}

تتمة "الدرس الموسيقي الأخير"

باسكال كينيار 12 يونيو 2019
ترجمات تتمة "الدرس الموسيقي الأخير"
(أيمن عثمان/ اليمن)
في ما يلي تتمة الفصل الأخير من "درس الموسيقى" للكاتب الفرنسي باسكال كينيار (1948). وسبق أن أشرنا في القسم الأول من هذا "الدرس" (ضفة ثالثة، 6 يونيو) إلى أن حياة كينيار وأعماله تربطهما علاقة حوار وثيقة مع الموسيقى، وأنه في عام 1998 كتب هذا التأكيد المثير للدهشة: "لا يوجد فرق بين تدوين كتاب صامت وعزف الموسيقى". ويمكن العثور على مفاتيح هذا الحوار في "كتاب درس الموسيقى"، حيث الرواية هي إعادة كتابة جزئية على شكل خرافة:
في اليوم ذاته، باع بو ياه زيه التقليدي، وذهب للبحث عن أمين الصندوق فو، بعد رهن مربعات الحرير التي ورثها عن والده. ثم ذهب إلى مصلح الآلات الموسيقية. لقد كان عجوزاً جدا، وكان سمْعه ضعيفا. ثيابه الحريرية كانت ممزقة. كان يرتدي أحذية حمراء.  طلب بو ياه أن يريَه الآلات الموسيقية. رأى بو ياه آلات رائعة وسمع أصواتا غريبة. في زاوية من الغرفة حيث كان يعمل مصلح الآلات، تحت الخزانة، كان هناك ما يشبه رفات آلات موسيقية يتمرّن عليها الأطفال. طلب بو ياه من العجوز أن يريه إياها. وعزف على هذه الآلات العتيقة المتضررة.
- إنها صرخات مرتّقة. قال بو ياه ضاحكا.
نظر إليه العجوز باستغراب واتسعت عيناه وتبللتا.
- ماذا نكون أكثر من ذلك؟
شعر بو ياه بالخجل. أخذ العود والقيثار الثلاثي الأوتار اللذين بديا له أكثر تضررا. بقي له بعض النقود التي سيعيدها إلى أمين الصندوق فو. كان يعمل بقدر ما يستطيع على أوتار خرساء، وكانت أصابعه تتعثر باستمرار على لمسة الخشب المصقولة بصلافة.
لم يتصل شانغ ليان بتلميذه طيلة ثمانية أشهر. كان الفصل ربيعاً. اتخذ بو ياه مكاناً قصياً، في نهاية الحقل، على المنحدر، باتجاه مدخل القرية.
كانت هناك أشجار خوخ مزهرة. كانت الزهور ذات لون وردي يخلب الألباب. كان بو ياه يرتدي صندلا من القنب. تناهى إلى سمع شانغ ليان صوت عزفه عندما كان يمرّ من هنا. اقترب، طلب منه متابعة العزف، وجلس بجانبه.
- الصوت فظيع، إرم هذه الآلة. قال شانغ ليان بعد مضي فترة من الوقت. تجمد بو ياه في مكانه، وابيضّت وجنتاه بشكل مفاجئ. واستأنف شانغ ليان:
- لا تستقرّ الموسيقى في أرقى الآلات، لا ولا تستقرّ في أسوئها. الآلات الأكثر ملاءمة للموسيقى هي تلك التي تمسنا بلا شك، لكن يتسنى لنا الاستغناء عنها، مثل الأجسام التي تغلف
البشر.
شانغ ليان قال أيضاً:
- ثمة عذوبة وشجن في الموسيقى التي ارتجلتها. لكنها ليست الموسيقى بعد. اترك هذه الآلات، اخرج من هذه الحديقة، ابحث عن الموسيقى، تعال معي.
قاد شانغ ليان تلميذه إلى القرية. كان بو ياه ينظر إلى معلمه باحترام كبير، لكن هيئته كانت تحيّره. فجأة أصبح شانغ ليان متوترا وطلب منه الصمت: للاستماع إلى الريح تهز الغصون فيما كان يبكي.
كانا جائعين. قاد شانغ ليان تلميذه إلى حانة، فجأة توقف: للاستماع إلى صوت العيدان الخشبية تكمش قطع اللحم المشوي أو القُريْدس المجفف فيما كان يبكي.
في زقاق قريب، اصطحبه إلى مبغى. خدش بو ياه بظفره عن غير قصد كاحل العاهرة فيما كان يرفع ساقيها ليلجها وسلخ جلدها. قطرة الدم هذه، الصرخة القصيرة للعاهرة، والوسادة الخشبية وقعت على الأرض فيما كان شانغ ليان يبكي.
اصطحبه إلى اجتماع الأدباء وراء جسر الغراب. أفرطا في الشراب. قام شانغ ليان بإسكاتهم: للاستماع إلى صوت الفرشاة على الحرير فيما كان يبكي.
اصطحبه إلى دير خارج القرية. في الطريق، أمسك شانغ ليان بيد تلميذه. وتوقفا: طفل، عاري البطن، كان يتبول على ردم من الطوب الأحمر فيما كان شانغ ليان يبكي.
عندما وصلا للمعبد كان الراهب يكنس ساحته الخارجية: جلسا واستمعا طيلة خمس ساعات لصوت المكنسة التي تزيل الغبار: فيما كانا سويا يبكيان.
ثم انحنى شانغ ليان على بو ياه وهمس في أذنه:
- لقد حان الوقت لكي تعود. اقتن الآلة القريبة منك عند صانع العود الإمبراطوري، خذ أربع تيلات من أمين الصندوق فو، وأخبره أنني سأمر عليه في الغد. لقد تمرّنتُ على الكثير من الموسيقى اليوم. سوف أغسل أذني في الصمت. أنا داخل للمعبد.

