}

الاستقلال: اسمٌ آخر للكرامة

إدواردو غاليانو 28 يوليه 2018
ترجمات الاستقلال: اسمٌ آخر للكرامة
إدواردو غاليانو
 
نصّ الكلمة التي ألقاها إدواردو غاليانو بتاريخ 22 شباط/ فبراير 2011 في الحفل الذي كُرِّمَ خلاله بمنحه شهادة الشرف، وميدالية 1808، وذلك بمناسبة الاحتفال بمرور 200 سنة على استقلال المكسيك، والذكرى المئويّة الأولى للثورة المكسيكية، بحضور حاكم المدينة مارسيلو إيبرارد Marcelo Ebrard.
*   *   *
أريد تكريس تحية الإجلال هذه للذكرى الحيَّة لشخصَين يُدعيان كارلوس: كارلوس لينكرسدورف (1) وكارلوس مونسيفيز (2)، صديقان عزيزان جداً توفيا، لكنهما ما زالا باقيين.
أبدأ بالقول شكراً: شكراً مارسيلو لهذه الهدية، لهذه البهجة. أقول شكراً باسمي الشخصي وأيضاً باسم الكثير من الجنوبيين الذين لن ينسوا أبداً عرفانهم للمكسيك، بَلَد منفاهم، لائذين به من حملة الإعدامات في سنوات البذاءة والخوف لدكتاتوريتنا العسكريَّة.
كما أريد أن أؤكِّد أن المكسيك تستحق، لهذا ولأسباب عديدة أخرى، كلّ تضامننا، كون هذه الأرض العزيزة تقع ضحية نفاق النظام العالمي الداعي للذهول وريائه، حيث البعض يدسّ أنفه فيها، والبعض الآخر يقوم بتجهيز الجثامين، والبعض الثالث يُعلن الحرب، والبعض الآخر يتلقى الرصاص.
هذا الفعل الكريم يسبغ الشرفَ عليَّ بسبب الجهة التي تولته. إنّ مكسيكو سيتي هي الجبهة الأماميَّة في القتال من أجل الحقوق الإنسانيَّة، وعبر مدى واسع يبدأ من التعددية الجنسيَّة ليصلَ إلى الحق في التنفس، الذي يبدو أنه فُقد.
كما أني أتشرف بقبول هذه الهدية، لأنها ذات صِلة قوية بالتحدي: ما زال الاستقلال في بلداننا، في القسم الأعظم منها، عَمَلاً ينبغي إنجازه، عَمَلاً يدفعنا لأن نجتمع معاً كلّ يوم.
في مدينة كويتو (عاصمة الإكوادور)، في اليوم التالي للاستقلال، كَتَبَت يدٌ مجهولةٌ على جدار: اليوم الأخير للطغيان واليوم الأوّل للطغيان نفسه.
وفي بوغوتا (عاصمة كولومبيا)، بعد ذلك بوقتٍ قصير، حَذَّرَ أنطونيو نارينو (3) من أنَّ الانتفاضة الوطنيَّة بدأت تتحوّل إلى حفلة تنكريّة، وأنَ الاستقلال باتَ في أيدي سادةٍ يتحلون بقسطٍ كبير من النشاء وكثيرٍ من الأزرار، وكتبَ: لقد قُمنا باستبدال أسيادنا.
أما التشيلي سانتياغو آركوس (4)، فأرسلَ من السجن:
- تمتعَ الفقراءُ بالاستقلال المجيد وسعدوا به، تماماً مثلما تقاضت الخيولُ ضد جنود الملك في تشاكابوكو ومايبو. (5)
وُلِدَت جميعُ شعوبنا وسط الأكاذيب. لقد تخلّى الاستقلال عن أولئكَ الذين عَرَّضوا أرواحهم للخطر وهُم يقاتلون في سبيله، كما أنّ النساء، والأُميين، والفقراء، وأهل البلاد الأصليين، والسود لم يُدْعَوا لحضور الحفلة! أقترحُ أن نلقي نظرةً على أُولى تشريعاتنا، التي تمنحُ هَيبةً قانونيَّةً لهذه التشويهات. لقد ضَمِنَت التشريعات حق المواطنة للأقليَّة القادرة على شرائه، وظلَّ الآخرون غير مَرئيين.
أُلْحِقَت بسيمون رودريغويز (6) سُمعة أنه مخبول، وهكذا دُعي: المجنون. قالَ أشياء جنونية، مثل:
- نحنُ مستقلون، لكننا لسنا أحراراً. تشكِّلُ كُلٌّ من حِكمةِ أوروبا ورخاء الولايات المتحدة، في أميركا خاصّتنا، العدوَّ ضد حريّة التفكير. لا ينبغي على أميركا الخاصّة بنا أن تقوم بالتقليد العُبودي؛ بل أن تكون أصيلة.
وقال أيضاً:
- نحنُ نعلّم الأطفال أن يتحلوا بالفضول، ليكون بمقدورهم الاعتياد على إطاعة العقل والصواب: لا لسلطةٍ كالحمقى، أو لتقليدٍ كالبُلهاء. بإمكان أي شخص أن يُضلِلَ مَن لا يعرف وأن يخدعه. وبإمكان أي شخص أن يشتري مَن لا يملك.
