}

رد اعتبار

ريكاردو بيجليا 4 أغسطس 2018
ترجمات رد اعتبار
لوحة للفنان خليفة الدرعي
بينما كانت الطائرات تطير في سرب وتحلق نحو النهر ملامسةً الماء، تذكر فابريثيو أنه قد قرأ منذ لحظة، وفي المانشيت الرئيسي لجريدة "لا برينسا": "اليوم 16 يونيو، رد الاعتبار للعَلَم"". أدهشته الصدفة. يوم تصالحه مع زوجته تحدث هذه الحشود في "ميدان مايو".

كانت إليسا قد هجرته منذ شهرين، لكن فابريثيو كان مستعدًا ليغفر لها. فقط كان ينتظر منها إيماءة رقة وندم. هو أيضًا كان يمكن أن يطلق "رد اعتبار" على ما كان على وشك أن يحدث.

السماء بيضاء بالطائرات في عمقها، طائرات تلمع مثل قماشة مبتلة. ومجموعات من المتظاهرين كانت تصل في شاحنات إلى الشوارع الجانبية. لم تكن ثمة لافتات، لم تكن ثمة شعارات، أناس يحتشدون فحسب. فكّر فابريثيو أنهم مثل الخراف. سوداء. مظاهرة خراف سوداء.

لم يكن مهتمًا بالسياسة، فالمصائب دائمًا شخصية. إن كانت السياسة فن الممكن، كما اعتادوا أن يقولوا، فالحياة كلها إذن سياسة. كرر هذه العبارة لأنها كانت تصبغ بمعنى شخصي أحداثَ حياته الأخيرة.

كان علمًا أرجنتينيًا قد ظهر محروقًا في فناء الكاتدرائية المفتوح. وكان الرئيس بيرون يدين نشطاء "النشاط الكاثوليكي". كانت ثمة شائعات كثيرة عن التوتر العسكري، البحرية كانت في وضع الاستعداد وهذه الطائرات الغلوستر ميتيورز يمكن أن تكون تابعة للبحرية.

كان لـ فابريثيو قناعاته وافتراضاته الخاصة. كان يبدو أن الأمور معقدة، لكن الأمور لم تكن معقدة، كانت فقط مفككة. الجميع يبدي رعبًا متعمدًا مع حرص على الظهور بمظهر المرتعب أكثر من الآخرين، كأن إشعال النار في خرقة سماوية وبيضاء كارثة لها عواقب غير محسوبة.
كان يرى كل ذلك مرتبطًا بشكل غريب بحياته. نفس المنطق المتهور والمدمر الذي يملأ الشوارع هو ما دفع زوجته لهجره.

كان ينتظر مصادفتها في بار "لا ريكوبا"، بالدور الأرضي لبناية الكونسرفاتوار حيث كانت تعمل كمدرسة للكمان.

أكثر ما كان يشتاق إليه هو صوت كمان إليسا. كان هذا الصوت يشكّل عمودًا في علاقتهما. كانت تستيقظ مبكرًا وقبل الذهاب للكونسرفاتوار تمارس دروسها. وكانت الموسيقى تصل إليه مثل نعمة تأتي من عمق البيت. والآن، عندما كان فابريثيو يفتح محل النظارات الذي ورثه عن أبيه، كان يبدو له الصمت منعزلًا وفارغًا مثل حياته ذاتها.

كان كلما تقدم خطوة في شارع مايو، رأى تكاثر الحشود. ثمة رجال ملثمون بأوشحة لكن بصدور عارية ينزلون علبة كيروسين من شاحنة تركن بالقرب من بناية كابيلدو. كانت نوعًا من طبلات مستديرة وفارغة، وثمة رجل طويل بشعر ملون وبوجه يشبه الفأر يربطها على خصره بحزام، ثم بدأ يطبّل ويصرخ بشعارات ضد القساوسة وبائعي الأوطان. كان يلبس قفازًا من الصوف في يده اليمنى ويضرب العلبة بعصا رصاصية.

عبر فابريثيو بينهم، بوجه رجل لطيف، كأنه أيضًا أحد مؤيدي بيرون الذين ذهبوا إلى الميدان للصراخ بحماقات وضرب العلب الفارغة.

ما كانوا ليرهبوه. كان يشعر بحماية. ومنذ شهور كان يسير مسلحًا. كان يدس مسدسًا في خصره، ويشد عليه الحزام. وكان قد حصل على تصريح من القاضي لأنه كان عميلًا في محل النظارات.

