}

رقيق هو الليل

ريكاردو بيجليا 13 أبريل 2019
ترجمات رقيق هو الليل
(فكتور بوبكوف)
ثم واتتني الرغبة في أن ألتزم الهدوء وأنا أمام الآلة الكاتبة ماركة ليتيرا 22، ألتزم الهدوء بينما لوثيانا ترقد هناك من دون أي فائدة. واتتني رغبة في البحث عن تفسير، رغبة في تصحيح مصير لا أعرف ما هو، أن أبدّل تفاصيل الحكاية، كأني في التفاصيل الأخرى سأقول لها لا تكوني غبية، لا تتصنعي التراجيدية يا لوثيانا، أن أقول لها أنتِ طفلة حمقاء، يا سيدتي. أقول أي شيء حتى لا أراها تنزوي تحت المطر، نصف ملتوية بسبب الماء، بتنورة ملتصقة بفخذيها، لكن كل شيء كان مقررًا، وأنا كنت أكثر هدوءًا، كنت محميًا تحت سقف، أنظر إلى المطر وأدخن منتظرًا أن يتحسن الطقس.
على أي حال، لست متأكدًا إن كان ضروريًا أن أحكي ذلك هكذا. تنزلق مني الأشياء الآن، تبتعد، ويبدو طبيعيًا جدًا أن الليلة السابقة قد حدثت منذ زمن طويل؛ أن الليلة السابقة، اليوم نفسه، كانت قد حدثت، مثلًا، قبل تلك الأمسية التي توقفنا فيها في وسط الميدان وقبّلنا بعضنا للمرة الأولى، بينما كان الناس يلتفتون إلينا وفوقنا طائرة نفاثة تحلّق في الجو وهي تقول لي إنها تحبني: "أظن أني أحبك جدًا"، قالت هي، وأنا أجبتها بأنها مجنونة. "أظن أنك مجنونة"، أو شيء هكذا، بصوت خفيض، تحت ضوء عمود أحمق كان مضاءً في الثالثة عصرًا ويجعل شعرها الملون يلمع أكثر عندما تبتعد وأنا أفكر أنها ستجلس أو شيء هكذا، لكنها بدأت في الرقص. "وأنا؟ أنا مجنونة مثل قطة، ألم تر من قبل قطة مجنونة؟"، يدان على الوجه، ارتجافة ناعمة، همسات غريبة، محاكيةً ما كانت تسميها مواء القطط عندما يصيبها الجنون: "مجنونة
وساخنة"، قالت، وكانت عيناها رماديتين شبه مغمضتين من الشمس والضحك.
إيماءات، مشاهد تتضخم الآن هنا، بينما أكتب في هذه الغرفة المصبوبة فوق سقف جاري، ماحيةً ومشوهةً ما حدث الليلة السابقة، ليلة الحفلة، صوتها بالتليفون ليدعوني وأنا كنت أضحك من دون أن أعرف السبب. "ومن أقنعك أنك لتقيم حفلة عليك أن يكون لديك أسباب"، قالت لي، وأنا فكرت: انتبه، سترحل بدون بياتريث. يا لك من ساذج، كأن لوثيانا كانت تحتاج إلى رؤيتي من دون بياتريث أو أنها لا تعرفها أفضل مني أنا نفسي. "بالنسبة لك هي واحدة من هذه الغرف المريحة، هل انتبهت؟ بها حمّام". (أنا لم أكن أميزها في الظلام، لكني كنت أضحك بكل جسدي). "هذا، حمّام".
