}

بيتر هاندكه.. الأدب وسيلة لرؤية أوضح قليلاً

جوليان هيرفي 17 أكتوبر 2019
ترجمات بيتر هاندكه.. الأدب وسيلة لرؤية أوضح قليلاً
"لا يزال من الممكن تقدير الصرامة والمثابرة اللتين يتبعهما"
يُعد بيتر هاندكه، روائيا، شاعرا، ناقدا، كاتبا مسرحيا ومخرجا سينمائيا، واحداً من أهم الشخصيات البارزة في الأدب النمساوي اليوم. إنه من أوائل المعجبين ببيكيت و"الرواية الجديدة"، بدا لأول وهلة كمثقف طليعي– متأثر بأحداث مايو 1968 – يمزج بين التقشف والهرمسية وحب الاستفزاز لتحقيق توازن مبتكر. بيد أن مسار تطوره لاحقا بدا كما لو كان تشكيكا في هذه الصورة، لدرجة اتهامه بأنه أصبح "مناصرا لمثالية الرومانسية الحديثة أو الكلاسيكية الجديدة". خلال تمرده على الكليشيهات النمطية المبتذلة التي تفرضها علينا وسائل الإعلام، اضطلع على العكس من ذلك في محاولة جديرة لإعادة اختراع أصالة الوجود الإنساني في عالم "ما بعد الحداثة"؛ هذا الصراع مع الصورة النمطية المروجة في وسائل الإعلام الحديثة يأخذ لدى هاندكه بعدا سياسيا متناميا.


المحطات الثورية
أثار أحد أعماله المسرحية الأولى الذي يحمل عنوانا لافتا "إهانة الجمهور" فضيحة مثيرة أثناء عرضه في فرانكفورت بمسرح إيكسبيرمونتا، طيلة دورة 1966 ببرنستون، إذ فجّر اتحاد الكتاب "47" الذي كان يمارس رقابة شديدة نوعا ما على الآداب الألمانية، ضجة كبيرة بمهاجمته الشرسة للجمالية السردية، أو "الواقعية الجديدة" التي دعا إليها غالبية المشاركين. مع ذلك فإن الجوائز الرسمية لم تتجاهله: قبل حصوله على جائزة نوبل للآداب 2019، حاز على جائزة فوكنر 1973، كما فاز قبل ذلك بجائزة غيرهارت-هاوبمان 1967. عند تسلمه لهذه الجائزة، ألقى بيتر هاندكه – المتمرد على لعبة الأجوبة الأكاديمية المتفق عليها سلفا – خطابا ضد الأدب يعبر فيه عن "حزنه وغضبه، غضبه وحزنه" بشأن تبرئة ضابط شرطة متورط مؤخرا في قتل طالب. بعد هذه البدايات الصاخبة، اتجه أسلوبه إلى مزيد من التجريد والبساطة، دون التخلي عن تحقيقاته والتباساته. منذ 1972، أكد هاندكه على الطابع غير العدواني لعمل "إهانة الجمهور" (الذي توقف بمحض إرادته عن عرضه في ذروة النجاح)، واستعاد شهية رواية القصص، بخلفية السيرة الذاتية غالبا، حيث يعيش الناس العاديون والغامضون معا يوما بيوم شرّ الوجود. منذ ذلك، توطد البعد الأتوبيوغرافي بصورة أكثر انفتاحا؛ في الأعمال المهمة المتأخرة. في رواية "سنتي في ضاحية لا أحد" (1994)، تبدو شخصية كوشينغ قريبة جدا من شخصية الكاتب، بحيث نجد أنفسنا تقريبا بإزاء مذكرات متتالية، تتضمن على غرار "ألف ليلة وليلة" حكايات قصيرة مسرودة مجتمعة تحت عنوان "قصة أصدقائي".




