}

تحت الثّلج

أُوليفيي آدم 17 فبراير 2018
ترجمات تحت الثّلج
لوحة لمروان قصاب
في الليل أخشى عليه أن يموت.

في النهار أيضاً، لكن اللّيل هو الأسوأ.

أحاول أن لا أنام. ودائماً لا أستطيع.

أحيانا أغفو وأصحو منتفضاً. حين يحدث ذلك، أخرج من غرفتي لكي أتحقّق من الأمر. أتمشّى ببطء في الممرّ، ولا أثير ضجّة. ألصق أذني بالباب. أنصت لزفيره القصير، لتنفّسه الثقيل والصعب، ثمّ أعود لسريري. لا أكون مطمئناً رغم ذلك. أعلم فقط أنّه لم يمت بعد. حتّى الآن على الأقلّ. أُشعل الضوء. أدقّ على الباب ثمّ أفتح. أجد أمّي جالسة، وراء ظهرها وسادتان كبيرتان، وساقاها فوق غطاء السرير. إنّها تقرأ. ترفع عيناها وتبتسم.

-  كيف الحال؟

- بخير. ألن تنامين؟

- لا. لم أستطع النوم.

- وأنا أيضاً. يجب أن تعدّي لنفسك حليباً ساخناً.

- نعم، قد أفعل.

كان سريره قريباً من النافذة. سريرٌ طبّي من المستشفى. ومن هناك، يرى الشجرة الّتي تتراقص حين يفتح عينيه. إنّها شجرة بِتيولا كبيرة غرسها عند ولادتي. ينام عارياً تحت غطاء من القطن. غطاءٌ قديم مستعمل، هو الوحيد الّذي يتحمّله. لقد تساقط شَعره بالكامل. ووجه تورّم بسبب الكورتيزون. وبالكاد أتعرّف على ملامحه. جلستُ بقربها.

- ماذا تقرئين؟

أدارَت غلاف الكتاب، وأطلعتني على العنوان. وضعَت الكتاب فوق الغطاء واحتضنتني وهي تقبّل رأسي. كان يسعل في غفوته. ولم يقل كلمة واحدة منذ ثلاثة أيام. لا يستيقظ إلّا مرّات نادرة. يفتح عينيه لبضع دقائق. ينظر إلينا ويبكي. ثمّ يعود إلى النوم. سيموت قريباً. سيحدث ذلك بين دقيقة وأخرى.  لم أكن أتوقّع أن تسير الأمور بهذه السرعة. حين اكتشفوا عنده الورم، قال الطبيب إنّه لن يقضي الشتاء.  ونحن قلنا إنّه سيتماسك حتّى الخريف القادم، ويرى اصفرار أوراق شجرته تتساقط. لكن أعتقد أنّنا كنّا مخطئين. استلقت أمي وتمدّدتُ بجوارها. أطفأت النور وبقينا جنباً إلى جنب. من خلال النافذة أرى القمر المكتمل، يُضيء قليلاً وجهها، إنّه أكثر بياضاً من المعتاد. انكشمتُ في حضنها.

كنّا نسير تحت الثّلج  وهو يمسك ذراعي. لقد سقط الثّلج دون سابق إنذار، والغابة كانت بيضاء ولامعة. قال لي إنّه سيموت، وأنّ نتائج الاختبارات شكلية، لديه ورمٌ في الدماغ. ويوماً ما، قبل أن يتضاءل كثيراً، قبل أن يصير واحداً من الخضار، سوف يقتل نفسه. وعليّ أن أتفهم الأمر، لأنّه يحبني. قال لي أبي ذلك فغلبني الدّمع وأكملنا السّير في صمت. أمسكتُ يده وكنّا مثل عاشقين تحت الثلج.

لم يقتل نفسه، لكنّه سيموت على أيّ حال.

- سأخرج.