***

تمكن بو ياه، لدى عودته، بعد مفاوضات طويلة مع أمين الصندوق فو، من الحصول على ثلاث تيلات من الفضة. بحث طويلاً في خزائن المتجر، عازفاً على الأوتار بشكل عشوائي. لم يعثر على الآلات التي يريدها. فشعر بالاستياء وخرج إلى الشارع. فيما كان يصعد الزقاق للعودة إلى مكان إقامة شانغ ليان، التقى بعجوز طاعن في السن ينزل الزقاق مستعيناً بعصا مصبوغة بالأحمر. كان يرتدي قبعة من اللبد، ثيابا حريرية رمادية وممزقة وحذاء أحمر ويتأبط تحت ذراعه الأخرى عوداً صغيراً. تعرّف عليه بو ياه، اقترب منه، وانحنى أمامه شابكا يديه.
- كيف حالك يا عم؟
- تكلم بصوت مرتفع يا سيدي، فأنا ضعيف السمع.
قال بو ياه بقوة وببطء:
- كيف حالك يا عم؟ هل تتذكرني؟
- فقدت كل ذكرى لك. أجاب العجوز. لقد عشت طويلاً.
- اسمي بو ياه، يا عمي، اشتريت في دكانك منذ ثلاثة فصول عوداً وقيثاراً ثلاثي الأوتار من النوع الذي يتمرّن عليه الأطفال المبتدئون. هل يمكنني أن آخذ من وقتك بدعوتك إلى تناول الشاي معي؟
هكذا كان، جلسا أمام إبريق الشاي حيث تطفو الأطراف المنتزعة لثلاث أو أربع زهور. كانت الرائحة رائعة.
- هل لي أن أسألك عن اسمك الكريم، أيها العم؟ سأل بو ياه ببطء.
- اسمي المتواضع فونج يانغ. قال مصلح الآلات الموسيقية.
- أين تقيم؟ سأل بو ياه.
- قريباً من محترفي، قريباً من هنا. في نعش الريح. قال فونج يانغ.
- عمي، أنت الذي تصلح الآلات الموسيقية، لا تليق بك الشكوى، حريّ بك أن تعرف السعادة، أنت حارس الهيكل، أنت الذي يضمن الجمال، الصيانة، الصمت وإمكانية الموسيقى. ألا يحق لك أن تكون الموسيقى؟ صاح بو ياه متنهداً.
- ما تقوله مجرد غباء، قال فونج يانغ، أنا لا أعرف السعادة، أصلح الآلات الموسيقية وأموت

