}

كُتَيّب التعليمات..كيف تقرأ جون آشبري

ميغان أُورورك 11 يونيو 2018
تغطيات كُتَيّب التعليمات..كيف تقرأ جون آشبري
جون آشبري

 

ميغان أوروك (Meghan O’Rouke):

ناقدة أمريكية، من مواليد 1976. عملت مديرة للتحرير في "النيويوركر"، ومن عام 2005 حتى 2010 عملت في "ذا باريس ريفيو" مساعدة لمدير التحرير. تخرجت من جامعة ييل، وأنجزت الماجستير في الكتابة الخلّاقة من كلية "وارن ويلسون". كتبت هذه المقالة النقدية في المجلة الإلكترونية "سليت" (SLATE.com)، بمناسبة صدور المجموعة الشعرية "إلى أين سوف أهيم" (Where Shall I Wander)،  حيث كان عمر الشاعر جون آشبري حينها 77 عاما. مع العلم أنه توفي العام الفائت وهو في عمر 90.

 

كيف تقرأ جون آشبري:

كتبَ جون آشبري أولى قصائده عندما كان في الثامنة من العمر. كانت مُقفّاة وذات دلالة منطقية ("أكوام التبن العالية تلال سُكّر عظيمة/ إنها المَواطن التي تُخيّم فيها الجِنيات")، والكاتب الصغير –الذي كانت لديه تللك اللمسة من التكاسل الذي يتماشى مع النضج المبكر- توصّل إلى إدراك: "لم أستطع الذهاب قُدُما انطلاقا من هذه القمة". عِوضا عن ذلك؛ ذهب إلى كتابة أشعار دون وزن أو قافية، ولا تُفضي إلى منطق ظاهر. كانت غايته، كما أوضح لاحقا "إنتاج شعر لا يستطيع حتى النقّاد التحدث عنه"، وقد نجح معه الأمر. في البدايات؛ ذمّه أحد المُحبَطين من شعره، مُلقبا إياه: "داوْريس داي الحداثة" (Doris Day: مغنية وممثلة أمريكية لاقت شهرة واسعة في الخمسينات والستينات من القرن الفائت - المترجم). وإلى اليوم؛ ناقدة مثل هيلين فيندلر تعترف بأنها كثيراً ما "تُخطئ" حول ما يقصده آشبري. ولَك أن ترى لماذا: بكل بساطة لا يمكن أن تُحيل إلى شرح مُتقن رفيع المستوى لقصيدة هذه نهايتها: "كان رعدا مَحَلّيا/، لون السبانخ. باباي ضاحكا ومخدوشا/ كُراته –تقول-: من المؤكد أنه كان رائعا قضاء يوم في الريف". (Popeye: شخصية البطل في المسلسل الكرتوني "باباي"- المترجم).

لا عجب في أن آشبري ذائع الصيت بأنه "صعب" بشكل مُروع - أو، وفي بعض المعسكرات الثقافية، يعتبر من قبيل خدعة أدبية ساخرة. وإن يكن؛ فمن المخجل أن يَمنع هذا القُراء المحبين للاطلاع من تداول كتبه. أن يكون صعبا، بعد كل شيء، ليس كمثل أن يكون غامضاً ومُستغلِقا. والحقيقة أن شعر آشبري لم يزل وبشكل كبير مُنصبّاً إلى متعة القارئ –أكثر من عديد من الشعراء الذين من المفترض أنهم مَفهومون. كتابه الأخير "الى أين سوف أهيم" (Where Shall I Wander)، كان في أغلبه مزيجاً من القصائد ذات الفكاهة السوداء الشابكة للقارئ والممتعة حول مواجهة الموت –كان الشاعر حينها في عمر 77- وترمز إلى انعكاسات من سنواته الأولى كواحد من مجموعة الشعراء الذين سيُعرفون لاحقا باسم "مدرسة نيويورك"، وكان شعرهم –كمثل شعر آشبري- يمثل تحدّياً للقارئ بشكل محرّض وغريب.

