}

كنت في العاشرة

بريجيت جيرو 23 يونيو 2018
ترجمات كنت في العاشرة
لوحة للفنان المصري عصام معروف

حدث ذلك في الساحل الجنوبي. في شهر يوليو/تمّوز. كانت بضع أمواج تتكسّر على الصخور أسفل الطريق. وأمّي تصرخ كلّ عشرة أمتار، تطلب من أبي الانتباه لأخي الأصغر. كنا نتقدّم وأيدينا محمّلة بثلّاجة يدوية، مظلّة البحر ومراتب من مطّاط. أُسرةٌ في طابور هنديّ، الواحد وراء الآخر، وقلقين بعض الشيء. أتذكّر كلمات أمّي، وانزعاجها، صمتُ أبي وتغريد طيور الزّيز الثّقيل والحادّ. حصل هذا في العام الّذي بلغتُ فيه سنّ العاشرة. حينها كنتُ قد تعلّمتُ السباحة جيّداً بدون عوّامات الأطفال، وصرتُ أرتدي لباس سباحة من قطعتين. كان والداي يمكثان تحت المظلّة، أبي الجالس يحدّق في خطّ الأفق، وهو يدخّن سجائره، وأمّي المستلقية، أحياناً على الظّهر، وأحياناً أخرى على البطن. كنّا أنا وأخي نخرج من الماء ونلفّ علينا مناشف كبيرة وناعمة لمّا حان موعد الغذاء. نتشارك ما بحوزتنا من رقائق البطاطس والطماطم، وعندها لاحظتُ أنّ أمّي لا تخلع نظّاراتها الشمسية. ثمّ، بعد ذلك، كان أبي يتمشّى حتى رصيف الميناء، ويختفي لوقت طويل. كانت أمّي تطلب أن أدهن ظهرها بكريم الوقاية من الشمس قبل أن تستسلم للنّوم تحت الأشعة الحارقة، متناسيةً أنّ أخي الأصغر لا يعرف السباحة. ولحسن الحظ، كنتُ أنا هناك، ويمكن الاعتماد عليّ. عند عودتنا إلى المخيّم، تنشر أمّي المناشف والمايوهات على حبل غسيل يربط عربة التخييم بشجرة أوكاليبتوس. ويقترح عليّ أبي جولة من لعبة البينغ بونغ. فقد صرتُ ألعب بشكل أفضل مع الوقت، أتعلّم الضربات المقلوبة، وأضرب بقوّة.
وقع ذلك صباحاً بعد الإفطار، بعد أن نظّف أبي السلطانيات ورفع الخبز والعسل من الطاولة، ومسحتُها أنا. قالت أمّي إنّها ذاهبة. غادرتنا وابتعدت مشياً على الأقدام. لم تعانقني، ولم تقل لي شيئاً ذا مغزى. عبرَت الممشى المركزي للمخيم، وفهمتُ أنّه لا يجب عليّ أن أتبعها. فقط استدار أخي الأصغر، وهو لا يفهم ما الّذي يحدث. بقيتُ واقفة أمام باب العربة دون أن أجرؤ على الدخول. كان أبي هناك. أنا في الخارج وهو بالداخل، وأمّي وأخي يتّجهان نحو المحطّة. لم أجد شيئاً آخر أفعله سوى أن أطوي المناشف الجافّة والمايوهات وأرتّبها بدقّة. كنت أكدّسها بشكل مستطيل تماماً، وأتركها حسب هذا النظام السخيف على طاولة الإفطار. ثمّ أعيد التفكير بها في كلّ مرّة أقوم بتوضيب الغسيل الناشف.
لا شيء يتحرّك في داخل العربة. عادةً، أسمع أبي وهو يحلق ذقنه، ومعه صوت الراديو. كنت ما زلت في ثياب النوم ولم أغتسل بعد. أجلس على كرسي قابل للطيّ، بينما الجميع في المخيّم يتحرّكون بهمّة ونشاط، ذهاباً وإياباً بين المراحيض والخيام، وهم يخطّطون كيف سيقضون اليوم. نظرتُ إلى أصابع قدمي ولاحظت أنّ سبّابة القدم اليسرى (أتساءل هل يُمكن وصف أصبع قدم بسبّابة) أصغر من سبّابة القدم اليمنى. سمعت وقع خطوات وحركة بداخل العربة. ظهر أبي على العتبة. فاجأني شَعره الطويل جداً وفَوْدَاه اللّذان يصلان منتصف الخدّين. دعاني للقيام بجولة بالسيارة، ولم يترك لي أدنى فرصة لتحضير نفسي. جلستُ في المقعد الأمامي. تردّدتُ. وتساءلتُ إن كانت مكانتي قد تغيّرت. فها أنا أجرّب شيئاً جديداً، أكتشفه للمرّة الأولى.
