}

مقطعان من سيمفونية الموتى

عباس معروفي 25 فبراير 2018
ترجمات مقطعان من سيمفونية الموتى
لوحات للفنان الكتالاني انتونيو باييس

كان الزقاق بارداً وقذراً. والضباب والدخان يبتلعان فضاءات المدينة جميعها. عاد أورهان، للحظة، ونظر خلفه، وكأن كل ذلك الدخان المتصاعد من خان تجار المكسّرات يتحرك وينبعث خارجاً من فوهة الدهليز. فكر أورهان، هنيهة، في أن يرجع ويأمرهم بإخماده أو أن يتخلصوا منه بأية طريقة. إنه الشتاء، هنا الشتاء على الدوام، لكنه حزم نفسه وانطلق في طريقه على الرصيف مبتعداً عن المدينة. انتهت تلك الضربات على الجسد والكتف، ولم تعد تلك العربات اليدوية تصطدم بأرجله، ولم تعد تلك الرصاصات الثلجية تنطلق من يد صبي. لطالما كان يطأطئ الرأس رغم ثقل بدنه، فتتمدد رصاصة ثلج على قفاه، شاء أم أبى.

هطلت ثلوج كثيفة، وكانت تريد أن تهطل أكثر. سحب أورهان نفسه إلى شارع علّه يظفر بعربة أو سيارة تقلّه. لكن الثلج كان قد سلب المدينة أمنها، لا سيارة ولا عجلة، ولا وسيلة توصله. لم تمر من وسط الثلوج إلا سيارة جيب واحدة تابعة لدائرة الأمن، مكبلة عجلاتها بالسلاسل، تركت خلفها خطين متوازيين في شكل ثعبان. ماذا عليه أن يفعل الآن؟ هو يبتعد عن مقهى شورابي مسير نصف ساعة راكباً، لكنه لو واصل السير راجلاً، وفي هذه الثلوج، فلن يصل إلا والليل قد أرخى سدوله. هذا أفضل، كان قلما يعاني في الظلمة. ولا ينتبه لوجوده أحد. لكن هل كان ممكناً الرجوع؟ ماذا لو بقي؟ كلّا. كان سيصل في الموعد. ولنفرض أن الليل داهمه أو الذئاب افترسته أو لم تفترسه. إلى جهنم! قطعَ شارع الشيخ صفي حتى آخره. انعطف يساراً ثم واصل السير. كان صوت الأم الجاف والصدئ يصل دوماً إلى مسامعه مع أزيز نَفَسها المتهدّج. ماذا لو لم يعثر على هذا المجنون؟ كلا، سيجده بالتأكيد، في ذلك المقهى، "سأجده أمي، أعدك.." هذه المرة وعد نفسه، للمرة الأخيرة.

كلما ابتعد عن المدينة أكثر لفّت رأسه جلبة أكبر. أقبل على فلاة منبسطة بيضاء لا يجرؤ كائن على اجتيازها. لا أحد يركض فوق الثلج ولا عجوز يتمدّد على الأرض، حتى الحمّالون لم يعودوا يحرقون الأخشاب في البراميل الحلبية. كانت جنبات السماء زرقاء داكنة، وغرابٌ فوق أغصان آخر شجرة يابسة في المدينة، ينعق: "ثلج، ثلج".

سحب ياقته إلى أعلى وانطلق يدبّ وسط البريّة المجمّدة كسلحفاة متهدّمة. بخطواته المعتادة، يمشي الهوينى، يتحرك كالمعتاد غير متعجّل، يعرف جيداً طريقه، لأنه طالما اجتازها. عثر عليه في مقهى شورابي:

- ماذا تفعل هنا؟ أيها الغول!

ردّ آيدين: "سيدي، أنا أيضاً لديّ قلب، أشتهي كوب شاي".

- اكتم نفسك. احتسِ شايك في الخان.

ثنى آيدين الجريدة التي بيده بشكل مرتّب ودسّها في جيبه الجانبي وقال: "يشرب المرء الشاي الذي يليق بتبوله".

- قاتلك الله، أتعبتني.

كان الجو مشمساً، والخرفان ترعى فوق التلّة، وصوت المدينة يتناهى إلى الأسماع من بعيد. أومأت إليه أن يصعد إلى السيارة. قال: "لا". قلت: "ماذا تعني بلا؟".

قال: "أخي، تعال بنا نتسكّع راجلين. في السيارة يغالبني رأسي فأزبد".