إنه لمن الصعب التحدث عن شعر آشبري بشكل راسخ وصلب، لأن حقله، في الأغلب، هو الوعي الجمالي –يطلق عليه آشبري "تجربة التجربة". في أحد جوانبها، تتكون القصائد من تأليف متسارع للمشاهد مع ملمس للثقافة الشعبية (pop culture) معطوفة على ما بعد الحداثة، مُلهمَة بالابتكارات الثورية للدادائية والسريالية الفرنسية. في جانب آخر، وفي القلب من هذه القصائد، رومانسية عالية تواقة للكمال: بمعنى ما، وبكل بساطة، تكون القصائد حول عدم القدرة عن التخلي عن ذلك الشوق الطاغي. في المركز من شعر آشبري لا يوجد عادة موضوع –كما عند فيليب لاركن- بل تجد إحساسا –كما عند الرسام جاكسون بولوك- ذلك الإحساس يكون مسحوراً بالتفاعل بين المذهب الجمالي وبين مزيج من الدهشة المستأنسة؛ وسط أشياء مختلفة قليلة الأهمية والبقايا العائمة لكل ما في الحياة اليومية من أمل راسخ رغم اليأس، كما يقول أحدهم: "أخيراً سأشاهد وجهي كاملا". إذن؛ أفضل شيء يمكن فعله، هو عدم محاولة فهم القصائد، إنما محاولة أخذ المتعة من تراكيبها، كما تفعل حين تستمع إلى الموسيقى. هناك فقط، ولمعظم القراء، يبدأ المعنى في التسرب إليك.  

 قد يمثل آشبري أول شعرية ثورية شكوكية. أول شاعر يحقق شيئاً جديداً كليةً عبر التشكيك المطلق في إمكانية –وقيمة- الإمساك بما حاول الشعر تقليدياً الإمساك به: بَلْورة لَحْظة في الزمن، عن طريق بصيرة كاشفة- التي أطلق عليها الشاعر الإنكليزي وليم ووردوورث (طليعة الشعر الرومانسي- المترجم): "بُقَع من الزمن". آشبري جدد النص الشعري عبر رفضه لهذا المشروع، كاشفاً زيفه في الأساس (وإن لم يُعبر عنه بهكذا مصطلحات قاتمة). هكذا كتب في قصيدة "الساعة المائية" (Clepsydra): "كل لَحْظة/ من المعنى هي الحقيقة؛ وبالمثل لا توجد حقيقة". على الشاعر القبض بطريقة ما على هذا الالتباس في العبارة، لخلق شعر ليس بصنعة لفظية إنما نوع من منظومة حَيّة. المهم ليس الفن في حد ذاته، إنما "الطريقة التي تَعْبر بها الموسيقى حياةً، رمزيا/ وكيف لا تستطيع أن تعزل عنها نغمة/ لا تستطيع أن تقول إنها جميلة أو رديئة/...... لا يستطيع المرء أن يحرس، كنزا/ تلك اللحظة الساكنة، هي أيضا مُنسابة، مُتلاشية".

الحركة الجذرية الثانية لآشبري كانت تغيير المنظور الذي كان الشعر يرى بها ذاته في علاقته بالمجتمع المعاصر. حتى لو أن قصائد مُعينة له لا موضوع لها، قد يكتب ربما المزيد عن أمريكا -مع ازدواجية وتناقض أكثر إقناعا- من أيٍّ من مُجايليه. يخاطب نفسه في كتابه "إلى أين سوف أهيم": "لقد تكلمتَ من على الحافة"، اصطلاح دارج لكنه مُشبع بوجدان جمالي. إذن أين يختلف آشبري عن بودلير أو إليوت، وعلى منوال وايتمان وإميرسون، غالباً ما يرى نفسه أشد قُربا من صِنْوه الانسان رغم التباينات. هنا؛ يزاوج بين اثنين من التقاليد الأدبية التي لم يُزاوج بينهما سابقا –الحداثية التجريبية مع الرومانسية، ربما كانت غريزته الهجينة - نفوره من التماثل اللصيق بأي عُرْف أدبي منفرد- حافزه لجمع أساليب كتابية مختلفة في قصيدة واحدة، من التمثيلية الهزلية إلى الدادائية، من الجِدّي الى المُريب، بينما لا يمنح امتيازاً لأي منها.