لقد تخيل مرات كثيرة أن رجلًا حاسمًا ويائسًا- انتحاريا، عاشقا مهجورا- يمكن أن يغدو قادرًا على فعل ما لا يفعله الآخرون. كأن يقتل بيرون مثلًا. فإن فكّر امرؤ في قتل نفسه، سيكون ممكنًا حينئذ فعل أي شيء. وكانت هذه الفكرة تهدئه.

أحيانًا، في ليالي الأرق التي أعقبت قرار إليسا، كان يضبط نفسه ينتظر بيرون عند عتبة البيت. كان قد شاهد رسمة لاعتداء على القيصر في مجلة أوروجوانية قديمة. وكان يرى عربةً ورجلًا واقفًا في وسط الشارع بذراع أيسر ممدود وسلاح مشدود زناده في اليد. كانت الصورة تعاوده، مثل ذكرى شخصية. وكان بيرون يهبط مبتسمًا من عربة فيما يرفع فابريثيو ذراعًا ويقتله بطلقة واحدة. كان يرى الرعب في عينيّ بيرون، خلف ابتسامة لطيفة. لم يكن بوسعه اجتثاث هذه الفكرة من رأسه. الدم، الحشد، الصرخات.

كان في تلك اللحظة في ميدان مايو. والناس كانوا يتراكمون بكل فوضى في الشوارع الجانبية، حيث اجتمع الذين هبطوا من الشاحنات وبدؤوا في الصراخ. كانوا يفعلون نفس الشيء كل يوم، لكن كل يوم كان مختلفًا وغريبًا، كما يحدث في الحلم. وكانت الباصات الكبيرة والعربات تجول بالشوارع، والمتاجر كانت مفتوحة، والمشاة يعبرون لا مبالين بين المتظاهرين المتحمّسين.

في البداية حرقوا العلم ثم ردوا له الاعتبار، هكذا فكّر فابريثيو، وبحث عن الطائرات في الهواء المثلج.

كان يجب أن يصل إلى منطقة "باخو" وإلى "باسيو كولون". كانت إليسا تخرج من الكونسرفاتوار عادةً في نفس الساعة كل يوم وكانت تجلس في بار "لا ريكوبا" لتتناول قهوة بالحليب. كان قد راقبها لأسابيع كاملة. كان يعرفها جيدًا.

هل كان يعرفها جيدًا؟ لقد هجرته، يومًا وراء يوم، من دون أن تشرح له السبب، ومن دون أن تطلب منه شيئًا. قالت له إنها قد قررت أن تعيش كل يوم في حياتها كأنه اليوم الأخير. ما معنى ذلك، لم يكن فابريثيو يفهم. كان يفهم فحسب أنه اصطدم بمكواة معدنية منذ الأمسية التي عاد فيها إلى بيته ووجد زوجته مرتدية ملابسها وتستعد للخروج. وكانت حقيبتها جاهزة.

كانت الغيرة تثير جنونه. كان يراها مع رجال آخرين، كان يسمع أصواتًا، كان يهلوس. وكان المجهود الذي يبذله ليبعد هذه المرأة عن ذهنه يختصره في حالة عقلية من المستحيل وصفها.

رد اعتبار، كانت الكلمة تروق له. لكن إليسا لم تكن تعرف أن هذا هو اليوم المختار. لم تكن تعرف أنه سيروح ليبحث عنها ليعيدها إلى البيت. كان قد أعد كل شيء بعناية كبيرة حد أنه لا يستطيع الرجوع إلى الوراء ولا تغيير الخطة وكان يتخيل الأحداث بدقة، العشاء مع الشامبانيا، غرفة النوم، الليلة التي تُختم بالغفران.

لم يكن يبحث عن يوم مخصوص. ببساطة كان قرر أن ذاك هو اليوم وكان قد صادف هذه الحشود في الميدان. كل ما كان يخشاه أن تغير زوجته عاداتها أمام إمكانية حدوث شغب. لكنه رآها تخرج من حانة "لا ريكوبا"، كما تخيل أنه قد رآها، جميلة وأنيقة ببدلة مفصّلة ساعدها هو على اختيارها.

كانت إليسا في الناصية. كان يبدو أنها ستعبر الطريق وتبتعد عن الميدان، وأنها ستركب المترو. كان شعرها أشقر وملمومًا ببساطة، وكانت تتحرك بأناقة وحسية. تساءل فابريثيو لماذا كان يشعر بالارتباك عندما رآها، لم يكن يستطيع التنفس، كان قلبه يخفق. كان يحبطه أن اقتراب إليسا البسيط يدمر، بهذا الشكل، إقدامه. لم يكن إقدامًا ما يحتاج إليه، إنما قدرة على إقناعها.