إعجاز وعجز اللغة

برغم ارتيابه من "الطقوس النظرية" و"نقد الثقافة"، فقد كرس هاندكه حصة كبيرة من نشاطه في التفكير في حيوية الأشكال وقدرة الكلمة. متأثرا بنظرية فيتجنشتاين للغة، ليس لديه إيمان كاف بوجود حقيقي للعالم ليتمكن من استخلاصه من وساطة الكلمة التي يحاورنا من خلالها. في نهاية المطاف، لا وجود للعالم في نظر هاندكه، لكن فقط كلمة العالم، المضلِّلة والمحبِطة أيضا: "بدلا من معاملة اللغة كما لو كنا نستطيع النظر من خلال زجاج نافذة؛ إنها اللغة نفسها في خيانتها التي يلزمنا اختراقها"؛ من هنا، نلمس في نصوصه الأولى، تلك الصور التي لا تستطيع أن تنقذ نفسها من القوالب النمطية (مرويات ما بين اليقظة والنوم)، وتلك العبارات المحشوة في تراكيب جملتها الخاصة دون التوصل إلى صياغة نهائية (نموذج الحلم)، أو التأكيدات التي بمجرد إقرارها، يتم تفنيدها بواسطة لقطة سينمائية (قلق حارس المرمى). ومع ذلك، تبقى اللغة الملاذ الوحيد للإنسان في محنته: شكّل الأدب منذ فترة طويلة الوسيلة؛ إن لم يكن لأرى بوضوح نفسي، على الأقل لرؤية أوضح قليلا [...] بالتأكيد، لقد وصلت بالفعل إلى الوعي قبل التعامل مع الأدب، ولكن وحده الأدب علمني أن هذا الوعي الذاتي لم يكن "حالة معزولة"، أو "حالة"، أو "مرضا". هكذا، فإن أي عمل حقيقي يمنحنا فهما جديدا لما يحيط بنا، كما يقول هاندكه، فيما يقدم في الوقت نفسه قائمة إعجابه: "كلايست، فلوبير، دوستويفسكي، كافكا، فوكنر، روب- غريلي...غيروا من إدراكي للعالم". يجب إضافة قائمة الكّتاب، ومعظمهم من الفرنسيين الذين اختار ترجمتهم إلى اللغة الألمانية: بوف، شار، بونج ومترجمه جي جولدشميدت. لكن ربما يرجع الفضل إلى رؤية الرسامين في استعادة الثقة في إمكانية قول العالم. درْس لوحة الفنان سيزان "جبل سانت فيكتوريا" سيساعده في إيجاد مكانه في "بيت الألوان"، ويزيد من أمله في شكل من أشكال الكتابة تتيح رؤية الأشياء وفقا لعلاقة قائمة على الانتماء، وليس على الافتراضية الوسائطية.