بالطبع حين قالت لوثيانا ذلك كانت ثملة تمامًا. وأنا كنت سمعت ضجيجًا بالأسفل، وفي الحال سمعت ضربات كعوب على السلم وشخص كان يحك عود كبريت. "بياتريث"، قلت وأنا أبحث عن ضوء. "لا، لا تشعل"؛ كانت لوثيانا تتحدث رافعةً صوتها بمبالغة، كأنها تائهة، وحين أشعلت بدا أن لوثيانا تنبت من الظلام، بشعر ملقى على وجهها، بمحيا جميل ومستهلك، وخاطف. "سأرحل، إن لم تطفئ الضوء سأرحل"، وأنا لم أكن أراها، كنت أخمّن وجودها في الظلام فحسب، تنتقل من جانب لآخر، تحمل الأشياء أمامها، حتى جلستْ في النهاية على حافة السرير دون أن تنبس بكلمة.
من أجل ذلك أقول إنه كان حماقة التفكير في بياتريث، التي لا علاقة لها بالأمر والتي تنام الآن بالتأكيد من دون أن تعرف شيئًا، بانطباع بين الساذج والشرير والعذب، بهذا الوجه الناعم والمنهار كأنه لا يطيعها، حين كانت هي تبحث عن تجميد وجهها لأني، من دون رغبة مني، سرت لهكتارات شاردًا، مستسلمًا للصمت حتى أشعر بحضور بياتريث، حضورها المكثف والمسيطر عليه، وفي النهاية أسمع صوتها، وقد تغير بشكل غريب: "هل يمكن أن أعرف ماذا بك؟" وأنا أنظر إليها، مدهوشًا: "لا شيء، ماذا تريدين أن يكون بي"، وكأنه انطلق بداخلها تويتي فغدت عاجزة، عارية. كانت تبدو مثل دمية في ذاك الصباح، حين ظهر وجهها وكان الوقت متأخرًا لأن لوثيانا كانت تسلقت نفس السلم ثملة، وأيقظتنا بياتريث داخلةً، وهي ردت عليها من السرير بالبطاطين تغطي جسدها العاري. "أهلا يا بقرة"، قالت لها، "لا تغضبي فأنا راحلة". وبياتريث كانت تنظر إليها متكئة إلى الحائط، من دون حركة، بينما كانت لوثيانا ترتدي ملابسها بتمهل شديد في منتصف الغرفة، وكانت تنحني لتلبس الجوارب الطويلة وحين انتصبتْ ابتسمتْ لها نصف ابتسامة. "لا تغضبي، فأنا من سن أمك".
وكانت هذه المرة الأخيرة التي أرى فيها لوثيانا (حتى اليوم، أقصد)، لأننا في الليلة السابقة كنا قد قررنا انتهاء كل شيء بشكل ودود، بنفس الرقة المقززة لهذه المسائل.
لم أعد أتذكر مَنْ منا خطرت له هذه الفكرة في هذه الكافتيريا، كافتيريا شبيهة ببيت الشاي قد عثرنا عليها بعد منتصف الليل بقليل، غارقة في عمق حديقة، في نهاية شارع لا دياجونال 80.
"إلهي، ستبتل أقدامنا في هذه الحشائش"، قلت أنا لأن السماء كانت تمطر وحذاء المطر كان يغوص في وحل الحشائش، وأعتقد أني بينما كنت أطأ الممسحة كمعتوه، كانت هي تقترب لتقبّلني وأنا أبعدها ناحية الباب لكنها تفلت مني وتقترب بوجهها.
- جئنا من أجل الوداع، أليس كذلك؟- قالت-. أشعر بالعطش وأنا مبلولة.
حينئذ عبرنا الصالة اليابانية، المضاءة بمصابيح خضراء، لنتنشف في حمّام له بابان يفصل بينهما حاجز. "أدخل معك"، قالت مبتسمة بشعر تتساقط منه قطرات الماء. "ما من أحد هنا، ألا ترى أنه ما من أحد هنا؟"، أضافت، وكان يبدو أن الضوء الخافت يعزل الإيماءات، يضاعفها في المرآة، وكانت هي تنظر لكل شيء مدهوشة وفرحة. "هكذا تستخدمون هذه الأشياء، لكنها مثل مبصقة"، وكانت تضحك، متحركة من جانب إلى جانب، حتى دخل رجل ونظر إليها ظنًا أنها دخلت بالخطأ، لكنه اكتشفني في الحال فيما كانت تحييه من الركن الذي تقف فيه، فيما كانت ترسم شفتيها في المرآة.