في تلك اللحظة، اقتربت الطائرات مرة أخرى من الميدان قادمةً من النهر. وتحركت الحشود بتوتر عندما حلقت الطائرات على ارتفاع متوسط ودارت لتقترب قادمةً من بعيد. كانت ثمة صرخات. وثمة من ركضوا.

أدرك فابريثيو أن الحظ بجانبه. كان سيقول لها إنه كان يمر من هنا، لم يكن يريد إلا اصطحابها معه، وإبعادها عن الخطر.

عبر بين الناس وسار بسرعة ناحيتها. كانت إليسا تبدو كمن تنظر إليه لكنها لا تراه، فيما كانت منتبهة لحركات الطائرات الغريبة التي تحوم حول الميدان بينما تتحرك الحشود في دوائر.

كان فابريثيو يسير بجانبها. كان أقصر منها، كان صلبًا ويبدو سعيدًا. أومأت إليسا بإيماءة مفاجئة وتناقض. ثم لفّت لتهرب، فأمسكها من ذراعها.

- أطلقني، ماذا تفعل؟- قالت.
- جئت لأبحث عنك.
- لكن ألا ترى الاضطراب هناك.
- لذلك جئت، أريد أن تأتي معي.
- أنت مجنون. أنا لا أريد أن أعرف عنك شيئًا.
- لا تكذبي- قال فابريثيو-. كل شيء سيكون مثلما كان. أنا غفرت لك.
نظرت إليه بنظرة غريبة.
- لكن ماذا تقول يا معتوه. لو قتلتني لن أعود معك.
أدهشته سوقيتها. تحدثت معه كأنه صبي.

ثم تحركتْ لترحل، فشدها فابريثيو بقوة من ذراعها، من فوق كوعها. وشعر بقماشة البدلة التويد الخشنة. وحينئذ، في تلك اللحظة، بدأت الطائرات تقصف الميدان. كانت الطائرات تنزل ببوزها وتعاود النهوض وتنزل مرة أخرى ناحية المدينة، تلامس مجلس الحكومة، وتطلق القذائف في الشارع.

ثمة انفجار غريب، مسبب للصمم، سُمع صخبه في حافة لا ريكوبا وتفتت الترام عندما تلقّى قنبلة. وكان الناس يتساقطون فوق بعضهم؛ كان يشاهدهم من النافذة الصغيرة وهم يتحركون وينتفضون، من بعيد، كأنهم سقطوا في جو من القذارة. كانت المقاعد الفارغة منتزعة من أماكنها. ثمة امرأة كانت تفتح أذرع الساقطين وتغلقها، كانت تصرخ، في صمت، من الجانب الآخر من الزجاج.

كل شيء حدث في لحظة، تقهقرت إليسا، وفابريثيو لم يطلق يدها. كان الناس يركضون، وكان الضجيج لا نهائيا. كانا فوق "الباسيو كولون"، في مأوى. سحبها صوب لا ريكوبا. وكان الدخان والخراب يعتّمان السماء. وفجأة انطلقت سارينات الإنذار. أمام هذه اللحظة عرف فابريثيو ما كان سيحدث.

- اهدئي- قال وأخرج السلاح.
نظرت إليه مصعوقة.
- لا- قالت. وصلّبت على نفسها.
سمعا ضجيجًا جافًا، مثل صخب فرع شجرة يسقط. والصوت ضاع بين أصوات المدينة الملتهبة.
كان الدخان يملأ الشوارع، والحطام، والعربات المحروقة. وكانت إليسا ملقاة فوق الرصيف. بعينين مفتوحتين وفي عينيها تحتفظ بتعبير ذهول وسخرية. دفعها فابريثيو بقدمه وأعاد المسدس إلى خصره.
- لا بد أن المترو لا يعمل- قال لنفسه-. سأضطر للسير.
كان رجلًا بوجه معوجّ وشعر رمادي يبتعد صوب جنوب المدينة، كان يغمغم ويصدر إيماءات بين الجثث والخرائب.

----
• ريكاردو بيجليا (الأرجنتين 1946-2017) أحد أبرز الكُتّاب الأرجنتينيين في الثلث الأخير من القرن الماضي وبدايات هذا القرن. روائي وقاص وأكاديمي وناقد فذ، له العديد من الأعمال الهامة التي وضعته على قمة كُتّاب أميركا اللاتينية، مثل "أبيض ليلي" "تنفس صناعي" "المدينة الغائبة"، وله العديد من الكتب النقدية التي نظّر فيها للسرد اللاتيني.

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
13 أبريل 2019
ترجمات
4 أغسطس 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.