قلت له: "إلى جهنم!"، وصفعته على خده. لم يكن لدي خيار. لا بد أن ينال جزاءه. لم يكن ممكناً تركه في ذلك الموقف العصيب. اندفع مُشْد عباس، صاحب المقهى، قائلاً: "مهما فعل فإنه إنسان، وهو أكبر منك". وصفعته ثانية. زحف إلى مقعد السيارة الخلفي. أنزلته أمام الخان، وكان يرتعد ويرعد وسواد عينيه قد تلاشى. مددوه في الدهليز على الأرض وأخذ أحد الحمالين، أظنه إسمايول، سفوداً ورسم على الأرض، حول محيط جسده خطاً. فقلت له: "لمَ تفعل هذا أيها الصبي؟".

قال: "كي يبقى مرضه في الأرض".

قلت: "آآ، مثل فُطري". فتذكرت الفُطر الذي كان على رقبتي. فُطر يابس بحجم قطعة نقدية. رسمت حوله خطاً بقلم أزرق. وبعد بضعة أيام يبس واندثر، ولم يظهر له أثر بعد ذلك.

انبرى أحد الحمالين لغسل وجه آيدين، وجلس آخر فوق عضلات رجله. وبعد أن سكبوا ماء بارداً على رأسه هبّ جالساً كمن طار فزعاً من نومه. أخرج من ثنية سرواله جريدة قديمة وشرع يقرأ: "وفي اليوم الموالي أخبروه: أيها الأمير، لقد انتقع وجه الملكة، حسرة على فراقك، وقريباً سيرفرف طائر الحياة مغادراً بستانها. تعال وألق نظرة على القابعين في الرماد. قال: اسألوا النارنج ماذا أفعل؟ سألوها، فتفتحت شجرة النارنج ورست رشيقة القوام تلك على ساحل بحر الأمير وفطرت فؤاده....".

انتبهت إلى أن الحمالين يرمقونني بنظرات ساخرة، وكأني أنا من أحكي هذه الترهات. قلت: "حسن، لا تثرثر كثيراً، هيا اذهب واكسر البزر".

 

مقطع آخر

كانت الريح تسقط تحت الستائر وتجلجل قناديل الصقيع. لم تكن آذر مرئية، وذكرى جسدها كانت تعذّب أورهان وهو متأجج ناراً. صلصلة عربة ذات حصانين كانت تسمع من الزقاق "تلق تلق". سنابك الحصانين تغوص في الطين، وزمهرير البرد ينخر الكيان. قال أورهان: "آذر، أغلقي تلك النوافذ". أقفل أحدهم النوافذ، غير أن البرد لم يكن آتياً من الخارج. قال: "دثّري ظهري ببطانية". التفت برأسه، لم يكن أحد بالغرفة، وكانت الرعشة تصكّ أسنانه.

تدحرج. كان جدار الإصطبل البارد يشج جلد وجهه. رفع رأسه، الظلام مخيّم. والأم، الآن، راقدة تحت أثقال التراب والثلج. قال: "أين أنت؟".

لم يكن ثمة أحد. أخذ العجوز البرادع والأمتعة. ما كان اسمه؟ كان من أهالي قرية رام اسبي أو أي مكان آخر. كم كان من السهل فضحه والقضاء عليه. النذل، كان ممكناً تحطيمه بألفي تومان. صرخ: "أيها العجوز!". لا، لم يكن أحد موجوداً. وحده عواء بضعة ذئاب يصل الآذان، والسقف أيضاً يقطر ماء.

كان رأسه ينفجر ألماً. خرج من الإصطبل وتقدم في العتمة إلى أن أوصل نفسه إلى عتبة الباب. كان الثلج قد اجتاح الغرفة إلى منتصفها، ثم أمسك عن السقوط. متى تساقط؟ ما أكثره من ثلج! بياض حاد ينفذ إلى الأعين.

نظر إلى السماء فلم ير أية أمارة للضياء. لاحقه كل ما كان يتوجّس منه في صغره. كان يرى تابوتاً محمولاً على أكتاف أربعة يلبسون بياضاً، شاحبين حائرين، يتقدمون من دون أذى وكأنهم يجمدون في مكانهم. نظراتهم فاقدة الإحساس، مسمّرة عليه من أعماق الأحداق. تمسّك بالإطار وتمالك نفسه. الصراخ فقط كان يريحه، لكن الصوت لا يعلو. ليته استطاع الصراخ إلى قيام القيامة، مسترسلاً بلا توقف.