أشعل أبي سيجارة وأنزل زجاج السيارة. تقدّمَت السيارة ببطء على الممرّ المركزي للمخيم، قبل أن تعبر الحاجز الصغير عند مكتب الاستقبال، ثمّ ابتلعنا الطريق الذي يمتدّ على طول الشاطئ، ونحن في صمتٍ تام. زاد أبي من سرعة السيارة، وتساءلتُ إلى أين نحن ذاهبان. تخيّلتُ أننا نتّجه صوب المحطّة لنلحق بأمّي. ولكن لا، لم تكن هناك محطّة على طول الكورنيش ونحن نقود السيارة بنوافذ مفتوحة عن آخرها، في طراوة ذلك الصباح، تحت أشعّةِ الشّمس الساطعة بقوّة. لم أطرح سؤالاً، ولاحظتُ جيّداً أنّ ثمّة أموراً غير طبيعية، تصرّفات أبي، اهتزازات محرّك السيارة، وحتّى الناس الّذين لمحتهم على الشاطئ كما لو على شاشة، بدوا كأنّهم بلا حياة ولا صوت. كما لو أنّني في فيلم صامت، والعالم يتراءى لي بالأبيض والأسود. لم أجرؤ على النطق بكلمة واحدة مخافة أن أفسد جولتنا. التصقتُ بمقعدي في انتظار ما سيحدث، كنتُ أرغب في نسيان ذاتي، وعدم التواجد في ذلك المكان.
قاد أبي السيارة لوقت أطول بوجهٍ ثابت، وغائب تماماً. أوقف السيارة في الساحة الصغيرة للقرية. لم ينظر إليّ منذ أن غادرنا المخيّم، ولم يكلّمني قطّ. كنتُ أعلم أنّه منشغلٌ جدّاً بصورة أمّي، وتخيلتُ أنّه لا يعرف كيف يُكمل الطريق. جلسنا في الظلّ على سطيحة أحد المطاعم. طلب أبي فنجان قهوة، وحين تردّدتُ في الطلب، اقترح عليّ الآيس كريم بالشانتيلي، وأصرّ على اقتراحه لأنّه يعرف أنه سيعجبني. لم أستطع أن أرفض، كان يبدو أن مجرّد قبولي سينال رضاه. بقينا جالسين وجها لوجه، رازحين تحت ثقلٍ خانق. تظاهرتُ بأنّني أستمتع بكأسي المثلّجة، لكنّها ذابت تماماً حتّى قبل أن أُنهيها. حرّكتُ الملعقة في ذلك العصير الوردي والأبيض، ثمّ نفضتُ يدي نهائياً من الكأس. وقف أبي فجأة واقترح عليّ أن نذهب عند الحلّاق. قال لي إنّه يرغب في قصَّة شَعر جميلة. عبرنا الساحة ودخلنا إلى محلّ صغير حيث الحرارة لا تُطاق. جلس أبي على المقعد، فسألني الحلّاق إن كنتُ أرغب أنا أيضاً في قصّ شَعري. مبدئياً، كنتُ أرغب في الحفاظ على شعري الطويل، الّذي يصل إلى منتصف ظهري. لكن الحلّاق أصرّ، فأسرَّ أبي في أُذني: "ستكون هذه مفاجأتنا". ثم ضمّ كتفي بذراعه. وأظنّ أنّه بسبب هذه الذراع، التي لامسَت بشرتي، قبلتُ الاستسلام لمقصّ الحلّاق. وبسبب حماسة هذا التواطؤ ، في تلك الثانية اللاّمتوقعة، قرّر أبي أن يعتبرني فتاة جديرة بثقته. بسبب كلّ ذلك الوقت الواجب استغلاله، وقسوة ذلك اليوم من أيّام العطلة، قبِلتُ أن أردّ بقسوة أخرى: أن أستسلمُ لقطعِ شَعري الكثيف مثل عرف الفرس، وأمدُّ رأسي للتضحية.
