}

إليف شافاق: كتب تثير الذهن وتشفي الروح

سناء عبد العزيز 5 فبراير 2018

 

نفتقد كثيرا للكاتب المفكر، فقراءة نتاجه لا تثري معرفتنا فحسب، بل تفتح آفاقًا جديدة في وعينا وتفضي بنا إلى مناطق مجهولة تشفي النفس وتعيد ترتيب أذهاننا. وفي هذا الصدد تحدثنا الكاتبة التركية إليف شافاق في مقال لها على الغارديان عن مجموعة من الكتب تكلفت بعمل ذلك، مستهلة مجموعتها بكتاب "الأزمنة السائلة: العيش في عصر اللا يقين" لعالم الاجتماع والفيلسوف البولندي زيغمونت باومان، الذي توفي العام الماضي، وهو الكتاب الثالث من أربعة كتب خصصها زيغمونت حول تحولات الحداثة، ويعتبر واحدا من أكثر الشخصيات تأثيرا في النظرية الاجتماعية. وتختتم مقالها عن أهم ما قرأته هذا العام بكتاب "هذا يغير كل شيء: الرأسمالية مقابل المناخ" للكاتبة الكندية نعومي كلاين الصحفية السياسية ومؤلفة الأفلام التسجيلية.


عصر اللا يقين .. فائض الخوف

يعيش إنسان العصر الراهن حالة مستمرة من الأرق والخوف، وكأنه على حافة ما أو على وشك السقوط حتى داخل الحلم. ويرصد هذه الحالة ناقد العولمة عالم الاجتماع والفيلسوف البولندي زيغمونت باومان، الذي توفي العام الماضي، في كتابه الثالث "الأزمنة السائلة: العيش في عصر اللا يقين"  ضمن سلسلة من أربع كتب خصصها لسيولة عالمنا المعاصر، وترجمها إلى العربية الدكتور حجاج أبو جبر  وهي "الحداثة السائلة" و"الأخلاق في عصر الحداثة السائلة" و"الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللا يقين"  و"الخوف السائل."

فالعالم في سلسلة باومان يعيش حالة من السيولة وانعدام اليقين لا نظير لها، بدءا من عدم قدرة المؤسسات على الاحتفاظ بأشكالها القديمة الصلبة وتعرض تلك الصلابة للذوبان والتفكك، ومرورا بمرحلة انفصالية بين السلطة والسياسة فيما يشبه القطيعة وانسحاب دور الدولة بتقويضها للتضامن الاجتماعي، إذ أصبح الفرد يعيش بنفسه لنفسه وانتهاءً بانهيار التفكير والتخطيط على المدى الطويل واستبدال ذلك بمخططات لحظية بما يتوافق مع الراهن. ما نجم عنه عزلة موحشة وفائض من الخوف لدى الإنسان ومحاولات يائسة لتفريغه في مظاهر شتى، أغلبها يثير البكاء إلى حد الضحك، وبخاصة مع تسارع التغيير بشكل مدوخ، يقول زيغمونت ناقد العولمة الذي ابتكر مصطلح "الحداثة السائلة" واصفاً به مجتمعاتنا التي تسمها العولمة بالاقتصاد الرأسمالي العالمي وتعيش زيادة كبيرة في خصخصة الخدمات وتحكم تطوّرها ثورة المعلومات، "العالم أمام ثقب أسود".

تذكر شافاق "أن باومان لا يتناول في كتابه فقط الطريقة التي نرى بها الأشياء، بل أيضا أخص المصطلحات والمفاهيم التي نستخدمها. فعلى سبيل المثال، توحي عبارة "أزمة اللاجئين" بأن اللاجئين أنفسهم قد تسببوا في مشكلة أدت إلى تعامل آخرين معها.. ثمة استياء في العبارة مستتر ضمنا - وتمييز بين "نحن" و"هم". وبالنسبة لباومان، الذي تعرض للعنصرية ومعاداة السامية، فإن افتقارنا إلى القدرة على العمل معا هو انعكاس بالأحرى لـ "أزمة إنسانية". وإن صوته جاء في كتابه حكيما ومحرضا ودقيقا لمساعدتنا على إعادة التفكير في العالم المعاصر وإضفاء معنى أفضل على فوضى عصرنا. "نحن بحاجة إلى حكمته اليوم."