جثم البرد على فضاء الإصطبل المظلم. لو تمشّى في الثلج لأحس ببرد أقل بالتأكيد. كان يجتاز الثلج ويحفر الأرض ويغوص في التراب الدافئ المضمر تحت الثلج؛ هناك حيث الأرض تتنفس، تبتلع لحظة دافئة وتقلبّ لحظة أخرى تحت الثلوج. كان بدنه أكثر عراء وأشد ثقلاً من أن يركض رفقة خياله. تراجع القهقرى، خطوة واحدة، وخبط بقدمه في تلك العتمة وخبط. أدار يديه في الهواء، ووضع القبعة في جانب، فتح أزرار معطفه وشرع يسعى. كان عليه أن يصد الرجفة بأية وسيلة. جدّ في حياته كلها ألا يحس بالبرد أو الحر، ألا يشعر بالجوع، وحاول طوال عمره أن يلملم ماء الوجه والجاه، وألا يموت أبداً، وأن يقصد الدكان كل صباح بنفس المعطف والقبعة ويرجع ظهراً ليتناول غداءه ويتمدد ساعة أو ساعتين في الغرفة العلوية، ثم يعود عصراً إلى الدكان. كان يحب، أثناء عودته ليلاً، أن تكون طريقة مشيته مختلفة عن الآخرين، بحيث إذا سلّموا عليه، يرد عليهم "وعليكم" من دون أن ينظر إليهم. لكن، الآن، وهو على موعد مع الموت لا يريد ذلك. يجب أن يموت وسط أفراد العائلة جميعهم وهم ينتحبون بحيث تعنّ له فرصة تقسيم التركة. عمو العزيز وأنتم الإخوة تصالحوا واعتنوا ببستان المشمش، لا يبقى جدباً ولا تتركوا حيطانه تتهاوى. الأوغاد، سرقوا آجُره قبل بضعة أشهر. ولا تغفلوا عن شجرة التوت الكبيرة التي يتوسط ساقَها ثقبٌ، فإني أحبها. الخالات والخال العزيز، تقاسموا البيت، ولتأخذ العمة الأثاث، هي عجوز، لكن لا بأس ستعطيه لأبنائها. أما الدكان، كيف أقول وماذا باستطاعتي أن أقول؟ أضعت عمراً بكامله على عتبة الدكان، من الصباح إلى الليل. أفنيت شبابي. كان بالإمكان أن يكون لديّ زوجة، والآن ليس لدي. تعلمون، أليس كذلك؟ اصبروا حتى أفكر في أمر الدكان.

كان يستطيع توزيع باقي الممتلكات قطعة قطعة وإعطاءها لهذا وذاك. يأتي هذا الطبيب ويذهب آخر. أطباء طهران وأطباء ألمانيا وإسرائيل. يقال إن أيديهم شافية. كان آيدين يقول: "يقولون إذا وضعوا أيديهم على شيء صار رماداً. لهذا خربوا الدنيا". لو يأتي هؤلاء ويقيسون نبضه وينصتون إلى ضربات قلبه. أي مرض يتسبب بموته؟ السكري أو السرطان. السرطان، لا، إن آلامه سيئة وموته أيضاً سيئ. سمع أن البُدن يموتون بسبب ضغط الدم أو السكتة القلبية. كان باستطاعته لو أراد، أن يكون بهيكل آيدين، حينها كان سيكون رجلاً نحيلاً أسمر اللون تاتارياً، يموت بقرحة المعدة. لا، لا. كان الأطباء الأجانب سيعالجونه بحقنة واحدة. ويعود مجدداً إلى الدكان، ليأمر الخدم، ويشتري الدكان الكائن في ركن الدهليز ويزيل الجدار الأوسط. ويأمر مارتا المتسولة الجالسة على درج ركن الدهليز بتغيير المكان. ويغيّر لوحة الحانوت ويكتب بخط النستعليق وببنط عريض محل مكسرات أورهان الكبير. بمصابيح كبيرة وعشرة إلى اثني عشر عاملاً، وعربة يدوية، وزحمة. حسنٌ، كل هذا جيد، وأبهته جميله. لكن حين تعود لتطوي الطريق وأنت أعرج فلن تتلقى التحية من عابر، بل يتبعك ويكرر على مسامعك: "هل جربت الدكتور آفتانداليان؟ سيد أورهان"، "كنت أنوي زيارتك أمس..."، "قل عزيزي قل"، "الدكتور شوشانيك، لا بأس به، إنه يحيي الموتى"، "عزيزي كان أبوك من ندمائي، رحمه الله. أنت لمَ هرمت بهذه السرعة؟"، "بسبب غم الأخ"، "حسنٌ، الدكتور ناي دانف الروسي..."، "مات". ليذهبوا جميعهم إلى الجحيم، ليموتوا. كم تعاقِب الحياة؟

 *مقطعان من رواية "سيمفونية الموتى" للكاتب الإيراني عباس معروفي، ترجمة أحمد موسى.

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
25 فبراير 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.