هذا يُفضي إلى قراءة مُغايرة. صار آشبري أشبه بترانزستور الراديو (radio transistor)، يظل مصفاة لغوية تَعْبر خلالها العديد من الأصوات المختلفة، الأصناف الأدبية، الآثار المتطفلة، بحيث تكون القصيدة مثل صوت تسمعه إذا ما أدرت قرص الراديو عبر موجات FM/AM، دون توقف طويل عند برنامج محدد. أحيانا –كما يمكنك أن تتخيل- يكون هذا مدعاة للسخط. لكن في أفضل ما عند آشبري من أعمال، يساعد الحشو الزائد على تركيز لحظات المقطع الشعري في اندفاعة صاعقة، مثلما تقابل موجة مفقودة حينما تدير قرص الراديو. هذا النوع من الأشياء التي تجلب لك بإيجاز وعداً "بحركة هاربة من الحلم إلى حيث يمكنك تسجيلها". حيث النهايات الشعرية –بالتخصص- هي براعة آشبري، خذ ذلك العبور الجميل الذي أقفل به قصيدته الشهيرة والطويلة جداً "بورتريه شخصي في مرآة محدبة":

"لقد شاهدنا المدينة؛ إنها الحدباء

عين حشرة معكوسة. كل الأشياء تحدث

فوق شرفتها وتُستعاد داخلها،

لكن الحدث هو البرد. انسياب غليظ

للموكب الفخم. يشعر المرأ بأنه محاصر جداً،

يُمحص ضوء شمس إبريل لأجل دلالات

داخل ثبات صِرْف في يُسْر  

معياره. اليد لا تحمل طبشورا

وكل جزء من الكل ينهار

ولا تعرف أنها تعرف، باستثناء

هنا وهناك، في برد جيوب

الذكرى، تهمس خارج الزمن".

ما زال كثير من القراء يتهيبون هذا الالتباس، فعسى أن تكون هذه النصائح مفيدة، على الأقل حتى تتأقلم الأذن، إن لم يكن لسهولة الاستماع. أولاً؛ ضع في بالك أنّ مواضيع آشبري من النوع الواسع – الزمن، الذاكرة، الحنين إلى الماضي- لذلك لا تكن مُحبطاً من الذي ربما يبدو مُبهماً. ثانياً، ثق بنفسك. إذا تَملّلت، تجاوز القصيدة، وتصفح شيئاً آخر، لكن تأكد من بقائك مُنفتحاً على الهزل الساخر في القصائد، والذي يظهر من لا مكان، مثل صوت المذيع في نفق المترو، جامد لكنه حسن المزاج.

ثالثاً، الغموض البلاغي عند آشبري، الشذوذ، اللغة غير المنطقية، التحولات الدائمة في ترتيب الضمائر، الانقطاعات المباغتة في الصياغة، ليست كلها دون مَرْكز. تخيل القصائد كسلسلة من إعادة النظر في الذات، أصوات ذاتية متقاطعة، أصوات متباينة نستعملها في مخاطبة ذواتنا داخل عقولنا (تعويذية، وعظية، تأنيبية، مقززة، بهيجة، أليفة، غير منطقية) والتي تنتمي إلى سماتنا المختلفة التي نحملها في رؤوسنا. لاحظ أيضاً أن آشبري طالما استبدل مفردة بأخرى غير مألوفة، من مثل "ترنيمة النحلة" بدل "طنين النحلة" (hymn/hum -لاحظ التقارب الحروفي والنطقي للكلمتين في الإنكليزية مع تغير في الدلالة- المترجم). آشبري الذي قطّع نفسه في بداياته ليتمكن من الشعراء السرياليين والدادائيين –تريستان تزارا، غيوم ابولينير- بالإضافة إلى إليزابيت بيشوب مع والاس ستيفنز، حاول تجديد لغة كانت تبدو له مستنفدةً ومثخنةً بالعبارة المبتذلة.  

