟
لن أقول إنّني أخاف أو كنت خائفة على حياتي، لقد تقبّلتُ حياتي كنوعٍ من الفلسفة المُميتة. لأنّ وجود فنّان في وضعية صراع مع الحكومة في روسيا، أو في بيلاروسيا، هو أمر شائع جدّاً، لكنّ الفظيع والمخيف هو أن تكون في صراع مع مجتمعك، ومع شعبك. لأنّه عندما يصرخ في وجهكِ معارفك وأقرباؤك والناس الذين يحترمونك: "القرم أرضنا"، ويكرهونك على ذلك، فهذا أمر فظيع. لكنّني أملك ما يشبه كلمة مرور، أتغامزها مع أصدقائي. مثلاً، عندما ذهبتُ لزيارة صديقة لم أرها منذ فترة، دخلتُ إلى منزلها، وبينما أنا أخلع معطفي، بادرتني بالقول: "سفيتلا، القرم ليست أرضنا، ها أنا أخبرك حتّى لا تقلقي".

*أجرت الحوار هيندي بوميرانيك ونشر في الموقع الإخباري الإسباني "إنفوبايي" يوم 7 يوليو/ تموز 2019.

ترجمه عن الإسبانية: نجيب مبارك.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.