يحتاج المرء أحيانًا إلى الإيمان بالعلامات، بالتحذيرات التي لا يستطيع رؤيتها. والآن (بعد أن فتحتُ باب غرفة لوثيانا ورجعت بظهري مذهولًا) تبدو لي ساعات الفجر تلك في بيت الشاي مثل علامة لكل ما حدث في هذه الليلة. ربما لذلك تختلط عليّ الأحداث، لذلك لا أعرف إن كانت حدثت اليوم عند الفجر أو في تلك الليلة، منذ ما يزيد عن ثلاثة شهور، عندما رفعت لوثيانا رأسها كأنها تبحث عن مطر تنبأت بوجوده في الريح، وأنا رأيت عينيها، حاميتين ومرعوبتين، لكنها لم تكن إلا لحظة إذ أنها تحركت، بالتدريج، كأنها تريد أن تراوغ خطوط ضوء الفجر، وقالت لي بصوت واهن كأنها تهمس إنها ستغدو وحيدة، وألّا أبحث عنها فتركتها ترحل، من دون أن أنظر إليها وهي تبتعد، وهي تتوه بين الناس، من دون أن أفعل شيئًا، من دون أن أناديها.
ولم أرها مرة أخرى، حتى ليلة الحفلة، ليلة أمس. كانت تعيش في بيت بـ "بيّا إليسا"، في الضواحي، بيت واسع وشديد الإضاءة. دخلتُ وفي العمق، في صالة تطل على حديقة، كانت هي تعزف على الجيتار، بصحبة أناس ممددين في أكثر الأماكن غرابة، صامتين ومتيقظين. كانت جميلة جدًا، وكانت جالسة على أريكة وبجانبها باتريثيو الذي كان يبتسم راضيًا، فيما كانت لوثيانا تغني بصوتها المحشرج، محاطة بدخان السجائر القاتم. عندما انتهت، صفق لها
الجميع ونهضتْ هي فكشف فستانها عن فخذيها؛ كان شعرها ملمومًا، ووجهها رماديًا من أثر الدخان، كأنه وجه من الجبس.
أومأتْ بيدٍ، وأنا ابتسمتُ. ثم رأيتها تأتي ناحيتي، متجنبةً من كانوا يرقصون؛ وكانت صورتها تتشيد كلما اقتربتْ. أتذكر أني حاولتُ التفكير في عبارة أستقبلها بها. "لائق عليكِ الشعر الملموم، تبدين كتمثال"، أو عبارة شبيهة بذلك؛ غير أنها توقفت فجأة في منتصف الطريق وأنا تسمّرتُ في مكاني وتابعتها بالنظر وهي ترقص مع باتريثيو.
كان ثمة أناس كثيرون بوسعهم تجاهل معارفهم بكل ثقة. وبينما كانت تتوارى خلف الأزواج الراقصين، كنت ألتقي بـ لوثيانا من آن لآخر، بفستانها ذي اللون الرصاصي. ومرتان أو ثلاث تبادلنا النظر، لكنها استمرت في الرقص، مبتسمةً وكأنها فرحة.
سمحت لنفسي بأن أنتقل من جانب لحانب، منزلقًا ناحية العمق من آن لآخر لأبحث عن المنضدة المتكدس فوقها الزجاجات. مع كأس الويسكي الرابع أو الخامس تحسنت الأحوال وقمت لأرقص التانجو، من دون حماس كبير، مع طفلة كانت هزيلة وحولاء لحد ما، ما كان يعطي انطباعًا بأني جريء وشرير.