المؤمن الحقيقي .. بذور التمرد

جذب هوفر انتباه الرأي العام بكتابه الأول "المؤمن الحقيقي: أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية" الذي صدر في العام 1951، ويتناول فيه حالة الإحباط وعدم التحقق التي تعتري الفرد وما يليها من شعور بالغضب والاستياء وبدء ظهور أعراض النقمة، وهي المحرك لهؤلاء ليكونوا مؤهلين كروافد لإمداد تلك الجماعات بمؤيدين جدد، حيث تغيب الفردية وتنداح في مجموع ممتثلة لقوانينه ومبادئه، وهو يعزز ذلك بأمثلة من التاريخ البشري كمساندة طبقة العمال لهتلر كوسيلة للتخلص من المعاناة، وهنا تتساءل شافاق "ما هي الأسباب النفسية للتعصب والتطرف؟ ما الذي يجعل الناس متيقنين ومتشددين في أفكارهم؟ تقول شافاق: بالنسبة لبعض القراء فقد يكون هذا الكتاب مزعجًا كونه مزدحما بحكمة واقعية ظلامية، إلا أنه يعد دراسة هامة لمناقشة أسباب الانجذاب للحركات الجماهيرية بهذا الشكل الفعال، حتى في "مجتمعاتنا الفردية". وفي الوقت الذي اكتسبت فيه القبلية والشعبوية والقومية والانعزالية زخما في جميع أنحاء العالم، فثمة استياء متزايد، يستوجب منا أن نفهم الأسباب خلف جذب هذه الأيديولوجيات لكثير من الناس". يقول هوفر في كتابه: "كلما كان المرء أقل تسويغا في ادعاء تميز ذاته، كلما كان أكثر استعدادا لأن يدعي كل التميز لقومه أو دينه أو عرقه أو قضيته المقدسة". لقد حاز هوفستادتر بدراسته الثاقبة تلك على جائزة بوليتزر. وتذكر شافاق أن الكتاب تعرض للنسيان لفترة من الوقت ولكنه الآن أصبح من أكثر الكتب مبيعا ومرئيا على رفوف الكتب مرة أخرى. ويستكشف هوفستادتر في كتابه، كيف أن استياء حياة الفكر ظل مستترا لأمد طويل في الثقافة والمجتمع الأميركي، ومع ازدياد الشعبوية والديمقراطيات غير الليبرالية اليوم، تصاعدت حدة الخطابات المعادية للفكر. هوفستادتر يبين لنا أن هذا الجنوح المعادي للفكر ليس شيئا جديدا، ولكنه قد يجلب عواقب غير متوقعة.

 

