}

رواية "التراب الأميركي".. عذاب المهاجرين الهاربين من أوطانهم

أسامة إسبر أسامة إسبر 23 ديسمبر 2019
تغطيات رواية "التراب الأميركي".. عذاب المهاجرين الهاربين من أوطانهم
"دار فواصل السورية ستُصْدر الرواية بالتزامن مع صدورها بالإنكليزية"
نادرةٌ هي الروايات التي تشدّك إلى أجوائها من أول سطر إلى آخر سطر فيها، من خلال قصة محبوكة بدقة فائقة تتنقّل بين الحاضر والماضي وتستشرف المستقبل. وقليلة هي الروايات الناجحة فنياً والعميقة التي تعالج ظروفاً مصيرية يمر فيها بشرٌ من سكان هذا الكوكب، ممن يعيشون فوق خط زلازل الحروب الأهلية والفقر والتدهور الاقتصادي والبطالة والفلتان الأمني والفساد والدكتاتوريات وهيمنة المافيات والكارتلات المخترقة للدولة، أو التي تسيّر جهاز الدولة لخدمة مآربها الإجرامية، كما لو أنها هي التي تمسك بمقاليد السلطة في الخفاء.


تحكي رواية "التراب الأميركي" قصة قد تحدث لكَ أو لي، أو لأي شخص يعيش في ظروف كالتي يعيشها كل من يُجْبَر على مغادرة بلاده والبحث عن وطن بديل. ولقد نجحت الروائية الأميركية جينين كمنز بعد روايتين سابقتين هما "الغصن المتقوّس" و"فتى الهواء الطلق"، وكتاب مذكرات بعنوان "شقّ في السماء"، في إبداع رواية اخترقت حاجز الترجمة إلى اللغات العالمية بسرعة قياسية. واجتمعت عوامل عدة جعلت رواية "التراب الأميركي"، التي ستصدر قريباً عن دار فلاتيرون، تحقق انتصارات على مستويات عدة، فقد تنافست على شراء حقوق نشرها تسع دور نشر أميركية في مزاد علني مفتوح وفازت بحقوق الطبع دار فلاتيرون بوكس بعد أن دفعت مبلغاً كبيراً. كما بيعت حقوق ترجمتها إلى أكثر من أربعين لغة عالمية من بينها العربية (دار فواصل السورية، التي ستُصْدر الترجمة العربية متزامنة مع صدور الكتاب بالإنكليزية)، وتم التعاقد لتحويلها إلى فيلم سينمائي، بعد أن فازت بحقوق إنتاجها شركة "إمبراتيف إنترتينمنت" في سانتا مونيكا بكاليفورنيا. ووصفها الروائي الأميركي دون وينسلو بأنها "عناقيد غضب" أزمنتنا، في إشارة إلى أنها تعادل في أهميتها هذ الرواية العظيمة لجون شتاينبيك.


رواية إنسانية
يعود هذا النجاح الباهر للرواية الذي ستُطرح في الأسواق الأميركية قريباً، إلى أسباب كثيرة أهمها أنها رواية بسيطة صادقة وحقيقية، رواية إنسانية تعزف على وتر القيم الإنسانية العميقة، وتروي مأساة المهاجرين الهاربين من بلدانهم والباحثين عن خلاص في بلاد أخرى، وهم مصممون على عبور الحدود مهما كانت العواقب، لأن الاحتمالات التي تنتظرهم خلف الحدود قد تفتح لهم باب حياة جديدة، وهذا هو الدافع الذي جعل بطلة الرواية ليديا وابنها لوكا يهربان من أكابلكو حيث قتل  قتلة مأجورون تابعون لأحد كارتلات المخدرات، والذي يدعى كارتل "الحدائقيين"، زوجها وجميع أفراد أسرتها، ونجت هي وابنها بالصدفة لأنها ذهبت معه إلى المرحاض كي يتبول لأنه يخاف من الذهاب وحيداً إليه، وفي لحظة دخولها معه بدأ صوت الرصاص يدوي في فناء منزل الجدة حيث كانت العائلة تحتفل بعيد ميلاد الفتاة ينيفير الخامس عشر، وقُتل الجميع بمن فيه زوجها الصحافي سيباستيان الذي نذر قلمه لفضح الكارتلات وإجرامها في المكسيك، فيما اختبأت ليديا وابنها وراء حائط في الحمام ونجيا من موت محتم، وبدأت رحلة هربهما من أكابلكو، التي صارت مسرحاً للقتل ولعنف كارتل المخدرات الذي انتزع السيطرة على المدينة بعد ارتكابه فظائع كثيرة، وكانت رؤوس مقطوعة كثيرة قد بدأت تظهر في المدينة.