- في هذه الساعة؟

في الخارج كان اللّيل دافئاً بعض الشيء. لقد تهاطل المطر وتبلّلت أوراق الشجر ، وصار العشب لامعاً بضوء لاواقعيّ تحت مصابيح الشوارع. وأغلب البيوت غرقت في العتمة. وخلف النوافذ القليلة المضاءة، يمكن التخمين أنّها أضواء تلفزات. حشرتُ سيجارة بين أسناني. وأحرقتُ أعواد ثقاب كثيرة. وعند نهاية صفّ البيوت، سلكتُ الطريق. ثمّة ضجيج الأشجار، لكن ليس على الأرض، إنّه قادم من الأحراش. تنغلق الغابة وتلتصق أصابعي بالجذوع الرّطبة. لا أستطيع رؤيته لكنّه يترك آثاراً خضراء وبنّية على الجلد. إنّه رطب، كأنّه مخمل أو رغوة. نزعت طرف اللّحاء ووضعته على لساني. إنّه حريريّ وناعم. ومُرّ بعض الشّيء. مضتعه ثمّ ابتلعته. يوماً ما، ستنبت البراعم من أطرف الأصابع.

كان الدّرب ينحدر في اتّجاه النهر. وعلى ضفّتي النّهر من الجهتين تتراءى شواطئ صغيرة. إنّه رمل خشن، تعلوه في الليل مسحة فضّية أو لون القمر.

في المرّات الأخيرة الّتي حاول التحدّث إليّ، لم أفهم شيئاً. رأيتُ نظراته الّتي تحدّق في وجهي. على عينيه ما يشبه حجاباً شفّافاً.  كان يجد صعوبة في البقاء مستيقظاً، أو فتح الفم والنطق بالكلمات. كان صوته ضعيفاً وبطيئاً، تتكسّر في فمه الأصوات إلى فتات. يكرّر الكلمات مرّات عدّة ثمّ يتخلّى عن المحاولة، يغمض عينيه فيتراخى جسده بالكامل مستنزفاً وفارغاً.

الماء يصبّ في الرّمل، وأصابعي  تنغرس وتلتقط الحبوب. أنقّيها من الشوائب، وأخرج منها مسامير ناعمة. أحسّ بلزوجة دودة أرض. أنتظر أن تمرّ وأنهض. تترك على يدي رائحة مقرفة، وعلى اللّسان مذاقاً ترابياً.

يمكن مشاهدة النهر بين الأشجار، والضفّة المقابلة والبنايات، والسيارات المركونة وأضواؤها منعكسة على الماء. جسرٌ من الخردة يطوّق ذراعاً ميّتة، صفائحه في حالة سيّئة جداً، كنّا نمرّ هنا بالدراجة أنا وهو، مساءَ كل يوم أحد. نترجّل منهما ونتوقّف في الأعلى، ونتأمّل في البوارج والسفن المحمّلة بالرمال. كان يقول لي: سنجري سباقاً، ثم يتركني أفوز. لقد فقد شَعره في أيّام قليلة وبعدها لم تعد يده اليمنى تستجيب لأدنى حركة. كان يتركها ممدودة، والقبضة منكسرة. وفي ما بعد، بدأت ساقاه في الارتعاش، وأذنه في الوخز بدون سبب، ولم يعد ينطق كلماته، وفقد الإحساس بالزمن،  وتوقّفت ذاكرته الفوريّة عن العمل.  لقد كان خبيراً بكلّ الأفعال والحركات الّتي اقترفها خلال الثلاثين سنة الماضية. لكنّه لا يتذكّر ما الّذي كان يفعله أو يقوله.

