}

الحبر وراء القضبان: احبسوا أنفاسكم!

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 18 فبراير 2018
تغطيات الحبر وراء القضبان: احبسوا أنفاسكم!
عمل للفنان الهولندي بيت موندريان
فرانسوا فيون، جان جوني، خوسي جيوفاني، جوروج أرنو، روني فريني، هذه هي الأسماء التي خصص لها الملحق الثقافي للجريدة الفرنسية "لوفيغارو" ملفاً خاصّاً. والسياق الذي علّلت به الجريدة تخصيصها هذا الملف جاء في أعلى الصفحة، وجاء فيه الأميركي كارل شيسمان حكم عليه بالإعدام سنة 1960. وخلال الاثنتي عشرة سنة التي سبقت ذلك الحكم، ألّف أربعة كتب أشهرها "الزنزانة 2455"، "ممرّ الموت" سنة 1954. لكنّ هناك سياقاً آخر أشمل من هذا الذي ذكره المحرر الثقافي للملحق، ويتجلى في صدور عدد من الكتب الأدبية، وضمنها كتب الشهادة، قدّمت عنها الجريدة مقالات تعريفية، منها: "منذ زمن طويل وأنا أكذب" لألكسندر براندي، "كليستر كافالكانتي"، قصة مترجمة عن البرازيلية من طرف هيبيرت تيزاناس، "القسم الأخضر" لبنيامين بيتشال، و"أيام الجرائم، جنون، اعترافات، الأكاذيب، هنا كل شيء حقيقي" لستيفان ديران سوفلان. وقبل أغلفة الكتب سيرى القارئ بورتريه لجان جينه الشاب وهو يدخن وينظر للكاميرا بدهشة، إنه أكبر الأدباء المنحرفين في الزمن الحديث، الذي ألّف كتاباً مدهشاً "مذكرات لص"، الذي علينا تصديقه والارتياب به في آن، ألم يكتبه قلم شخص يعتبر الكذب حقيقة بديلة؟

أكسندر براندي: كذبتُ طوال الوقت

تجاوزت الذهنية الحديثة العديد من المواقف الأخلاقية في الأدب. يستطيع المؤلف (السينمائيون يفعلون ذلك ببراعة) أن يضع شخصية مخادعة داخل زوبعة الأحداث، ويظل طوال السرد يتوّجها بالنياشين والألقاب الرفيعة، فيحبها القارئ وتدهشه بأفعالها ووظائفها التي تنسج حبكة دقيقة. لذلك نلاحظ اليوم تنامياً مذهلا لترجمة روايات الشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي، التي يمكن أن تعتبرها السلطة الأخلاقية، وهي في النهاية قيمية ودينية، مليئة بالعار. كما يمكن إضافة أعمال محمد شكري المليئة بشقاء شخصياتها وشطاريتهم، وبعد رفضها، تحت ضغط السلطة الأخلاقية، ها هي اليوم تنطلق من جديد وبتلقٍّ مختلف عن التلقّي الأول.

الرواية الاولى لألكسندر براندي "منذ زمن طويل وأنا أكذب" (غراسي 2018) وضعت نفسها تحت رعاية ثلاثية من قِبل "رامبو": "أنا هو الآخر"، وبليز ساندرار: "الكذب حقيقة أخرى"، ثم "أورتيغا يي غاسي": " أنا هو أنا وظروفي".

  تحكي الرواية قصة حقيقية لشاب، ابن جندي وممرضة، ملك التضليل وأمير الخداع والتغرير. تحوّل بالتدرج، وهو لم يتجاوز العشرين سنة، إلى ثري لبناني، ثم ابن أخ الكولونيل القذافي، وبعد ذلك ابن أخت بشار الأسد في سورية. الزمن هو سنة 2006. يعيش براندي في بيت والدته، في "لواز". يخدع مقاولي العقارات الرفيعة والفخمة، ويغرّر بأصحاب الأروقة الفنية وتجار اللوحات، ويضلّل تجار التحف القديمة دون إثارة أدنى شكّ أو شُبهة. "لكل كذبة ضمانة، يؤكد بدم بارد، يمكن تسميتها ضمانة عقلية".

  يؤكد ألكسندر براندي أن كل ذلك كان من اختياره. ويذكر أكبر عملية في حياته هي حين أراد بيع فندق بمبلغ قيمته خمسة وعشرون مليون يورو، وعوض أن يضع توقيعه في المكان المخصص لعقد البيع، أخرج سلاحاً بلاستيكياً وهدّد مالكته وصاحب الوكالة العقارية وسرق منهما 700000 يورو من المجوهرات، فتمّ القبض عليه بعد عشرة أيّام من عملية السرقة، في بيت والدته. يعترف قائلاً: "فعلت كل شيء ليعثروا عليّ، مثلما كنت أفعل وأنا في سني الثانية أو الثالثة مختبئاً داخل خزانة غرفة الضيوف بعد أن أُخرج كل الأواني وعلب الحلوى، تاركاً كلّ شيء بلا ترتيب".