في النهاية استرحتُ على كرسي كبير سقطتُ فيه مجبرًا في وضع عبثي في الحقيقة، بكوعين مرشوقين بين ركبتيّ.
- أنت دائمًا لا تختلط بالآخرين- قالت بنبرة كريولية متعمدة ومؤثرة إلى حد ما، نبرة أعرفها جيدًا-، بعيدًا عن الأوباش.
الصوت جاء من خلفي ولأتأكد أنها كانت لوثيانا تحتم عليّ أن أستدير بجسدي لأراها متكئة إلى الحائط.
- لا أرى أوباشًا كثيرين هنا، في الحقيقة. إنما يبدون مليونيرات كلهم.
- مليونيرات شحاذون- قالت هي، وضحكتْ على نكتتها السخيفة.

على أي حال كان عبثيًا جدًا أن أستمر غاطسًا في هذا الكرسي ملتفتًا ورائي لأستطيع رؤيتها. وحين تمكنتْ من الجلوس بصعوبة على ذراع الكرسي، نظرتُ إليها وجهًا لوجه للمرة الأولى، وكان ذلك مناسبًا لتذكر عينيها، لتذكر الطريقة الفريدة التي تمتلكها قزحية عينيها لتسويد الحدقة، كأنهما عينا قط.
- شكلك غريب بشعرك هكذا. تبدين كتمثال- قلت لها بينما كنت أحاول النهوض.
- نعم، تمثال عذراء لوخان- قالت وهي تنهي كأس ويسكي في يدها-. تقنّعتُ ذات مرة بقناع عذراء لوخان، وكنت مذهلة، كان يجب أن تراني-. وكانت الكأس قريبة من فمها فضربتها بأناملها لينزلق مكعب الثلج إلى الحافة-. وكنت أنظر للسماء، هكذا- قالت، ورفعت عينيها بإيماءة ملائكية.
- ما رأيك لو أخذنا ميكروباصًا ورحنا نقضي عدة أيام في فندق بونتا لارا.
نظرتْ إليّ فرحة بينما كانت تمضغ الثلج.
- هناك وحل كثير.
- هذا أفضل، حتى لا نخرج من الغرفة.
- لكن زوجي هنا- قالت.

حين رفعت رأسي كان باتريثيو هناك بالفعل.
- إميليو، كيف حالك؟- قال، وأمسكته لوثيانا من معصمه، لا من يده بل من معصمه، كأنه ذراع كرسي.
تحدثنا نحن الثلاثة، كل واحد منا لبرهة، حتى لا يتمدد الصمت كثيرًا، فيما كانت الموسيقى والصرخات تمتزج في نوع من الفوضى المدهشة.
المكان مغلق جدًا- قال باتريثيو-. كان من الأفضل الحديقة. لكن المطر للأسف.
- بماذا تحتفلون؟- سألتُ وأنا أنظر إلى وجه باتريثيو، بلونه الغريب، نصف البنفسجي.
- بلا شيء- جاوبت لوثيانا-. لا أعرف من أقنعك أنك لتقيم حفلة عليك أن يكون لديك أسباب.
- لوثيانا تسير بحسب نزقها- قال باتريثيو الذي كان يبحث عن تواطؤي برقة-. الآن تحب الحفلات، ومنذ فترة كانت تحب الرسم، فملأت البيت بلوحات قماشية واستأجرت ستوديو في وسط المدينة وعندما...
- رائع يا عزيزي، فلنترك نزقي الآن- قاطعته وأطلقت معصمه-. أفضّل أن أرقص.
تحرك باتريثيو كأنه يريد الخروج إلى المنتصف وأنا شعرت بيد لوثيانا في ذراعي، فيما كانت تنهض على أطراف أصابع قدميها لتلامس وجه باتريثيو بشفتيها.