يبتعد الدّرب عن النّهر، ونراه يلمع أيحاناً، عبر أوراق الشّجر والعلّيق. نزعتُ ورقة من شجرة الزان، إنّها حلوة المذاق بعض الشيء. يحاصر نبات القرّاص جوربي، يوخزهما ويلسعهما.  اصطدمتُ بمسمار أكبر من البقيّة، يتجاوز مستوى الأرض الموحلة قليلاً. سقطت إلى الأمام، تسبقني يداي إلى الأرض. نهضتُ واكتشفت أنّ في راحة يدي كانت تسيل دماً ممزوجاً بالطين.  أحسست بمسامير صغيرة في لحمي، وبصرير كأنّه زجاج يتكسّر تحت الأسنان. شممت رائحة النّار، سمعت زجاجات شراب تتصادم، وموسيقى تُعزف أكثر فأكثر، وأصوات خفيضة تتوغّل في الرّمل المتحرك.  وصلتُ فسحة ليس فيها شجر، ورأيت كريستوف ولوريت وأولئك الّذين لا أعرف سوى أسماءهم أو لا أعرفهم بالمرّة. كانوا واقفين حول نار هائلة، بعضهم يرقص، وآخرون يدخّنون لفافات حشيش وهم يغمضون أعينهم رافعين رؤوسهم نحو النجوم ويتمايلون في مكانهم. كانت تنبعث من الجهاز  أغاني "فاتبوي سليم"، و"شيميكال برادرز" وبعدها قِطعاً من موسيقى التكنو الصاخبة والمكرورة، ثمّ بعد فترة قصيرة، مع الفودكا، الحشيش وشيئاً ما وضعه كريستوف في يدي، أحسستُ أنّني أنطلق وفي أحسن حال. كانت لوريت ترقص وعلى محيّاها ابتسامة جميلة، ابتسامة مقدّسة ومنتشية. وكان أحدهم يعانقها ويشدّها نحوه، فاستدارت وقبّلته ورأيت لسانيهما يخرجان ويلتصقان ويدوران في الخارج.  اقتربت منهما فعانقتني لوريت وقبّلتني وكانت يدها ناعمة فوق ظهري فيما يداي كانتا تجوسان تحت تي-شورت الذي كانت تلبسه، وبطنها كان أبيضاً وناعماً. كان الشخص يقف قريباً ولوريت لم تتخلّى عن ابتسامتها الجميلة. فقبّلنا بعضنا البعض وراء الأشجار ولمسَت لوريت أسفل عنقي بأصابعها، وهذه أوّل مرّة تقوم بذلك. كان لفمها مذاق الماء، تفوح منه رائحة توت العلّيق والعنب البرّي...بعدها سمعنا دقّات الطبول فنظرنا لبعضنا البعض وانفجرنا بالضّحك.

كانت المصاريع مقفلة، والنّوافذ معتمة وسوداء. وكانت زهرات المسك تتعفّن في أصص معلّقة، وهي تنشر رائحتها الحرّيفة والسقيمة. وكانت بعض القطط تعبر الشارع بأقصى سرعة. كنت أدخّن سيجارتي كرافان الأخيرة، وأشعر بالجوع وقليل من البرد. توجّهت إلى البيت لكنّي اخترت المرور ببعض الطرق الالتفافية والمتعرّجة على الإسفلت. من كل جانب اصطفّت السيارات، مررت من واحدة إلى أخرى وأنا أتلمّسها فبدأت واحدة منها في الزّعيق. إنه صوت حادّ يدويّ داخل الجمجمة. في المنزل، اشتعلَت أضواء المصابيح وخرج شخص بلباس بيجاما، وبيده عصا بيسبول. رآني فأشرتُ إليه علامة على الاعتذار. شتمني بوصفي غبيّاً متّسخاً صغيراً وبلا وجه وأنّه سيقول ذلك لأبي. لكن أبي مات، قلت له. ثمّ انصرفت وأحسست بأنّني لست على ما يرام بسبب كلماته الّتي ردّدتها وخوفي من أن تصير حقيقة. بعدها، تساءلت هل هو الخوف فعلاً من أن نكون على يقين أنّ ذلك سيحدث.