وقائع وحقائق وأرقام
تنطلق الرواية من وقائع وحقائق وأرقام، ومن مآس حقيقية تعيشها عائلات أميركية لاتينية في رحلة عبورها المأساوية من بلدانها، في قوافل سير على الأقدام، أو في السفر غير القانوني على ظهور قطارات الشحن، وهنا يبرز في الرواية اسم القطار الذي تهرب على ظهره ليديا ولوكا، "لا بستيا" أو الوحش، والذي يلجأ إليه المهاجرون رغم الأخطار المتربصة فيه وفي محطاته.
ولقد لعبت عوامل عدة دوراً في دفع الكاتبة إلى تأليف هذه الرواية، منها أنها منحدرة من عائلة مهاجرة، واستيائها من السياسة الأميركية الحالية والنظرة السائدة إلى المهاجرين في أميركا والتي تصور القادمين عبر الحدود المكسيكية كحشد من الغوغاء والمجرمين المجففين للموارد، وككتلة سمراء بلا ملامح و"نادراً ما نفكر بهم كأخوتنا في الإنسانية"، كما تقول الروائية في حاشية ختمت بها كتابها.


تصور جينين كمنز معاناة المكسيكيين وشخصيات أخرى من دول أميركية لاتينية مختلفة، بالرغم من أنها أميركية شمالية وليست ابنة المنطقة، لكنها ومن منطلق إنساني بحت ولأنها أرادت أن تكون جسراً لنقل هذه القصص المأساوية للمهاجرين، كما عبرت هي نفسها، اندفعت إلى البحث في الموضوع والكتابة عنه إيماناً منها برسالة الأدب الإنسانية الكونية. وكما هو واضح في رواية كمنز فإن ما يلعب الدور الجوهري في إبداع الرواية هو الكاتب ونظرته إلى العالم وطبيعة المادة التي يتعامل معها ويعجنها ويصنع منها روايته، المادة الروائية هي التي تقود الروائي في مسار فرادة السرد وخصوصية موضوعه، وكثيراً ما تدفع فكرة روائي إلى البحث لسنوات طويلة قبل الجلوس للشروع بالكتابة، ويمكنك أن تتصور الصوت الداخلي لكمنز وهو يقول لها: ابدأْي بالبحث واجمعْي المعلومات والأرقام واقرأي كل ما يتعلق بموضوعك وتحدثي مع المختصين في هذا المجال، والأشخاص العاديين الذين عاشوا هذه التجربة، وزوري الأمكنة التي تدور فيها أحداث قصتك، مثلما زار سلمان رشدي الهند قبل أن يكتب عنها، وبعد ذلك اجلسي وابني عالمك الروائي الخيالي لبنةً لبنة.

وهذا ما فعلته كمنز. فقد نذرت نفسها للبحث في الموضوع لسنوات مدفوعة من قرفها من سياسات الهجرة التي تتبناها الإدارة الأميركية في ظل دونالد ترامب. وقرأت كل ما كتب عن مشكلات الهجرة من المكسيك والبلدان الأميركية اللاتينية الأخرى إلى الولايات المتحدة الأميركية، وزارت المناطق الحدودية وأجرت مقابلات مع الناس العاديين والمهاجرين، وخرجت بمعلومات توثيقية غنية جعلتها أساساً لروايتها المشوقة، والتي لن يستطيع القارئ وضعها من يده حين يشرع بقراءتها، وهذا ما أكده أيضاً الروائي الأميركي ستيفن كينغ حين قال إنه يتحدى أي شخص يقرأ الصفحات السبع الأولى من رواية "التراب الأميركي" ويستطيع التوقف عن إكمالها.


