}

للصوت جدوى أبدية

بي شو مين 25 يوليه 2018
ترجمات للصوت جدوى أبدية
لوحة للفنان المصري محمود حامد

ذات عام، دُعيت إلى ندوة أقيمت في إحدى المدارس الإعدادية. كانت في قرية بشمال الصين، في ملعب مفتوح، يجلس فيه آلاف الطلاب بشكل دائري، ويرتدون زيا مدرسيا بني اللون، ويظهر على وجناتهم لون الورد الأحمر الأرجواني الداكن. إنه الشتاء، قارس البرودة.

لم يسبق لي أن استفضت في الحديث بهذا الشكل، في مكان قارس البرودة مثل هذا المكان، على الرغم من أنني مكثت قبل ذلك في التبت، وجربت البرد القارس؛ والذي وصل إلى 40 درجة مئوية تحت الصفر، ولكن في ذلك الوقت كان يمر الجنود كالدمى مسرعين في الطريق، لا يجرؤون على أن ينبسوا ببنت شفة؛ لأن الكلام يمكنه أن يفقد الجسم حرارته بسرعة فائقة. أما هذه المرة، فتنفذ الرياح الباردة إلى رئتي، وأزفر هواء ساخنًا، وأتحدث في شهر ديسمبر قارس البرودة حول الحياة والطموحات لصبية وفتيات القرية الصغار ذوي العيون المتلهفة، وكان يخرج من فمي بخار أبيض، تمامًا كذلك الذي يخرج من فوهة مداخن قطارات الفحم القديمة.

بعدما انتهيت من الكلام، قلت: من عنده سؤال يمكنه أن يكتبه لي في ورقة. فهذا هو عرف الندوات، إذا كان هناك شيء قلته، ولم يكن واضحًا، أطلب من الجميع أن يلفتوا نظري إليه. أخرج الأطفال جميعهم أوراقًا وأقلامًا، وأخذوا يكتبون تباعًا، كان ينبعث البخار من أنفاسهم صوب كفوفهم. بينما كان المدرسون مسؤولين عن السير داخل نطاق الملعب، وتجميع الوريقات منهم.

فتحتُ ورقة. كان المكتوب فيها: أنا غاضبة للغاية، فهذه الدنيا ظالمة. على سبيل المثال، لماذا خُلقت فتاة؟ ولماذا والدي فلاح؟ بينما والد زميلي الذي يجلس معي على نفس التختة محافظ؟ لماذا ينبغي علي أن أسير في طريق طويل جدًا للذهاب إلى المدرسة، بينما هو يركب سيارة صغيرة؟ ولماذا أمتلك قلمًا واحدًا، بينما لديه مقلمة كبيرة جدًا؟

جال بخاطري عندما وقعت عيوني على صف علامات الاستفهام هذه والتي تشبه الخطاطيف، أن هذه الفتاة تستشيط غضبًا، وإذا تفوهت بالكلام، سيكون الأمر أشبه بغاز الأسيتيلين الذي يندفع مرة واحدة، مشعلًا الهواء كله بلهب أزرق ممزوج بالأبيض.

قرأت ورقتها بصوت عال. وفي هذه اللحظة كان يخيم السكون على الملعب، لدرجة أنه حينها سُمعت تغريدة واضحة مرتفعة لعصفور صغير في الأفق البعيد. نَزلتُ من على المنصة، وكانت العيون البراقة السوداء تحملق بحركات مستديرة إلى وجه متورد، بينما كان هناك شخص يلتفت يمينًا ويسارًا. تقريبًا كانوا يخمنون من هو صاحب هذه الورقة.

يقال إن الأطفال عندما يكونون في بطون أمهاتهم، يتمكنون من معرفة مشاعر أمهاتهم جيدًا. والعديد من الفتيات بدأ من تلك اللحظة يصل لهن إحساس أن هذا العالم ظالم؛ لأنكِ لست ولدًا، وبالتالي لن تجاري تطلعات الجميع وتوقعاتهم.