انعدام الثقة في السياسة

من مواليد 6 كانون الأول/ديسمبر 1942 بغريفين، كارينثيا، لأم طباخة، تخلى عنها أثناء حملها زوجها الموظف بالبنك النازي ووالد الطفل. سرعان ما تزوجت من ضابط الصف الألماني (البؤس اللامبالي). خبر هاندكه مبكرا معاناة الفقر المدقع ماديا ومعنويا كي لا يتغاضى في أعماق نفسه الحميمة عن الإهمال حيث يزج بالمظلومين. لدى هاندكه افتتان بالحيوات البائسة والضيقة، والإهمال الثقافي لأولئك الذين لم يرأف بهم القدر. مع ذلك، يشدد الكاتب على تعريف نفسه بأنه "ساكن البرج العاجي"، باعتبار أن الخلط بين الأدب والعمل السياسي يبدو مهزلة. لأن الاضطرابات السياسية المباشرة لا تؤدي فقط في نظره سوى إلى إضعاف الكاتب، والإرغام على استعمال أساليب الخصم التقليدي؛ بل إن طبيعتها ذاتها تعطله أوتوماتيكيا: "الأدب يحول كل ما هو حقيقي إلى أسلوب، بما في ذلك الالتزام... يجعل كل الكلمات غير صالحة للاستعمال ويفسدها بصورة تدريجية. لا يمكن للمؤلف التأثير على المجتمع من حوله إلا من خلال ممارسة نشاطه بكل صرامة ككاتب"، لأن "القضايا الجمالية هي في الواقع قضايا أخلاقية". لذلك فهو لا ينحاز لبريخت، رغم أنه يعترف بديْنه: "لم يبلبل الآخرين الذين لم يكونوا كذلك، لقد أهدى فقط بضع ساعات ممتعة لجمهور غفير".
سيتسبب هذا التعاطف مع صربيا في فضيحة عندما سيحضر جنازة سلوبودان ميلوسوفيتش في 18 آذار/مارس 2006 معلنا: "العالم، العالم المزعوم، يعرف كل شيء عن يوغوسلافيا، وصربيا [...] العالم المزعوم يعرف الحقيقة. لهذا السبب فإن العالم المزعوم غائب اليوم. وليس اليوم فقط. وليس هنا فقط [..] أنا لا أعرف الحقيقة، لكن أنا أشاهد، أنصت، أشعر، أتذكر. أنا أتساءل. لهذا السبب أنا هنا اليوم". ردود الفعل كانت عنيفة: في دوسلدورف اختارته لجنة تحكيم جائزة هاينريش هينيه كفائز، لكن البلدية عارضت ذلك. هاندكه اعتذر من تلقاء نفسه عن الجائزة، لكنه قام بالرد معربا عن أسفه "إن الأخلاق أصبحت في هذا الزمن كلمة بديلة لقول التعسف". في فرنسا، أثار مارسيل بوزنيت المدير العالم للكوميديا الفرنسية زوبعة من الردود بإلغائه برمجة مسرحية هاندكه "رحلة إلى البلد الصوتي، أو فن السؤال" التي كانت مقررة في 2007.مقارنةً بفوكنر أو بيكيت، يعتبِر بريخت مؤلفا من الدرجة الثانية. مما أدى إلى تعرضه إلى أحكام قاسية في ألمانيا الشرقية، حيث يعرِّفه قاموس ماير كما يلي: "التأثير المُمارَسِ من طرف هاندكه الذي يواصل التجارب البنيوية على اللغة إلى مستوى يكاد يكون عبثيا رافضا كل التزام اجتماعي يؤكد العجز الثقافي للإمبريالية، ويُظهر هاندكه نفسه كممثل للتلاعب بالوعي في رأسمالية اليوم". على الرغم من أن مفهوم الكتابة الملتزمة يظل غريبا عنه تماما، إلا أن هذا التحفظ السياسي يخف لدى هاندكه؛ إذ نلمس شعورا بالذنب ناجم عن الإرث النازي يسيطر على نص "صيني الألم". عندما كان مستقرا بالنمسا في تلك المرحلة، كان هاندكه يشعر على غرار مواطنه توماس برنار بالضيق الشديد أمام فظائع النازية المرتكبة في بلده. البطل أندرياس لوسر، المتخصص في الأبحاث الأثرية على "العتبات"، يعاني عدم الاستقرار بسبب اكتشافه عنفه، عندما هاجم شخصا غريبا. هذا العنف سيقوده إلى الانتساب إلى "سلالة الأشرار" عندما يرتكب جريمة قتل للقضاء على "المعرقِل" الذي يلوث الصلبان المعقوفة على طريق مونشسبيرج، كتجسيد مطلق للشر في حد ذاته لا يمكن السكوت عليه. أثناء المأساة اليوغوسلافية، سينقلب هاندكه على بعض معجبيه السابقين. في رحلته الشتوية إلى نهر الدانوب ومورافا ودرينا، أعرب عن عدم ثقته في المثقفين الذين يحسمون في كل شيء دون التحقق من أي شيء، وفي جحافل الثائرين "عن بُعد" الذين لا يفرقون بين وظيفتهم المتمثلة في الكتابة وبين وظيفة القاضي، وحتى بين دور الديماغوجي. لقد رأى في ردود الفعل السائدة في الغرب مثالا جديدا على خطورة الصور التي تحل محل دقائق العلاقة بالواقع: "ما الذي يعرفه الشخص الذي نمنحه للرؤية بدلا من الشيء، صورة للشيء فقط، أو الشخص الذي لا يتلقى سوى ملخص الأنباء التلفزية، أو كما هي الحال في عالم الاتصال ملخصا للملخص؟" في مقابل ذلك، سيجري تحقيقه الخاص، ليس بهدف إبراز فضائح سياسية مدوية، بل لإقرار كرامة الشعب الصربي. وعلى عكس البساطة المباشرة لهذه الشهادة، فإن الكتيّب الصغير الصادر عام 2003 عن الصرب حول المحاكمة الكبرى يترك انطباعا مربكا وغير مقنع.