خمّنتُ ابتسامته، من ورائي، وهو واقف في ركن، عندما التفتُ وغدونا وجهًا لوجه فحيّاني ورفع كأسه. وعدنا لندور، فيما بقيت لوثيانا في مواجهة باتريثيو ثم دخلنا في وسط جميع من كانوا يسحبوننا من جانب لآخر.
كانت لوثيانا تبدو متحمّسة ونظرت إليّ فرحة.
- عما تبحثين؟- سألتها بعد برهة.
- لا شيء. لا أبحث عن شيء. ماذا تريد أن أبحث؟ لا تكن بدائيًّا.
- ولماذا اتصلتِ بي؟
عن قرب، كان وجه لوثيانا قناعًا جميلًا ومبقعًا، ببقعتين غامقتين في جانبي عينيها.
- أتعرف عما أبحث؟ عن أحجار. عن لعبات فقدتها. على سبيل المثال أبحث عن شخص كان مغرمًا بي من قبل. مثلما أحبني منذ زمن بعيد هؤلاء الصبية التافهون الذين كنت أحبهم كمجنونة. هذا ما أبحث عنه.
ورغم أنفي، كانت رائحة الويسكي تصلني ممتزجة بمادته الفرنسية وعرقها.
- خذني من كل ذلك.- قالت بصعوبة قولبة صوتها وكانت تتحدث كخرقاء-. من كل هذه القمامة.
- لو تقولين ذلك بسبب الويسكي، فهذا لا يبدو عليكِ.
ثم تسمّرت في مكانها. ودفعنا القادمون من الوراء وهم يضحكون فأمسكتها من ذراعها لأسحبها، لكنها فلتت بإيماءة فظة.
وأنا بقيت وحيدًا ووقفت أمام منضدة بالقرب من الشباك. رأيتها تقترب، مترددة، مكسورة ومبتسمة، حتى سقط جسدها على المنضدة ونادتني بيد مرتجفة.
- تعال يا معتوه، تعال لأن لوثيانا تريد أن تقول لك شيئًا في أذنك- قالت بصوت خفيض بينما كانت منحنية، وأنا وهي صنعنا جسرًا عبر المنضدة-. أنت رجل بائس- همستْ.

ثم غطت وجهها بكفيها كأنها تخيف حشرة وأنا رأيتها تسير، صارمةً، ناحية باتريثيو.
وبقيتُ لبرهة هناك، متكئًا إلى الشباك.

وفي الخارج، كان الضباب يذيب شبح الرماح الحديدية المسنونة المحيطة بالبيت. والليل كان ساكنًا، وكان قائظًا جدًا. سرت في الحديقة بمحاذاة الحاجز الحديدي حتى العمق. وبمشاهدة البيت من الخلف، كان يبدو مثل درج، طويل وقاتم. كانت الموسيقى في نهايتها لكنها تتزايد، وكانت الريح تحملها. ثم بدأت تمطر مرة أخرى. وكان الضباب الأصفر يحيط بأعمدة الإنارة المشتعلة. وفي ركن ما، كان ضوء البيت يتسرسب بين الشجرات، وحين اقتربتُ من السلم، انمحى الضوء فجأة وتحول كل شيء إلى ظلال. ثم بدأت أصعد بحيطة. الضوء ضربني في عينيّ مرة أخرى وخلال لحظة رأيتهم مكدسين في وسط الصالة؛ الوجوه المشرقة غدت منطفئة فجأة وبمجرد ما دخلتُ، لعنتُ من اخترع فكرة اللعب بالضوء.