لا ترتبك من كل تلك الضمائر التي تصادفها في قصيدة واحدة. إن سلسلة التغيرات والتبديلات بين "أنت"، "نحن"، و"أنا" هي الطابع الذي يميز تكتيكات آشبري الأسلوبية. تقليديا، تكون الضمائر المختلفة ذات أهمية في المقطع الشعري لأنها تستوفي السرد المُبطن، لتساعد في الاستدلال على ماهية المُخاطَب، أهو المعشوقة، الابنة، الأنا...الخ. لكن عند آشبري تكون الضمائر عامة وليست مخصصة. مثلا؛ "نحن" يستخدمها الشاعر للتعبير عن إحساسه الخافق بالتضامن مع أبناء بلده، يستخدمها للتعبير عن وقوفه إلى جانب المُشارِكين المُهمَّشين في الرأسمالية الأمريكية، الذين يحبون منتجاتها (مثل: الأفلام، القمصان)، لكنهم مرتابون من طرق عملها. إنها تمثل الإدراك الحذر للفرد ضمن محيطه الاجتماعي. أمّا "أنت" فغالباً ما تكون رفيقة للأنا، صورة للمتكلم، في لحظات الإحساس بأنه منفي، تُمكنه من مخاطبة نفسه. أحد حركات آشبري النمطية هي التراجع عن استخدام الصيغة التعددية/الجمعية "أنتم" أو "نحن" للتعريف بالآخرين واستبدالها بصيغة المفرد المركز "أنت". الضمير "أنت" الذي تُخاطب به الذات المُنسلخة فجأةً وبشكل محزن عن محيطها، والذي نستخدمه في محادثة خاصة.

على نحو لا يمكن إنكاره، هناك شيء غريب يكمن في التنازل عن حقك كقارئ، في فهم الجُمل التي أمامك. هذا التنازل الذي تقوم به وأنت تشاهد رسومات "سي تومبلي". وبطرية ما؛ يكون من الأسهل التنازل عن المنطق البصري مقارنة بالمنطق الشفهي/الكلامي، ربما لأن البصري هو منطق بشكل مُسْبق، تنتظم فيه موجات من المعلومات التي تستقبلها العين على هيئة صورة مفهومة. على الجانب الآخر؛ الكلمات هي جهدنا لخلق منطق لأنفسنا، لنُفصح عن "طنين الأفكار الهاربة في عقولنا" كما لخّصها مَرّة ولاس ستيفنز. لكن استراتيجية آشبري في الدوران الحُر تجعل القارئ مستيقظاً بشدة للحاضر، مستيقظا لقوام الكلمة، وليس للحاويات التي يبنيها الشاعر للكلمات. إنه يُنشط الكلمات فوق الورقة، محرضاً القارئ "على الأقل وبشكل لاواع، للانتباه للاحتمالات الممكنة للأوكسترا بمُجْملها في اللغة الإنكليزية" كما قالت مرة هيلين فندلر. كثير من الشعراء يهدفون لفعل هذا، لكن هؤلاء الشعراء أيضاً مهووسون بمتعة تأليف قصيدة مسجعوعة، أو اكتشاف قافية غير متوقعة. وهذا يبدو مملاً لآشبري.

بدلاً من ذلك؛ فإنه يستولي على حقل لغوي يقصفنا به، حقل لغوي منبثق من قاعة الاجتماعات، من الأفلام، من المسارح، من الشوارع (كانت افتتاحية إحدى قصائده: "انتباه، متسوقون"، وفي قصيدة أخرى كانت الافتتاحية: "قُل، يا دُكْ" (دُكْ هنا اختصار لكلمة دكتور، تستخدم في العامية الإنكليزية لأمريكا الشمالية، والأصل الإنكليزي كما جاء في قصيدة آشبري: Say, doc- المترجم). وفي أفضل أعماله نجح أكثر من أي كاتب آخر في إيصال تأثير هذا الوابل من الكلمات في الذهن المُطارَد بعمليات تفكيره الخاصة وبالأنماط غير المستقرة التي تتشكل متغيرة حولنا. وحتى تنسجم مع قصائده، ابدأ بكتاب من المرحلة الوسطى في تجربة آشبري الشعرية، مثل "أيام العَوّامة" أو "حلم مزدوج للربيع"، أو خذ هذه التشكيلة من قصائد منفردة ضمن مجموعات شعرية مختلفة؛ من مثل: "لَيْلك/Syringa"، "تَحَسّنٌ قريب/Soonest Mended"، "بورتريه شخصي في مرآة محدبة/Self-Portrait in a Convex Mirror"، "نوافذ مُبللة/Wet Casements"، "نسيج/Tapestry"، "كُتيّب التعليمات/The Instruction Manual"، "وكما الرسم، كذلك الشعر، هذا هو اسمها/And Ut Pictura Poesis Is Her Name"، نِعمة في لباس تنكري/A Blessing In Disguise". ومن كتابه الجديد "إلى أين سوف أهيم" جرّب النص الفكاهي "هرولة حب جديد/Novelty Love Trot" (يمكن قراءتها على أنها نوع من الدعاية الشخصية الخَرِفة). أيضاً اقرأ "جبل الذئب/Wolf Ridge" و"منزل ثقيل/Heavy Home" (كلا هذين النصين وبطريقة ما يتحدث عن تفرق شعراء مدرسة نيويورك). ونصوصه الساطعة "تكلمتَ مثل طفل/You Spoke as a Child"، "السمو الجديد/The New Higher" و "تنوّع مُتاح/Affordable Variety". هذه هي القصائد التي ترشدنا إلى كيفية الاستماع الى موسيقى آشبري الفريدة.