السيد سيمون قالَ أشياء مجنونة وعملَ أشياء مجنونة. ففي عشرينيات القرن الثامن عشر جَمَعَت المدارسُ، التي أنشأها، الأولادَ مع البنات، الفقراءَ مع الأغنياء، أهل البلاد الأصليين مع البيض، كما جَمَعَت بين الرؤوس والأيدي، لأنهم تعلّموا القراءة والاشتغال بالخشب والتعامل مع الأرض. المُقدَّسات اللاتينيّة (الصلوات) لم تُسمع في غرف الدرس، وتحدَّت تلك المدارس عادات احتقار العمل اليدوي. غير أنّ التجربة لم تدم طويلاً. لقد عملَت الأصوات المهتاجة الصاخبة على إقصاء هذا "الأمر العجيب" وطرده بدعوى إفساد الشباب، وقامَ على أثر ذلك مارشال سوسر، رئيس البلاد التي تُدعى الآن بوليفيا، بتقديم استقالته.
ومنذ ذلك الوقت، بدأ سيمون بالترحال على ظهر بغل، جائلاً كالحاج على طول شواطئ المحيط الباسيفيكي وعبر جبال الأنديز، مؤسساً للمدارس وطارحاً لأسئلةٍ لا تُحتمَل على أولئكَ الذين باتوا في السلطة حديثاً:
- أنتم، الذين تقلدون كلَّ شيء يأتي من أوروبا والولايات المتحدة، لماذا لا تقلدون ما هو أصيلٌ ويتسم بأهميةٍ أكبر؟
وهكذا آلَ هذا الجَوَّابُ المتشرد، الأصلع، البشع والمتكرِّش؛ هذا الأكثر شجاعةً والمحبوب للغاية من مفكري البلاد الأميركيّة اللاتينيّة، آلَ لأن يكون أكثر توحداً مع نفسه كلّ يوم، وماتَ وحيداً.
كتبَ وهو في الثمانين من عمره:
- أردتُ أن أجعلَ من الأرض فردوساً للجميع. لقد جعلتها جحيماً لنفسي.
كان سيمون رودريغويز رجلاً فاشلاً. وفقاً لمعايير هذا العالم، التي تُعَظِّم النجاحَ ولا تغفر الفشل، فإنَّ رجالاً من طرازه لا يستحقون أن تحتفظَ بهم الذاكرة.
ولكن، ألا يزال السيد سيمون يعيش في طاقة الكرامة وحيويتها التي ترتحلُ اليوم عابرةً أميركا التي تخصّنا من الشمال إلى الجنوب؟ كم هُم أولئك الذين ينطقون من خلال فمه، رغم عدم معرفتهم به على الأرجح، مثل شخصية موليير التي تتحدث نثراً لكنها لا تعرف أنها تتحدث نثراً؟
ألم يزل السيد سيمون يتابع تعليمنا، بعد قرنٍ على وفاته، بأنَّ الاستقلال هو اسمٌ آخر للكرامة؟ صحيحٌ أنّ الإرث الاستعماري ما يزال ثقيلاً، وثقيلاً جداً، الإرث الذي يُطري النسخةَ المنقولة مُصَفِّقاً لها ويلعن الخَلْقَ والإبداع، ويُفْتَن، كما أشار السيد سيمون، بفضيلة القرد والببغاء. غير أنّه صحيحٌ أيضاً أنّ شبابنا الذين يشعرون بأنّ الخوفَ سِجْنٌ مُضْجِرٌ ومُذِلٌّ يتكاثرون باستمرار، كما صاروا يمتلكون الجرأة على التفكير بحريّة بواسطة عقولهم هُم، والإحساس عبر قلوبهم هُم، والسير بأقدامهم هُم.
أنا لا أؤمن بالله، لكني أؤمن بانبعاث المعجزة البشريّة. لأنه من المحتمل أنهم كانوا على خطأ، أولئك الحزينون النائحون الرافضون تصديق موت إميليانو زاباتا (7)، معتقدين بأنه رحلَ إلى الصحراء العربيّة ممتطياً حصاناً أبيض؛ لكنهم كانوا على خطأ في ملاحظة الخارطة فقط. لأنّ المشهد يشير إلى أنّ زاباتا بقي حيّاً، وليس بعيداً ذاك البُعد، ليس في رمال الشرق: إنه يمضي ممتطياً حصانه هنا، قريباً من هنا، ساعياً للعدالة ومحققاً لها.
ولنلاحظْ ماذا حدث لفاشلٍ آخر، هو خوسيه أرتيجاس (8)، الرجل الذي أجرى أوّل إصلاحٍ زراعيّ في أميركا، قبل لينكولن وقبل زاباتا.
قبل قرنين تقريباً، هُزمَ وحُكم عليه بالعزلة والنفي. في السنوات الماضية، بَنَت له الدكتاتوريّة العسكريّة في أورغواي نُصباً ضخماً فخماً، محاولةً بذلك الإغلاق عليه داخل سجنٍ من الرخام. لكنهم عندما حاولوا تزيين هذا النُّصب ببعضٍ من أقواله، لم يجدوا قولاً لا يتسمُ بالتخريب. النُّصب الآن مُزيَّن بتواريخ المعارك وأسمائها، بلا أي قَوْل. هذا تبجيلٌ إلزاميٌّ لا إرادي، هذا اعترافٌ إلزاميٌّ لا إرادي: فأرتيجاس ليس أبكماً، أرتيجاس ما زال خَطِراً.