كانوا قد شكّلوا دائرة وفي المنتصف كانت لوثيانا تتحرّك وحدها، وتتمايل على إيقاع الموسيقى، حافيةً وبشعر مفرود. وفي الظلام لم يكن يُسمع إلا ضربات الكفوف، وحين عاد الضوء إلى وجه لوثيانا المتعرق كان يبدو أنه ينمو فجأة بعد أن محاه شعرها المتساقط على عينيها. وكانت بدأت تتعرى، بالطبع، وكانت تتعرى بقدر ما تستطيع. وكانت بظهرها، تحاكي ريتا هيوارث في فيلم جيلدا، حتى اختلطت الأصوات وضج الصخب بشكل فظ، وعبرت لوثيانا مع باتريثيو بابًا للداخل، مضاءين. كان يعانق ذراعها، في الهواء تقريبًا، ويسحبها، بينما كانت تلقي بشعرها للوراء بإيماءات قاسية، وكانت الموسيقى لا تزال ترن والجميع يتبادل النظر، بوجوه لامعة، كأنهم يعتذرون في صمت.
التزموا سكونهم للحظة ثم بدؤوا في الحركة، مضطربين. ثم راحت الأصوات تتعالى شيئًا فشيئًا.
استمروا في الرقص لبرهة أخرى، بدون رغبة لأن كل شيء كان جاهزًا ولم يكن مفيدًا أن يطيلوا في الرقص، بينما كان ثمة صبي يضم الزجاجات وتفرقوا جميعًا ليشكلوا مجموعات من ثلاثة أو أربعة أزواج، يرقصون بمفردهم في وسط الشقة الخالية.
أنا بقيتُ حتى النهاية لكني لم أر لوثيانا. هكذا أنهيت الجِن ونزلتُ بمفردي، بتمهل، متبعًا المترنحين الذين كانوا يعبرون الحديقة مُبهدَلين وبعيون غائرة.
كانت رائحة العاصفة مشمومة في الجو والضباب لم يكف عن تصفية ضوء الصبح الأبيض.
توقفت لأشعل سيجارة؛ كانت أضواء البيت تنطفئ واحدًا وراء واحد. وعندما واصلت السير صوب الحاجز، بينما بدأ المطر، شخص ما مسكني من ذراعي.
- انتظر يا معتوه، لا تتعجل- قالت لوثيانا وكانت تبدو أخرى، أكثر ضعفًا أو شيء هكذا، وكانت غسلت وجهها، على ما أظن، لأن جلدها كان رماديًا وعاريًا، وعيناها كانتا مثل جرحين

في وسط الوجه.
سرنا بتمهل حتى الإفريز وكان المطر يضرب الحاجز المعدني بضجيج.
لا أستطيع أن أتذكر فيما تحدثنا. ما أعرفه أني لم أعرها اهتمامًا وأن الحوار في تلك اللحظة لم يكن هامًا؛ كان واحدًا من هذه الحوارات الناقصة، المتلعثمة، حوار يأتي في نهاية الليلة، بينما يشقشق الصبح والمرء يشعر بجسد مترع بالقطن أو الكتان، بعينين ممسوحتين بضوء الصبح الحليبي.
لا أستطيع تقريبًا تذكر شيء آخر إلا المطر في الإفريز وصوت لوثيانا مختلطًا بضجيج الماء. كنت أشعر بأن رأسي خالٍ والشيء الوحيد الذي كنت أنتظره أن أرى تاكسيًا يعبر، أن أركب، أن أروح إلى البيت، أن أدخل السرير معها. لكن ما من تاكسي كان يمر ولا ظله ولوثيانا كانت تتنزه من جانب لآخر. كنتُ أمسكها من كوعها لكنها كانت تتحرك في فضاء لا معنى له، بشعر يمحو عينيها وبوجه رمادي، كانت تتحرك وهي تبدو مثل يد تهتز بحيطة، متحسسةً لترفع من الأرض كومًا من زجاج مكسور.
حتى لمست وجهي بغتةً بشفتيها ودخلت في المطر.