مهاجر واحد يموت
كل ساعة ونصف ساعة
انطلاقاً من معلومات جمعتها الروائية وذكرتها في حاشية ملحقة بالرواية عرفنا أنه "في 2017 كان يموت مهاجرٌ كل 21 ساعة على الحدود المكسيكية الأميركية. ولا يشمل هذا العدد المهاجرين الكثيرين الذين يختفون كل عام.  وفي أنحاء العالم في 2017، وفيما كنت أختتم هذه الرواية، كان يموت مهاجر كل تسعين دقيقة، في البحر الأبيض المتوسط، وفي أميركا الوسطى، وفي القرن الأفريقي. وهذا يعني أن مهاجراً واحداً يموت كل ساعة ونصف ساعة. وهكذا يموت 16 مهاجراً في كل ليلة أضع فيها أولادي في الفراش كي يناموا. وحين بدأت بحثي في 2013، كان من الصعب الوصول إلى هذه التقديرات لأنه لم يكن هناك أحد يتابع الموضوع".
تجمع الرواية بين البناء الكلاسيكي والأسلوبية الحداثية، بين السرد الواقعي التفصيلي والشحن الشعري المكثف، الذي يجعل السرد يتدفق بحيوية على مدى أكثر من 380 صفحة من القطع المتوسط. وتروي، كما ذكرنا، قصة عائلة ليديا ولوكا بصدق وبساطة مركزة على الرهان على إنسانية الإنسان مهما كان الواقع قاسياً، ففي النهاية ستنتصر القيم الإنسانية في أحلك الظروف. ونعرف أن أفراد عائلة ليديا قتلوا بأمر من زعيم كارتل للمخدرات في مدينة أكابلكو المكسيكية يدعى خافيير، وهو شخصية معقدة ذات ميول إجرامية خطيرة رغم أنه يحاول أن يصبح شاعراً، وذلك لأنها عائلة صحافي مكسيكي يدعى سيباستيان واظب في صحيفته على نقد ظاهرة العنف المرتبطة بالكارتلات في المكسيك، في وقت كانت فيه الصحافة المكسيكية هي خط الدفاع الأخير عن القيم والأخلاق، وقام سيباستيان بفضح خافيير وكشف حقيقته وحين قرأت ابنته المقال وعرفت حقيقة والدها المخفية عنها انتحرت في مدرستها الداخلية في لشبونة، مما دفع خافيير إلى الجنون واتخاذ قرار إبادة عائلة الصحافي. ورغم أن الجريمة المنظمة مسألة صارت موضوعاً مكرراً في كثير من الروايات والأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية، إلا أن الروائية تعود إلى هذا الموضوع من منظور جديد، كي تلقي الضوء على وضعنا البشري، وكيف يمكن أن تختبرنا الظروف وتمتحن إنسانيتنا، وما الذي تتكشف عنه هويتنا الحقيقية حين نوضع في سياق لا يترك فيه أمامنا إلا خيارات مؤلمة كي نحافظ على حياتنا ونستمر.


تحتوي الرواية على تصوير فريد من نوعه لأحداث تجري على ظهر قطارات شحن مكسيكية تقوم بنقل البضائع إلى حدود الشمال، هذا الشمال الذي يبدو كأرض موعودة للشخصيات الهاربة. وعلى ظهر قطارات الشحن والتي يستخدمها كل عام أكثر من نصف مليون مهاجر، سافرت ليديا ولوكا بعد أن تعلقا بالقطار وهو يسير وتسلقا إلى ظهره. وعلى ظهر هذا القطار سيتاح لك أن ترى العالم بعينيْ ليديا ولوكا وربيكا وسوليداد وشخصيات أخرى، كانت في وضع مخيف، حيث يمكن في أي لحظة أن يسقط المهاجر في البراري ويموت وحيداً، ويمكن أن يغفو وينزلق عن ظهر القطار وتُبتر ساقه ويبقى ينزف دماءه إلى أن يعثر عليه أحد ما، أو أن يصطدم رأسه بالنفق ويتطوح في المجهول، أو يمكن أن تباغته قوات مكافحة الهجرة الفاسدة والتي تعمل للكارتلات، وهذا قد يؤدي إلى اختطافه واغتصابه أو طلب فدية من أقربائه، وتنتهي الأمور بالقتل والاختفاء.
تلتقي شخصيات من بلدان عدة، على ظهر هذا القطار الملقب بالوحش الذي يقف في محطته الأخيرة على الحدود مع الشمال. والشمال الكلمة التي تتكرر كلازمة في الرواية هو الولايات المتحدة الأميركية، أرض الحلم لكثير من اللاجئين. لكن أن تصل على ظهر الوحش إلى الحدود لا يعني أنك وصلت إلى الخلاص، فعلى الحدود تحتاج إلى مهربين، وتسيطر الكارتلات على طرق التهريب، وفي الطرف الآخر من الحدود الدوريات وجماعات القصاص الأهلية، وهكذا تنطلق ليديا هي وابنها بقيادة مهرب مع كل من الفتاتين سوليداد وربيكا، اللتين تعرضتا لاغتصاب متكرر نظراً لجمالهما ورغم صغر سنهما، وبيتو الذي وُلد في مكب النفايات، وماريسول المبعدة من أميركا والتي تحاول العودة إلى ابنتيها وحياتها السابقة، وشخصيات أخرى غامضة أو يائسة من بلدانها وكلها مصرة على العبور إلى الشمال، حيث الخلاص من عالم لا يشعرون فيه بالأمان ولا يستطيعون العودة إليه.