المرأة والسلطة.. تاريخ من القمع

ترى شافاق أن أسلوب ماري بيرد في كتابها "المرأة والسلطة" في مناقشة مفهوم السلطة مشوق، ومحرض، ومثير للذهن، لاعادة النظر في تاريخ من القمع استخدمت السلطة فيه كأداة لإسكات المرأة. وتتساءل: كيف تعامل التاريخ مع النساء اللوائي تجرأن على التحدث في الأماكن العامة؟ وهل تحسنت الأمور الآن؟  تجيب شافاق: من بعض النواحي نعم، ومن بعضها الآخر "لا على الإطلاق". أما بيرد في مقال في النيويورك تايمز للناقدة بارول سيغال فتقول: "إن المرأة التي كانت تتحدث علنًا، لم يكونوا غالبا يعتبرونها بحكم التعريف امرأة" مشيرة إلى مارغريت ثاتشر التي كانت تأخذ دروسًا في طريقة الإلقاء لتعميق صوتها، وإلى تفضيل المرأة حين تضطر للعمل في السياسة لارتداء السراويل المحكمة. وتكمل سيغال "ولا تزال المرأة تعتبر متطفلة على الحياة العامة؛ فحين تسعى للسلطة، فالعوائق لا مفر منها. تروي بيرد سطورا صريحة من مواقف العالم الكلاسيكي في التحيز الجنسي مثلما حدث في حملة هيلاري كلينتون الرئاسية، والمضايقات التي تواجهها النساء على الإنترنت، والتهديدات المريعة التي تلت اقتراح أحد العلماء بأن بريطانيا قد تضع صور عدد أكبر من النساء على الأوراق النقدية. ومن أجمل ما ورد في كتابها في النيويورك تايمز حكاية فيلوميلا المرأة التي قطعوا لسانها بعد أن اغتصبوها فلجأت إلى نسج سجادة حائط لتروي من خلالها تفاصيل الجريمة ومقترفيها. ليس من السهل إذن اسكات المرأة!

وترى شافاق أن قراءة كتاب بيرد أمر ممتع يستحق أن يناقش في المنتديات، وبين الأصدقاء، وبين الجماعات. ويوضح هذا الكتاب المستنير الطريقة التي تمت بها معاداة المرأة والسبب في السهولة البالغة للتكيف مع ذلك. كما تتحدث عن المجتمعات البطريركية ومعاييرها المختلفة تجاه المرأة سواء في السياسة أو في مناصب السلطة. وتذكر شافاق أن الوقت قد آن لتغيير اللغة التي تميز بمنهجية ضد المرأة!

 

 نعومي كلاين .. هذا يغير كل شيء

كاتبة أخرى تغير تفكيرنا بآرائها وتشفي نفوسنا هي نعومي كلاين. صوت قوي، ومؤثر ومتفائل، على الرغم من طبيعة الموضوعات القاتمة المطروحة عبر كتابها "هذا يغير كل شيء: الرأسمالية مقابل المناخ" تقول شافاق "كتاب لا بد من قراءته من أجل فهم أكثر وضوحا لكيفية عدم المساواة الراسخة في الهياكل الرأسمالية". فهل ثمة علاقة مباشرة بين الرأسمالية وتغير المناخ؟ يجيب معظم المحللين بالإيجاب، فالرأسمالية هي المتسبب الرئيسي بجورها على البيئة في تغير المناخ وتهديد البشرية بأسرها. وقد أدى نشاط الإنسان وتطور الصناعة إلى حرق مليارات الأطنان من الوقود الأحفوري ورفع معدلات الحرارة بشكل غير مسبوق. وتربط كلاين بين العدالة الاجتماعية والعدالة المناخية فتنحاز إلى الصالح العام ضد الاحتكارات العالمية المكرسة لتجميع الأرباح. إنه كتاب عظيم لتجديد إيماننا بالبشر، لبناء إحساس بالتضامن العالمي والوعي البيئي، وبالنسبة لأولئك الذين لا يتخلون أبدا عن الحلم بمستقبل أفضل وأكثر عدالة.

وتبدو القضايا التي طرحتها الكتب سالفة الذكر من الأهمية بمكان، ولصيقة ببقاء الإنسان ورفاهه على الأرض، باومان يضع يده ببراعة على فائض الخوف؛ كارثة المرء التي تلاحقه في كل لحظة وتشغله بأمور تافهة تحط من قدره أمام ذاته ولا يجد مبررا لها، الإرهاب والتطرف الذي بات مشكلة المجتمعات بأسرها؛ رعب نصحو وننام عليه، المرأة والسلطة، معضلة البشرية وأصوات يستحيل إسكاتها، وأخيرا الرأسمالية التي تلتهم العالم بأسره.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.