في طريقي، رأيت مؤخّرة شاحنة حمراء وذلك الشّيء الأزرق الّذي يدور فوق سطحها. نظرت من حولي بحثاً عن نار في الجوار ثمّ اكتشفت أنّ رجال الإطفاء قد غادروا لتوّهم المنزل. رفعت رأسي ورأيت نافذة مضاءة. كانت أمّي ما تزال هناك حيث نسيت أن تطفئ النور. ربّما كانت بداخل الشاحنة وأبي أيضاً وسيذهبان إلى المستشفى. أنا واقف فوق العشب، أمام جناح المرضى مباشرة. كنت تحت شجرة قيقب هائلة، وكان براز الكلاب فوق رؤوس الحشائش وعلى الأرض أوراق شجر صفراء قليلاً. في هذا المكان لعبت مع أبي كرة القدم والتنس والكرة الحديدية باستعمال كرات بلاستيكية صغيرة. لقد ركض ورائي وهو يطلق صرخات مرعبة، أمسك بي وأدارني نحوه، ودغدغني حتّى بكيت والتوَت معدتي من الضحك. في هذا المكان بالضبط. منذ نحو شهرين لم يضع قدمه في الخارج، وثلاثة أسابيع لم يغادر سريره، والآن لقد مات. علمتُ ذلك حين دخلت البيت. صعدت السلالم وفي الغرفة كان جسده أبيضاً وعارياً. اقتربتُ منه ورأيت جيداً أنّه مات، ولست في حاجة لقياس نبضه أو مراقبة حركات صدره، أعلم أنّه مات، أعلم وأرى أمّي فوق السرير ومن حولها ثياب أبي.

- لا أعرف ما الّذي يليق به من لباس.

لا أعلم إن كانت تبكي أم تضحك، هناك فوق السرير، تائهةً بين ملابس أبي.

-  متى حدث ذلك؟ سألتها.

تشبّثت بالهدوء، وأمسكت يدي ووضعنها في يديها. وكلّمتني كما لو أنّها تتحدّث إلى طفل. اجتاحتني رغبة في مقاطعتها بعنف. أنا لم أعد طفلاً. لقد مات أبي.

- منذ حوالي ساعة، صار يتنفّس بصعوبة. كان كما لو أنّه على وشك الاختناق. اتّصلت برجال الإطفاء. شهق شهقة كبيرة. ورحل هكذا. كما لو أنّه يستعدّ للغطس تحت مياه المسبح. ثمّ توقّف كلّ شيء. جاء رجال الإطفاء قبل قليل.

بدت أمي ضئيلة الحجم وبيضاء جداً وهي تحكي لي ذلك. دنوت من السرير. لم أجرؤ على لمسه. نظرت فقط إلى وجهه. ليس هو. هذا الجسد أمامي ليس هو وإنّما شيئٌ آخر. هو لم يعد هنا. لقد رحل.

خرجت أمّي من الغرفة. ذهبت إلى المطبخ لتحضير قهوة. أجهل من أين تعثر على القوّة للقيام بهذه الأشياء. أعتقد أنّ كل هذا بالنسبة إليها  وإلي لم يكن حقيقياً، وأنّه لا يعني شيئاً. قبّلتُ جبين أبي. لم يكن كما توقّعت. كان كما لو أنّه نائم. كأنّه في وضعية النوم تماماً. ارتعشت قدماي ويداي أيضاً. جلست على طرف السرير، حتّى لا أنهار. مراراً قلت بصوت عال: أبي، وهذه الكلمة لم يعد لها وجود أيضاً. لا وجود لشيء من حياتي السابقة. لا شيء منذ ذلك اليوم الّذي تمشّينا معاً تحت الثلج.

ناولتني أمّي فنجان قهوة. تجرّعت رشفة فعاد كلّ شيء فجأة. تقيأت فوق السّرير  وهذا كاد أن يقتلع حلقي ولساني وانقطعت أنفاسي. خرجت من الغرفة. في الحمّام، مسحت بالماء وجهي ويدي. نظرت إلى المرآة وبدا لي أنني أشبه أبي، والآن أشبه شخصاً ميّتاً وهذا كلّه هذا لا معنى له.

في الخارج، كان البرد شديداً مع إطلالة النهار. كانت السماء زرقاء صافية. انطفأت مصابيح الشارع كلّها في نفس الوقت. تمشّيتُ حتى الغابة، خرجت من الدرب، خفضت رأسي كي أعبر تحت الأشجار المائلة، متحاشياً أغصانها الممتدّة على الأرض. ثمّ وجدت أرضاً مغطّاة بالسرخس فاستلقيتُ عليها. مرّت نملةٌ على خدّي، وهي تتنزّه فوق وجهي. فشعرتُ ببَلَلٍ يتسرّب إلى سَترتي ويصل إلى جلدي. سوف أنتظر حتّى تُمطر.

 

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
17 فبراير 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.