من الجوع. أنا عجوز جداً.
- لقد مرّ الآن ما يقرب من أحد عشر ألف سنة منذ أن عانيت الحياة. لقد مرّ الآن ما يقرب من أحد عشر ألف سنة منذ أن أصلحت ما لا يمكن إصلاحه دون جدوى. لقد مرّ الآن ما يقرب من أحد عشر ألف سنة منذ أن لم أعش تماما. لقد مرّ الآن ما يقرب من أحد عشر ألف سنة منذ أن لم أمت فعلا. يا سيدي، كما تراني، كنتُ أسدا، كنتُ صوانَ أذنِ أرملة، كنتُ سحابة وردية في الفجر، كنتُ خبز الزبيب، كنتُ سمكة بريم، وكنتُ الفراولة الصغيرة المشعّرة قليلا بين أنامل الطفل المبللة.
- أيها العم، أنت من يصلح الآلات الموسيقية، هل تحتفظ في الجزء الخلفي من دكانك بثلاث قيثارات ثلاثية الأوتار وأعواد. قال بو ياه.
- أجل يا سيدي، أحتفظ بخمس أو ست منها، ربما فاتك رؤيتها عندما زرتني آخر مرة. لكن سني لا يسمح لي بحملها إلى بيتك. وأصابعي مرتعشة.
- متى يمكنني المجيء إلى متجرك المحترم؟ سأله بو ياه.
- دعنا نذهب فورا. قال العجوز. هل يمكنني الركوب على ظهرك؟ أنا متعب جدا. أجابه بو ياه بنعم وحمله على كتفيه.
- أنا عجوز جدا. كان يهذي فونج يانغ. ها قد نسيت اسمي. – اسمك الكريم فونج يانغ. صاح بو ياه. أنت تسكن في نعش الريح.
- للأسف، صرخ العجوز، نعش الريح ليس نعش الحياة، أنا لم أنته بعد من اختبار الحياة، سأكون مجددا طائرا وبلح البحر الأسود على الساحل الرملي وزهرة هندباء، لم أتخفف من ثقل الأشكال، أتوق كثيرا إلى الفراغ، هل تريد أن تعرف أسوأ معاناتي؟
- نعم أريد أن أعرف أسوأ معاناتك. صاح بو ياه.
- أسوأ معاناتي هو أنني أعرف أني سأصير إنسانا مرة أخرى. قال فونج يانغ. النجوم وأعباء كل ما عشت قرروا ذلك سلفا. أن تعود إنسانا من جديد بالتأكيد أسوأ من أن تصير حصان البريد مرة أخرى، مزيدٌ من قرون العبودية، مزيدٌ من رؤية الضوء، مزيدٌ من الأصوات المؤذية، مزيدٌ من بكاء العيون.
وجد بو ياه العجوز فونج يانغ خفيف الحمل على ظهره بشكل غير متوقع. فسأله:
- هل أخبرك المنجّم في أي مكان ستعيش ثانية كإنسان؟ أي وظيفة ستزاول؟ في أي قرن؟
طبطب العجوز على رأس بو ياه بسلاميات الأصابع البيضاء الخشنة في يده.
- المكان سيكون كريمونا، إنها قرية بالقرب من منطقة بو بإيطاليا. والقرن سيكون السابع عشر من العهد اللاتيني. الوظيفة ستكون مرة أخرى صانع العود.
- كيف سيكون مظهرك؟ سأل بو ياه.
- سأرتدي صدرية من الجلد. قال فونج يانغ باكياً.
كانت يده ترتعش، وخلع قبعة اللبد قائلا:
- سأرتدي قبعة صوف في الشتاء، وأنا أقطع الجسور التي تعبر كريمونا.
- عمي، هل تعرف اسمك. صاح بو ياه.
- ابن أخي، قال العجوز محركا قدميه، عمري أحد عشر ألف سنة. اسمي تونيو ستراديفاريوس. لا أستطيع تحمل المزيد. أنا والد أوموبونو وكاثارينا. كان اسم معلِّمي أماتي. واسم صديقي غارنيروس.
عندما تفوه بهذه الكلمات، انهمرت الدموع على وجهه. ثم تابع:
- يبدو لي أنني أتذكر ساحة سان دومينيك، أمام البوابة الرئيسية، ألمس الضوء الذهبي. أرى تورازو، شيء ما في الهواء يفوح برائحة الزيتون وغِراء الأسماك.
حينئذ وضع مصلح الآلات الموسيقية قبعة اللبد وأمسك رأسه بين يديه. تأوه متمخطا بقوة. فسقط المخاط على وجه بو ياه.
وصلا عند فونج يانغ، أنزل بو ياه العجوز، جرّب مطوّلا القيثارات والأعواد. كانت تنبعث من العود الثاني الذي جرّبه ألحان مميزة للغاية كقطرات المطر. القيثار الرابع الذي جرّبه كان