إنه لأمرٌ مُضحِك: إضافةً إلى العديد العديد من الأحياء الذين يتحدّثون دون أن ينطقوا، ففي أراضينا هنالك مَن ينطقون بصمت.
الفاشلون مُبارَكون، لأنهم تحملوا إهانة حُبّهم لأرضهم، وخاطروا بحياتهم في سبيلها. لكنّه من المعروف أنّ الوطنيّة هي الامتياز الجدير بالتشريف الممنوح للبلاد المسيطرة والمهيمنة: فقط هُم أصحاب السلطة مَن يملكون الحق بأن يتصفوا بالوطنيّة. وعلى النقيض من هذا، فالبلاد المسيطرة المهيمنة التي تسعى لتأبيد الطاعة، لا تستطيع تجربة الوطنيّة، إنها تتأذى من وصفها بالداعمة للأصول، إنها تخشى وسمها بالمهيِّجة، المنفعلة: تُعتبر وطنيّتنا وباءً، وباءً خطيراً، وسادة العالم، الذين جَرَّبوا ديمقراطيتنا، لديهم تلك العادة السيئة المتمثلة في تفادي هذا التهديد بواسطة الدم والنار.
الفاشلون مبارَكون، لأنهم رفضوا إعادة التاريخ وحاولوا أن يُغيِّروه.
الفاشلون مبارَكون، وملعونون هُم الذين أربكوا العالم بتعاملهم معه كأنه حلبة سباق، واندفعوا بعنف نحو قمة النجاح الذي وصلوا إليه، يُقَبِّلون ما هو مرتفع ويبصقون على ما هو واطئ. الساخطون الناقمون مبارَكون، وملعونون هُم غير المستحقين لهذا.
ملعونةٌ هي الدكتاتوريات الناجحة بواسطة الترهيب، التي تُجْبرنا على الإيمان بأنّ الواقع لا يُمَسّ وأنّ التضامن وباءٌ مميت، لأنّ الجار يشكّل تهديداً على الدوام وليس هو بِوَعْدٍ أبداً.
مبارَكٌ هو الحِضن، وملعونٌ هو المرفق.
نعم، ولكن... ثمّة خاسرون كُثر، أليس كذلك؟
عندما سألني أحد الصحافيين إنْ كنتُ شخصاً متفائلاً، أجبته، صادقاً:
- أحياناً. يعتمد هذا الأمر على اللحظة.
يبدو لي أنَّ المسألة لا تتحلّى بالإنسانيّة الحقة إذا ما كنتُ متفائلاً طوال الوقت.
أعتقد أنّ الإحباطَ حقٌ إنسانيّ، كما أنه يُثبت، على نحوٍ ما، بأننا بَشَرٌ، لأننا ما كُنا لنعاني الإحباط لو أننا لا نتنفس.
من المؤكد أنّ الواقع ليس مشَجِّعاً كثيراً، إذ هنالك العادة اللعينة في مكافأة أولئك الذين يعصرون جيرانهم حتّى تجفيفهم تماماً، ويبيدون الأرضَ، ويلوّثون المياه، ويفسدون الهواء. ورغم هذا، فإنّ أكثر المغامرات إثارةً في عملية تغيير الواقع واستبداله تنزعُ إلى التوقف في منتصف الطريق، أو تضيع، أو تتلاشى، وغالباً ما تنتهي على نحوٍ سيئ.
أقول إنّ هذا لأمرٌ مؤكد، ولكن على المرء أن يسأل كذلك: حين تنتهي مجموعة تلك التجارب الرائعة على نحوٍ سيئ، هل تنتهي فعلاً؟ ألا يُمكننا عمل شيء؟ أنحن متروكون للإذعان والقبول بالعالَم كما هو، كأنما هو القَدَر؟ قبل سنوات قليلة راجَت نظرية نهاية التاريخ. كثيرون ابتلعوا بسذاجة هذه التفاهة، مع أنّ الإدراك العام المشترك يُرينا، ببساطة قوية، أنّ التاريخ يولد متجدداً كلّ صباح.
إنّ الجزء الأفضل في مسألة العَيش هو قابلية الحياة لأن ترمينا بالمفاجآت. مَن كان بمقدوره التنبؤ بأن البلاد العربيّة سوف تشهد إعصار الحريّة هذا، والذي تعيشه الآن؟ مَن كان ليصدّق بأنّ ميدان التحرير سوف يمنح العالَم هذا الدرس في الديمقراطية؟ مَن كان ليصدّق بأن الصبي، المزروع في الميدان لأيامٍ وليالٍ، سوف يصير إلى الإيمان بـ:
"لا أحد سيكذب علينا بعد الآن"؟
حين يُقال هذا كلّه ويُفعَل، حين يقول التاريخ وداعاً، أو يبدو أنه يفعل هذا، فإنه يقول لنا، أو على الأقلّ يهمس لنا: وداعاً لوقتٍ قصير، نلتقي قريباً.
 