بقينا جالسين في المحلّ ونحن ننظر إلى بعضنا البعض ونبتسم. لقد ارتكبنا حماقة صغيرة. هو حلق فوديه وأنا صرتُ أشبه بأحد الفتيان الصغار. نعم، من يراني سيظنّ أنّه يرى أخي الأصغر. لا أحد بإمكانه التعرّف علينا، لقد غيّرنا جلدنا. رسمنا خطّاً يفصل الما قبل عن الما بعد. رسمنا حدوداً يتعذّر محوُها، ومن المستحيل أن نتراجع إلى الوراء. عُدنا وركبنا السيارة وقدناها في الاتّجاه المعاكس. لم أجرؤ أن أسأل أبي عن قصده من الكلام الّذي ألقاه في أذني. عن أيّ مفاجأة يتحدّث؟ هل يريد أن يُفاجئ أمّي؟ صرتُ آمل أن تكون أمّي قد عادت، وكنتُ مقتنعة بأنّها ستكون هناك عند عودتنا، تخيّلتُ أنّ القطار فاتَها، أو أنّها تراجعت عن القرار. ومن دون شك، كان أبي يتخيّل ذلك أيضاً، لهذا زاد من سرعة السيارة إلى درجة كبيرة. واشتدّت الإثارة من دون أن ننطق كلمة واحدة، لأنّنا على يقين أننا نفكر في الشيء نفسه. كان أبي يتحوّل من شخصٍ إلى آخر مختلف مع مرور الكيلومترات، يبدو متوتراً أكثر فأكثر، ونسيَ أن يشعل أضواء الإشارة. لقد عاد ذلك الرجل الّذي يصعب اختراقه، كما كان في طريق الذهاب، متجاهلاً وجودي. بينما أثارت الكريم شانتيلي بداخلي رغبةً في التقيؤ، لأنّنا نسينا أن نتناول الطعام.
كان الوقت يدنو من منتصف اليوم حين دخلنا المخيّم، يدفعنا الأمل مثل المجانين، وعبرنا حاجز بوابة الاستقبال، ثمّ اخترقنا الممرّ المركزي. نحاول أن نميّز العربة من بعيد. نتقدّم كما لو في عرضٍ بطيء، في صمتٍ شديد وخانق. وحين اقتربنا من العربة، أودَعنا السيارة في المكان المخصّص لها دون إيقاف المحرّك. بقي كلُّ شيء على حاله منذ الصباح. وباب العربة كان ما يزال مقفلاً. بقينا جالسين في السيارة لحظة لانهائية، غير قادرين على القيام بأدنى حركة. ترك أبي المحرّك مشتعلاً لفترة أطول. كان ينظر أمامه بثبات، يحدّق في حبل الغسيل وما يتدلّى منه من مشابك. لم يكن يعرف كيف يكملُ الطريق. كما لو أن حياتنا توقّفت هناك، أمام باب العربة المقفل. ثمّ لا شيء في الإمكان. لا الكلام، ولا الحركة، ولا ازدراد اللّعاب. كنتُ أبحث عن أفكارٍ للهروب، وكان بإمكاني أن أركض في اتجاه طاولة البينغ بونغ، لكني كنتُ خائفة على أبي. لا أعرف إن كنتُ أُثقل عليه، ولا أعرف إن كان عليّ أن أبقى. كنتُ أودُّ أن يقول لي ذلك، أن يُقرّر، كما كان يفعل دائماً. لكنّه نسيَ أنّه أبي، نسي أنّه البالغ وأنا الطّفلة، وكان لديّ إحساس بأنّ كلّ الأشياء قد انقلبت، تداخلت، وتحطّمت. بينما محرّك السيّارة كان لا يزال دائراً، اكتشفتُ أن الطفولة توقّفت هنا، في مخيّم بجنوب فرنسا، ولم أتخيّل شيئاً بعد ذلك.

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
23 يونيو 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.