وعلى غرار قوارب الموت والفساد التي حولت البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة مائية، حوّل المهربون بعض مناطق الحدود الأميركية المكسيكية إلى مقابر جماعية ما تزال قيد الاكتشاف، إذ ما يزال أكثر من أربعين ألف مهاجر في عداد المفقودين. لكن شخصيات الرواية كانت محظوظة. فقد أمن لهم ابن عم سوليداد وربيكا المقيم في الولايات المتحدة مهرباً موثوقاً يُطلق عليه لقب ابن آوى، يحتقر في داخله المافيات رغم أنه يقدم خدمات لها ويساعدها في عملياتها. وهكذا تنطلق ليديا ولوكا والفتاتان مع مجموعة من الشخصيات الغرائبية عبر صحراء سونورا الممتدة بين المكسيك والولايات المتحدة بقيادة صارمة من إل تشاكال أو (ابن آوى)، وبعد مغامرة مضنية، ورغم الخيانات والأخطار المتربصة في كل مكان، تنجح الشخصيات في العبور، وتسمح المسافات الصحراوية اللانهائية والظروف القاسية بأسفار في داخل الشخصيات وفي سبر الأعماق وطرح الأسئلة الصعبة، كمثل حين يسقط بيتو بسبب داء الربو ولا يتمكن من مواصلة السير مشارفاً على الاختناق (هذا الفتى الرائع والشهم الذي دفع قسماً من أجر المهرب عن ليديا وابنها لأنها لا تملك النقود الكافية رغم أنه التقى بهما صدفة على ظهر قطار الشحن المندفع إلى الشمال) تجد ليديا والآخرون أنفسهم عاجزين عن فعل أي شيء. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل سيتركونه ويواصلون طريقهم كي ينجوا بجلودهم؟
تصل ليديا ولوكا في نهاية المطاف إلى أميركا ويعيشان كمهاجرين غير شرعيين خائفين من الترحيل مع أشخاص آخرين في شقة واحدة. لقد نجيا من كابوس مهربي المخدرات كي يدخلا في كابوس الخوف من الترحيل في بلاد صارت ترى في الآخر المهاجر خطراً على أمنها الاقتصادي.


من أهم وأعمق الروايات التي
تعالج موضوع الهجرة
تُعدّ رواية "التراب الأميركي" من أهم وأعمق الروايات التي تعالج موضوع الهجرة، وتتغلغل عميقاً في فضح المسبقات ورهاب الآخر والحواجز الثقافية وهيمنة العنف على الحياة المعاصرة، وتقوم الروائية بإشارة مهمة وهي أن كلمة أميركا لم تعد تشير إلى القارتين الشمالية والجنوبية ولم تعد توحي بالروابط بينهما، وصار يُطلق على سكان أميركا الشمالية "ولايتيين متحدين" أو أشخاصاً من الولايات المتحدة، في إشارة إلى عمق الانفصال وغياب القواسم المشتركة بين القارتين، وربما كانت في هذا إشارة بالغة الدلالة.

*صحافي ومترجم سوري مقيم في أميركا صدرت له أربع مجموعات شعرية، ومجموعتان قصصيتان، بالإضافة إلى عشرات الترجمات عن اللغة الإنكليزية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.