كانت تسير بتمهل، ملتوية تمامًا، تطفو في ضباب رمادي، حتى أني فكرت أنها ستعود. وعبثًا فكرت أنها كانت تبتعد لكنها ستعود؛ ورأيتها ترحل، وحين ركضت إليها توقفتْ، مالت وتحسستْ الأرض ثم قفزتْ بقدم وبذراع ممدود وأنا صرختُ فيها أن تعود وربما لم تسمعنى بسبب المطر أو لم يعد يهمها شيء إذ واصلت السير حافيةً بحذائها في يدٍ، متضائلةً كلما ابتعدتْ حتى صارت مجرد نقطة رمادية في وسط الشارع.
وأنا بقيتُ هناك، من دون أن أفكر في شيء، منتظرًا أن يتوقف المطر لتعود، لتسير بلا تسرع متجاوزةً المستنقعات، بينما تتسلل الشمس بين السحب، والمتاجر تبدأ في فتح أبوابها ولوثيانا تمشي بمكان ما تحت هذا المطر، متأملةً أيضًا وجوهًا متجمدة لمن يصحون فجرًا مدهوشين من تلك المرأة المبلولة والحافية، ذات الشعر الملتصق بوجهها، بعينين مختبئتين حتى لا تواجه ضوء الصبح الرفيع وهو يدخل عبر نوافذ بيتها الكبيرة، ومستلقيًا على كرسي ليعميهم، وليختبئ في ظلام الليل الرقيق، ولينسى بالخارج النهار الذي يتسلل بعد قليل فيما هي تترك فستانها ينزلق من على جسدها المبلول، لتبقى عاريةً كما عثروا عليها، وفيما كانت النوافذ موصدة والبيت معتمًا، كانت لوثيانا بذراعين تغطيان عينيها كمن يحاول محو الشمس، نائمة على ظهرها على الرمل وبالقرب من البحر، وقت الظهيرة.

*****

يمثّل ريكاردو بيجليا (1941-2017) أحد أهم اللحظات المفصلية في تاريخ الأدب الأرجنتيني الحديث في الثلث الأخير من القرن الماضي وبدايات هذا القرن، وثمة من يعتقد أنه أحد أبرز الروائيين في لغة ثيربانتس. كما أنه مثّل صورة "الأديب" بمعناها الواسع: الراوي، الناقد الأدبي، كاتب المقال، الأكاديمي والمنظّر للأدب.
ومثلما سبق أن أشرنا عقب رحيله في يناير 2017، عاش بيجليا في الأرجنتين تحت حكم الديكتاتور بيرون، ثم قرر الهجرة إلى الولايات المتحدة في أواخر الستينيات تحت حكم الديكتاتور أونجانيا، إذ بلغت الرقابة أقصى درجاتها خاصة على السينما والمسرح، بالإضافة للتهديدات التي كان المثقفون يتلقونها. وفي الولايات المتحدة عمل بروفسورًا في العديد من الجامعات من بينها هارفارد. وأثناء ذلك أنجز أبحاثًا عن بورخيس وبريخت وفالتر بنيامين وروبيرتو أرلت وكافكا. كما أنجز رواياته "تنفس صناعي"، "المدينة الغائبة"، "الفضة المحروقة" و"أبيض ليلي"، فيما أنجز "الطريق إلى إيدا"، روايته الأخيرة، عقب عودته النهائية لبوينوس آيرس عام 2011، حيث قرر أن تكون أرض موته كما كانت أرض ميلاده. بذلك خرج من بلده قاصًا مكرّسًا بمجموعات مثل "رقيق هو الليل" و"اسم مزيف" وعاد إليها روائيًا مترجمًا إلى أكثر من ثلاثين لغة، وناقدًا بأكثر من عشرة أعمال مثل "قراءة الأدب"، "أشكال مختصرة"، "القارئ الأخير"، "الطليعيات الثلاث". والحقيقة أن إضاءاته النقدية اللامعة ساهمت في التعريف بالرواية اللاتينية وكشف خلفياتها الجمالية والثقافية، كما قدمت منظورات حديثة عن فن القصة والرواية.

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
13 أبريل 2019
ترجمات
4 أغسطس 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.