بالتأكيد آلة ضعيفة جدا، لكن رقته وحزنه بلا نهاية. أحد الأوتار كان رنانا وضنينا بالصدى. آخر كان يمتلك عذوبة لم تكن حتما إنسانية. الوتر الأخير كان مبهما جدا، خافتا جدا لكن كان فسيحا رغم خفره كما لو يسحب معاطفه وتنانيره أمام الجمال العاري لهيئته.

***

كان شانغ ليان يتناول بذور البطيخ متجولا بالقرب من بحيرة نقنقة الدجاج. كانت هذه البحيرة تنتج عشرات الآلاف من صيعان الكستناء المائية كل عام. كانت قوارب الصيد تعبر من الضفة إلى الضفة. هنا جاء بو ياه ليُطلع معلِّمه، بعد مضي أربعة أشهر، على الآلات الموسيقية التي اقتناها عند فونج يانغ، جلسا في خضيلة من الخيزران أمام قارب أزرق مركون على الماء. عزف بو ياه مقطوعة موسيقية صغيرة أمام معلِّمه.
- الآلة جميلة. قال شانغ ليان.
- الأصابع، الأذن، الجسد، والروح. كل شيء متناغم. أردف شانغ ليان.
امتقع وجه بو ياه حتى أصبح أزرق كقارب الصيد الراسي أمامهما، وراء سياج الخيزران.
- لم يتبق سوى إيجاد الموسيقى. ختم شانغ ليان.
شعر بو ياه بالإحباط الخالص يجتاح جمجمته. شعر بقلبه يُعتصر من الألم خلف صدره. أنهضه شانغ ليان.
- لم يعد هناك ما يمكنني تعليمه لك. قال شانغ ليان. مشاعرك ليست محتشدة بما فيه الكفاية. لا تمتلك ما يحرّكك كما تفعل الموجة بقارب الصياد الأزرق، أنا شانغ ليان، لم يعد لدي ما أستطيع تعليمه لك بعد الآن. أستاذي يدعى فان تسو شوان، وهو يعيش في البحر الشرقي. إنه يعرف كيف يبعث الشعور في الأذن البشرية.
انتظرا حتى شهر تشرين الثاني، ثم ذهبا سويا إلى البحر الشرقي. سارا طيلة اثني عشر أسبوعا. عندما بلغا سفح جبل بونج لي، قال شانغ ليان لتلميذه:
- ابق هنا، سأذهب لإحضار معلِّمي.
هكذا، غادر شانغ ليان بدفع القارب بالزانة. بعد مضي عشرة أيام، لم يكن قد عاد بعد. نظر بو ياه من حوله، منهكا من الجوع، الوحدة، والخوف. لم يكن هناك أحد. كان يستطيع فقط سماع صوت المياه على الرمال وصيحات الطيور الحزينة. حينئذ شعر أنه أكثر ضعفا وتنفس الصعداء قائلا: "هذا هو درس معلِّم معلِّمي". عند ذلك بدأ العزف على القيثار مدندنا، فيما كان يبكي بهدوء. ثم بكى في أعماق قلبه وكانت الألحان وحدها دموعا، عندما ماتت أغنيته على شفتيه. عاد شانغ ليان برفق على الماء. صعد بو ياه على القارب الذي كان يقوده شانغ ليان بالزانة. أصبح بو ياه أعظم موسيقي في العالم.

ترجمة: ميشرافي عبد الودود.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.