فراغ العالم المهجور

بغض النظر عن كل توجه سياسي، فإن أعمال هاندكه هي في المقام الأول إدانة للحالة الإنسانية. تركيزها على الموضوعات التي تبدو متداولة – العزلة، عدم القدرة على التواصل، غياب أي ملاذ متسام، وأيروسية بائسة حيث علاقة الإنسان بجسده تشبه علاقته بآلة غريبة عنه – تمّ تجديدها من خلال كثافة الرؤيا الاستثنائية، كما أنه من خلال اللامبالاة والحياد تنبعث العاطفة وتغمر كل شيء. يتأسس سر الابتذال عند مطلع عبارة أو إجابة أو مخطط. أشخاص غائبون، محاطون بالصمت وعدم فهمهم لأنفسهم – وغالبيتهم من النساء اللاتي يتطرق إلى قضاياهن برقة بالغة– ينتهي بهم المطاف بالكشف عن أنفسهم في إيماءاتهم، حركاتهم، رفضهم، وحتى تهربهم. هاندكه يمارس بإتقان تام فن "التلميحات المهذبة"، الوفية بمبدئها الجمالي الذي ينص على أن أي عمل يجب أن يجعل "الوعي إمكانية جديدة لواقع لا يزال فاقدا للوعي، وإمكانية جديدة للرؤية والحوار والتفكير"، بصفته مترحلا ومستأصَلا ("الرسالة الموجزة" تعكس صعوبات زواجه؛ حيث أقام بشافيل بضواحي باريس التي غادرها إلى النمسا قبل العودة إلى هناك من جديد). إنه يشبه صديقه المخرج السينمائي ويم ويندرز الذي اشتغل معه في عدة أفلام؛ سيد الترحلات والمتتاليات الوصفية الطويلة التي لا يتصورها كتعبير عن "واقعية جديدة" لكن كـ"وسيلة ضرورية للتوصل للتفكير". كان من الطبيعي أن تقود هذه الميزة الاستثنائية للرؤية هذا العاشق للسينما إلى طرق الإخراج، كاشفا مع "المرأة العسراء" اهتماما بالمباحث التشكيلية وهوسا جماليا يفاجئان قليلا في تعارضهما مع الرصانة التي تميز كتاباته. هاندكه الذي سيخرج وحده "الغياب" عام 1993، قد عمل بالفعل ككاتب سيناريو مع العديد من المخرجين، بما في ذلك بونوا جاكوت لاقتباس رواية هنري جيمس "أجنحة الحمامة" في عام 1981، لكن فقط تعامله مع ويم ويندرز ضمن له أعظم نجاحاته. بعد "قلق حارس المرمى" (1972)، و "حركة كاذبة" (1975)، و"أجنحة الرغبة" (1987)... شكلت كل هذه الأفلام نقطة توازن حيث وجود ويندرز ساهم في تفعيل عالم هاندكه من خلال تعزيز بعده التاريخي، مع إفساح المكان للسخرية والحلم؛ حيث تدأب الصورة هنا، كما الكلمة في مكان آخر، على إفشاء أسرار الآخرين بتواطؤ متحفظ.
هذه النظرة الثاقبة التي تتعارض مع الاندفاع ما بعد الحداثي للصور تجد في كتابات هاندكه المتأخرة بيئتها النظيفة. فإذا كانت العلاقة مع الآخرين لا تزال إشكالية، إلا عندما يتعلق الأمر بالأطفال؛ فإنه يتم تأكيد حضور الراوي في العالم بقدر متزايد، بفضل استعادة الثقة في قدرات اللغة. وغالبا ما ترقى الصور إلى مستوى التجلي، بالمعنى الجويسي للمصطلح، في "سنتي في ضاحية لا أحد"، أو تلك المتعلقة بعلاقات الترحلات، حتى "تلاشي الصورة". بصرف النظر عن أي رد فعل منحاز، لا يزال من الممكن تقدير الصرامة والمثابرة اللتين يتبعهما هاندكه، في عمل أدبي لا يجيز أدنى تنازل للموضات المتداولة.

*****

جوليان هيرفي (1953) جرماني تخرج من المدرسة العليا (دفعة 1957)، شغل منصب قارئ فرنسي في جامعة برلين الحرة (1960)، بعد انضمامه إلى سلك التبريز في الأدب الحديث. قام بتدريس الأدب المقارن بكلية الآداب ببواتييه منذ 1964 حتى 2004 كأستاذ من رتبة استثنائية.
أشرف في مكتبة لابلياد الشهيرة على إخراج "مذكرات إرنست يونغر"، كما شارك ضمن فريق السلسلة ذاتها في إخراج الأعمال الكاملة "الروايات، القصص، والحكايات" لدريو لاروشفوكو الذي التزم منذ زمن بإعادة نشر أعماله ورد الاعتبار إليها في عدة مقاربات نقدية.
من أعماله: "شخصيتان ضد التاريخ: دريو لاروشفوكو وإرنست يونغر" (1978)، "مقابلات مع إرنست يونغر" (1986)، "في عواصف القرن: إرنست يونغر" (2004)، إضافة إلى العديد من الترجمات الفلسفية الألمانية والدراسات النقدية التي كرسها للأدب الجرماني.

 

* ترجمه عن الفرنسية: ميشرافي عبد الودود

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.