 

كُتَيّب التعليمات

جون آشبري

من المجموعة الشعرية "بعض أشجار" 1956، التي فازت بمسابقة ييل للشعراء الشباب (Yale Younger Poets Competition)، والتي كان يرأسها الشاعر أودن (ًW.H.Auden):

 

إذْ جلستُ ناظراً إلى الخارج من نافذة المبنى

تمنيتُ لو لم يكن عَلَيّ أن أُحَرّر كُتيّب التعليمات في استعمالات معدن جديد.

نظرتُ أسفلاً إلى الشارع ورأيت الناس، كُلٌ يمشي بسلام داخلي،

وغَبَطتهم –إنهم بعيدون جدا عني!

ليس لأحد منهم أن يقلق لإنهاء هذا الكُتيّب في الموعد المحدد.

وكما هو طريقي، بدأتُ أحلم، مُسنِداً مرفقَيَّ على المنضدة منحنيا قليلا

إلى خارج النافذة،

خارج العتمة، أحلم بغوادالاخارا! مدينة الزهور الوردية!

مدينة رغبتُ في رؤيتها أكثر من أي شيء، والتي لم أرها أبدا، في المكسيك!

لكني أتخيل رؤيتها، تحت ضغط الضرورة لتحرير كُتيّب التعليمات،

ساحتُكِ العامّة، أيتها المدينة، بمسرحها الصغير المُتْقن!

الفرقة الموسيقية تعزف شهرزاد لريمسكي كورساكوف.

فتيات الزهور حول المسرح، يُوَزّعن الورد والزهور الليمونية،

كُلّ واحدة فاتنة في فستانها المُقَلّم بالوردي والأزرق، (آه! يا لهذه الظلال الوردية الزرقاء)،

وفي مَقربة هناك الكُشْك الأبيض الصغير حيث النسوة بالأخضر يُقَدّمن لك

فاكهة خضراء وصفراء.

الأزواج يستعرضون؛ الكل في مزاج عطلة.

أولا، رفيق أنيق، يقود الاستعراض

مَكْسو بالأزرق القاتم. فوق رأسه تجلس قبعة بيضاء

ويلبس شارباً، مُشذّبا لأجل المناسبة.

حبيبته، زوجته، يافعة وجميلة؛ شالها وردي، قرنفلي، وأبيض.

نَعْلها مارْكَة جلدية، على الموضة الأمريكية،

وتحمل مروحة، بدافع الخجل، فلا ترغب في أن يرى الحَشْد

 وجهها كثيراً.

لكن الجميع مشغول جدا بزوجته أو محبوبته

أشك في أنهم سيلاحظون زوجة الرجل ذي الشارب.

هنا يأتي الصبية! إنهم يتقافزون مُلْقين أشياء صغيرة على الرصيف

المَبْنيّ ببلاط رمادي. واحد منهم، يكبرهم قليلا، لديه عود أسنان في فمه.

إنه أكثر هدوءا من البقية، مفضلاً أن لا يلاحظ الفتيات الصغيرات الجميلات في الأبيض.

لكن أصدقاءه انتبهوا لهن، زاعقين بسخرياتهم من الفتيات الضاحكات.

إنما سريعاً سيختفي كل هذا، مع الذهاب عميقاً في العمر،

والحب يأتي بكل واحد إلى ميادين الاستعراض لأسباب أخرى.

لكني فقدتُ مَرْأى الرفيق الصغير بعود الأسنان.