 
المصدر
Upside Down World
10 آذار/ مارس 2011.
 
 
 (1)Carlos Lenkersdorf : (1926- 2010)، باحث من أصل ألماني، تخصص في دراسة وتدريس حضارة المايا في أكثر من بلد، كما في المكسيك التي عاش ومات فيها. أسس مركزاً للدراسات وشارك في كثير من الأنشطة ذات البُعد البحثي الرصين والأكاديمي المنفتح، ناشراً في ذلك مجموعة كتب. (ويكيبيديا).
(2) Carlos Monsivais: (1938 – 2010)، كاتب مكسيكي، وناقد، وناشط سياسي، وصحافي. يُعتبر أحد قادة الرأي العام ضمن القطاعات التقدمية ودوائرها في المكسيك. (ويكيبيديا).
(3) Antonio Narino: (1765 – 1823)، واحد من المؤسسين الأيديولوجيين الكولومبيين، وقائد عسكري وسياسي ناضل من أجل استقلال بلاده. (ويكيبيديا).
(4) Santiago Arcos: (1822 – 1874)، مثقف وناشط من تشيلي، خاضَ مجموعة تجارب في السياسة وتأسيس أحزاب تتبنى التوجه الاشتراكي، إنما بروح مثالية، وتعرض للسجن في مراحل عدة من اضطرابات بلاده. تنقل وارتحل بين باريس ولندن والأرجنتين، ومات منتحراً. (متفرقات على الإنترنت).
(5) Chacabuco & Maipu: معركتان ضد الإسبان من أجل استقلال تشيلي. الأولى (تشاكابوكو) جرت في 12 شباط/ فبراير 1817، والثانية (مايبو) في 15 نيسان/ إبريل 1818، وكانت تلك المعركة هي الفاصلة التي أنهت السيطرة الإسبانية على تشيلي. (ويكيبيديا).
(6) Simon Rodriguez: (1765 – 1823)، فيلسوف وصاحب نظرة خاصّة في التربية. كان مدرِّساً ومستشاراً لسيمون بوليفار؛ رائد حركات التحرر في أميركا اللاتينية. عُرف رودريغويز خلال إقامته في المنفى باسم صموئيل روبنسون. (ويكيبيديا).
(7) Emiliano Zapata: (1879 – 1919)، لعب دوراً حاسماً في واحدة من أهمّ مراحل التاريخ المكسيكي اضطراباً، وماتَ اغتيالاً. يُعتبر بطلاً وطنياً، كما تم تبني بعض برامجه حول تقسيم الأرض في ما بعد. (المترجم).
(8) Jose Artigas: (1764 – 1850)، "أب الأمة الأوروغوانية"، وأحد أبطال الأوروغواي القوميين. (ويكيبيديا).

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
28 يوليه 2018
ترجمات
18 فبراير 2017
ترجمات
10 مايو 2016

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.