كليستر كافالكانتي: جريمة دون عقاب

يحكي هذا النص قصة قاتل مأجور يُدعى خوليو سانتانا، الذي قتل 492 ضحية برازيلية قبل أن يختفي في منطقة بعيدة. الصعوبة التي تعترض قارئ قصة هذا القاتل، الذي اعترف بكل شيء لصحافي، لكنه لم يقف تماماً أمام القضاء. لا شيء رؤيوياً أو مخيفاً في القصة التي كتبها كليستر كافالكان، الصحافي البرازيلي الكبير، الذي أمضى ست سنوات وهو يجري الحوارات والأبحاث. يبدو الأبطال الثلاثة وكأنهم خرجوا من رواية لديستوفسكي. إلى جانب "خوليو"، كان هناك عمه "سيستيرو"، الذي دفعه بشكل خفي إلى الجريمة. ثم زوجته ، التي تذكر القارئ بـ "صونيا"، الشخصية المثيرة للقلق في رواية "الجريمة والعقاب".

 النصف الأول من الكتاب يركّز حول الجرائم الأولى التي ارتكبها "خوليو". وعبر الأحداث الأولى، التي قدّمت في تفاصيلها، تناول الكاتب الآليات النفسية وتسلسل الأحداث التي يقوم بها بطله وأدت به إلى ارتكاب الجريمة على الرغم من المقاومة القوية التي يقوم بها وعيه وحساسيته. كل شيء بدأ حين كان "خوليو" في العاشرة من عمره. كان يعيش عدة صعوبات برفقة والديه داخل الغابة. وذات يوم، طلب منه عمّه المفضل، الذي علّمه الصيد، والذي وجد نفسه عاجزا عن مغادرة السرير بسبب مرض الملاريا، طلب منه أن ينوب عنه في القيام بـ "عمل" قبض أجراً مسبقاً عنه: قتل صيّاداً اغتصب ابنة ممرض. القيام بهذه المهمة الأولى تطلب من "خوليو" وقتاً طويلا. لكن عمه عاد للاضطلاع بها. ألا يحتاج الشاب "خوليو" إلى المال لكي يتزوّج حبيبته؟ فوجد هذا المبرر: المهمة الجديدة التي اقترحها عليه عمه تتحدّد في مطاردة الشيوعيين في الغابة، وذلك لا يعني قتلهم، بل فقط إصابتهم بالرصاص لكي تتمكّن  الشرطة من القبض عليهم واعتقالهم من أجل استجوابهم.
حين بلغ "خوليو" سنّ الثلاثين، دخلت إلى حياته نادلة شابّة التقاها في حانة، فأصبحت هذه اليتيمة الجميلة زوجته وملاكه الحارس. وهي حامل تناهى إليها أنها زوجة قاتل. وبقيت تنتظر عشرين سنة أن يفي بوعده ويتوقّف عن هذه المهنة، تبكي في الليل حين يعود من تنفيذ مهمّة، وتعاني طوال النهارات، تصلّي، دون أن تفهم أن هذا الرجل الرقيق جدّاً يمكنه أن يقتل من أجل المال. ورغم كلّ شيء، رغم كراهيتها له، وحالات يقظة الوعي والضمير التي تجتاحها، كانت تشعر بأن عليها أن تقف جنب زوجها، من دون أن تتوقف عن قول: أحبّك.

الصيغ والمواقف والضمائر

يقدّم الأدب أوضاع العار والحالات التي تنتجها الجرائم، كبيرة أم صغيرة، وحالات العقاب التي تحاول مسح آثار السلوك المنحرف. لكن يبدو أن الأدب يحاول تفكيك الجريمة والعقاب معاً. وإذا سُمح لنصوص الأدب (رواية واعترافات) أن تكتب جملة في الصفحة الأولى لكانت هي هذه: احبسوا أنفاسكم، هنا مجرم سيدافع عنه الخيال. ورغم أن هذه الحفريات تتضمن مصائر وأفعالاً غامضة، فإنها تحاول تفكيك الذكريات، ذكريات المجرمين والمنحرفين الذين أصبحوا أدباء، فوضعوا في طريقهم، وهم يتوجهون إلى الموت والمآسي التي تسبّبوا فيها للآخرين، رُكاماً من الحقائق لا تخلو من جمالية. السرد مشدود إلى الذات وإلى الأفق معاً. فتتولّد داخل النص شخصية قوية وفذة، ورؤية سوريالية تدور حول محور واحد هو الذات. فتستطيع الرواية، أو الاعترافات، أن تقودك إلى أي مكان، فهي لا تملك ضمانة أن تتوجه إلى مكان واحد، وما على القارئ سوى اقتفاء أثرها بعماء لذيذ. ومن نقط قوة هذا السرد أنه يولد لديك قناعة أن الإقامة في السجن شبيهة بالسكن في مكان ساحر على البحر لقضاء عطلة، والأغرب أننا نصدّقه وندافع عن أطروحته. المصير متحول مثل أحوال الضمير، والصيغ السردية الحافلة بالصيغ والمواقف أكبر سكرتير يعمل لدى العقل.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.