لكن هل هناك حل لهذا؟ لا يوجد، على الأقل في المرحلة الحالية، فمستحيل أن تغيري جنسك، طالما رضيت بقدرك، ولا أقصد بقولي لكلمة "القدر" ذلك القدر الوهمي الخيالي، ولكن أشير إلى تلك الأشياء التي ولدت بها ومستحيل أن تغيريها. على سبيل المثال جنسكِ، وملامحكِ، ووالداكِ، ووقت ميلادكِ ومكانه....... باختصار، تلك الأشياء التي كانت موجودة سلفًا قبل مولدكِ، مستحيل أن تتحكمي فيها أبدًا. فقط يمكنك أن تتقبليها بهدوء وحسب.

لا ينبغي عليكِ أن تصدقي من يقولون لكِ إن هذا العالم غير عادل، هذه ليست سوى مشاعر من طرف واحد في المرحلة الحالية. عليكِ أن تتفاءلي وألا تستسلمي للإحباط. ففي الواقع، أن العالم بدأ في الإبحار شيئًا فشيئًا صوب منارة المساواة والعدالة.

على سبيل المثال، قبل مئة عام، هل كان بوسعكِ أن تقرئي كتابًا في المدرسة؟ كان من الوارد جدًا أن ترتدي لفافات القدمين، وكذلك أن تمكثي داخل حجرة تتعلمين مجبرة الحرف اليدوية والخياطة والتطريز. في هذا الوقت، كيف كان يمكنكِ أن تجلسي على نفس التختة مع ابن المحافظ؟ لقد انطلقنا في طريق النضال من أجل المساواة.

اعلمي أنه لا يوجد أي شخص يضمن ويتعهد لكِ أن تتمتعي بمساواة وعدالة مشرقة بمجرد أن تولدي. انظري إلى عالم الحيوانات، وسرعان ما ستفهمين أن العدل أمر نادر؛ وأنه ثمرة حكمة البشر، واستراتيجية تحافظ على هدوء وسكينة معظم الناس. إذا أدركت هذا الأمر، فسيقلل ذلك كثيرًا من حنقك، وستشعرين بامتنان عميق. فأنتِ الآن تتمتعين بثمار كفاح العديد من البشر، وردك لهذا الجميل هو أن تواصلي المسيرة والاجتهاد، وليس أبدًا أن تشتكي.

لا يجب عليكِ أن تتجاهلي الظلم، لكونك فتاة. يمكنكِ أن تصدري صوتًا. فإن تفوهكِ أو عدمه سيكون واحدًا لوقت مؤقت، ولكن تأثيره والإحساس به سيكون مختلفًا على المدى الطويل، وكذلك تطويره لشخصيتكِ سيكون مغايرًا. فربما تطرأ تغيرات على الأمور، ما دمت تواصلين الكلام. تذكري أن للصوت دومًا جدوى؛ لأنه يمكنه أن يُسمع، ومن ثم يُحدث تغييرًا.

 

في الحقيقة، تقريبًا مستحيل أن تطلب من فتاة قوبلت بالتجاهل، أن تصدر صيحات قليلة صوب ما تلاقيه من عدم مساواة وظلم. ولكنني بعد تفكير طويل وعميق، قررت أن أتشبث بهذا الأمل. لأن فتيات اليوم، سيصرن أمهات الغد. ولو تشبثن بالأساليب القديمة، فبنفس الطريقة سيحملن إرث عدم المساواة، ولو أصدرت بناتهن صوت صرخة، فقد يحرك ذلك الذكريات الكامنة بداخلهن، وبالتالي يُحدث تغييرًا ما في الأمور. بالطبع، لو هذه الفتاة كبرت، وذهبت إلى مناسبة عامة، فلا بد من أن تتذكر هذه الورقة أكثر، بل وتختار فرصة مناسبة لجعلها فعالة.   

تذكري دائمًا أن الصراخ ضروري، قد لا يسمعه أي مخلوق طوال حياتكِ، لكن سيدوي صداه إلى مدى بعيد.
*****

بي شو مين واحدة من أبرز الكاتبات الصينيات، لكتابتها طابع خاص، لأنها في الأصل طبيبة نفسية. ولدت في عام 1952. التحقت بالجيش وهي في الـ 17 من عمرها، وخدمت فيه لمدة 11 عامًا وخاصة في التبت، وهناك عملت كممرضة وطبيبة عسكرية. بعد ذلك توجهت إلى الكتابة، وبرزت أعمالها، وأصبحت من أكثر الكاتبات المؤثرات في الأدب الصيني المعاصر، وحصلت على العديد من الجوائز.

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
25 يوليه 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.