انتظرْ –ها هو هناك- على الجانب الآخر من المسرح،

مُبتعداً عن رفاقه، في مُحادثة جادّة مع فتاة صغيرة

في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة. حاولت التقاط ما يقولانه

لكن الظاهر أنهما يتمتمان فحسب -كلمات حُب خجولة، ربما.

إنها أطول قليلاً منه، غائبة بهدوء في عينيه الخاشعتين.

تلبس الأبيض. ينفُش النسيم شعرها الأسود الطويل الناعم قُرْب خدها

الزيتوني.

جليٌّ أنها واقعة في الحب. الصبي، الصبي اليافع بعود الأسنان، مُتَيّم

بالمثل؛

عيناه تكشفان ذلك. مُلتفتا عن الاثنين،

أرى أن الحفلة الموسيقية في استراحة.

المُستعرضون يرتاحون مُرتشفين الأشربة من القصبات

(سيدة بالأزرق الغامق تَصُبّ الأشربة من إبريق زجاجي كبير)،

والموسيقيون يَختلطون معهم، في زِيّهم الأبيض القشدي، ويتحدثون

ربما عن الطقس، أو كيف يؤدي أطفالهم في المدرسة.

دَعْنا نغتنم هذه الفرصة لنتمشّى بهدوء في إحدى الدروب الجانبية.

هنا يمكنك أن تشاهد أحد البيوت البيضاء المُزخرفة بالأخضر

الشائعة كثيراً هنا. انظر –لقد قلتُ لك!

إنها مُعتدلة البرودة ومُعتمة في الداخل، لكن الفناء مُشمس.

عجوز في ثوب أشهب تجلس هناك، تُهوّي نفسها بمروحة من ورق النخيل.

تَدْعونا الى فِنائها، وتعرض علينا شراباً مُبَرِّداً.

"ابنِ في مدينة المكسيك"، قالت. "سيرحّب بكم أيضاً

لو كان هنا. لكن وظيفته في مَصْرف هناك.

انظروا، هذه صورته الفوتوغرافية".

فشابٌّ أسمر بابتسامة أسنان لؤلؤية يخرج لنا من إطار جلدي

بالٍ.

شكرنا ضيافتها، لأجل تأخر الوقت

وحتى ننظر المدينة، من مكان مرتفع، قبل رحيلنا.

برج الكنيسة ذاك سيقوم بالمهمة – ذاك الزهري الباهت، هناك قبالة الأزرق الشرس

من السماء. على مَهَل دخلنا.

الحارس، رجل مُسن في حُلة بنية رمادية، سألَنا كم أمضينا

في المدينة، وهل أعجبتنا.

ابنته تنظف الدرج –أومَأتْ لنا ونحن ندخل البرج.

سريعاً وصلنا إلى القمة، وشبكة المدينة بِرُمتها تمدّدت أمامنا.

ها هو الحَيّ المُترف، ببيوته الوردية والبيضاء، وشرفاتها المورقة

المُتداعية.

ها هو الحي الفقير، بيوته زرقاء غامقة.

ها هو السوق، حيث يبيع الرجال القبعات ومضارب سحق الذباب

ها هي المكتبة العامة، مطلية بظلال من الأخضر الباهت والبيج.

انظرْ! ها هو الحي الذي أتينا منه، والمتنزهون.

هناك بعضهم، بينما تشتدُّ حرارة اليوم،

لكن الصبي اليافع ما زال والفتاة يتواريان تحت ظلال المسرح.

وها هو بيت العجوز البسيطة –

لم تزل جالسة في الفناء، تُهفهف على نفسها.

كم كانت محدودة، لكنها رغم ذلك مكتملة، كانت تجربتنا في غوادالاخارا!

لقد رأينا حُباً يافعاً، زواج عُشاق، وحب أم عجوز لابنها.

لقد استمعنا إلى الموسيقى، تذوقنا الشراب، ونظرنا إلى البيوت الملونة.

ماذا هناك أكثر لنفعله، غير المكوث؟ وهذا ما لا نقدر عليه.

وبينما النسمة الأخيرة تُنعش قبة البرج العتيق المُعَرّى، انعطفتُ

بنظري

راجعاً إلى كُتيّب التعليمات الذي جعلني أحلم بغوادالاخارا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.