}

نموذج بشري

فريدريك براون 30 يناير 2018
ترجمات نموذج بشري
عمل نحتي للفنان السوري عاصم الباشا
ثري وناين كانا يتقدمان، وكان يشاهد من خلفهما خيال سديمي لمكعب ضخم، بطول عشرة أمتار على الأقل من الجانب. نزل منه شخصان تكوينهما شبيه بالديدان، طول الواحد منهما خمسة أمتار تقريباً (عندما يتمددان) وبسماكة 30 سنتيمتراً في المنتصف، ومستدقين في أقصى الطرفين. كانا ذوا لون أزرق جميل وغير مزودين بأطراف ظاهرة، لهذا السبب لم يكن ممكناً تمييز الرأس من الذنب – ومن جهة أخرى، لم يكن الأمر ذا أهمية طالما أن أقصى الطرفين كانا متشابهين تماماً.

ومع أنهما يقتربان من هانلي وآل كيد (الذي سقط مغمياً عليه) إلا أنه كان لا يبدو أنهما يمتلكان ملمحاً أمامياً وليس خلفياً. كانا في وضعهما الطبيعي المتموج والعائم.

-مرحباً يا شباب – قال هانلي – لقد أخفتم صديقي وهو كان سيقدّم لي الشراب .... والحال، يجدر بكم الآن أن تقدّموه لي أنتم عوضاً عنه.

-ردّ فعل غير منطقي – قال ثري لناين – في النهاية، إنه شبيه بردّ الفعل الذي صدر عن النموذج الآخر. هل نأخذهما؟

-كلا. الآخر، رغم ضخامته، إلا أنه من الواضح أكثر ضعفاً. نموذج واحد سيلبي حاجتنا تماماً. أنت، تعال معنا.

خطا هانلي خطوة إلى الخلف.

-إذا كنتم تنوون تقديم الشراب لي، فلا بأس. أما في حال العكس، فأنا أريد أن أعرف إلى أين نحن ذاهبون؟

-إلى "دار".

-الأمر سيان عندي، شرط أن تقدموا لي الشراب سلفاً.

-هل علينا أن نستخدم القوة؟ -قال ثري لناين.

-ليس بالضرورة إذا ما وافق بمشيئته. هل تريد أن تدخل إلى المكعب طوع نفسك؟

-أيوجد شراب في الداخل؟

-نعم، أدخل.

مشى هانلي بعفوية لغاية المكعب وولج إلى الداخل. التفّ ثري حول لوحة القيادة وبدأ يناور ببراعة أجهزة معقدة مستعيناً بأقصى طرفيه.

-إيه، أنت أيها الشاب، ألم نتكلم عن الشراب؟ بدأ هانلي يفقد صبره. كانت يداه ترتعشان ....

-يمكن القول إنه ربما يعاني من الجوع أو من العطش -قال ناين -ماذا تشرب هذه المخلوقات؟ ماء مؤكسد مثلنا؟

-معظم سطح كوكبهم مغطى بسائل يحتوي على كلوريد الصوديوم، يمكننا تحضير جرعة له.

-كلا! حتى ولو كان بلا ملح! أنا لست بحاجة إلى ماء، بل إلى ويسكي – صرخ هانلي.

-يمكننا تحليل استقلابه (1) – قال ثري، ثم انبسط أمام مركز القيادة وتوقف أمام ماكينة غريبة. أضيئت مصابيح ملونة: – يا للغرابة، إن استقلابه يعتمد على اﻠ C2H5OH.

C2H5OH -؟ ردّد ناين

-نعم، إنه على الأقل يعتمد بشكل أساسي على الكحول، ممزوج بكمية قليلة من اﻠ H2O وبدون كلوريد الصوديوم الذي تحتويه بحارهم، بالإضافة إلى جرعات أقل من مكونات أخرى، يبدو كما لو أنها كانت التغذية الوحيدة لهذا المخلوق لفترة لا بأس بها من الزمن.

-يا شباب – توسل هانلي – سأموت إذا لم تعطوني شراباً، لماذا لا تتوقفون عن الثرثرة وتعطوني الزجاجة؟

-لحظة من فضلك – قال ناين – سأحضّر الشراب الذي تحتاج إليه.

أضيئت مصابيح أخرى، وانسحب ناين إلى زاوية المكعب الذي كان مخصصاً للمخبر. لم يستغرق الأمر دقيقتين وحضر ناين وبيده وعاء بمقاييس متدرجة حيث كان يحتوي على لتر تقريباً من سائل صاف نحاسي اللون.

شمّه هانلي ثم تذوقه، وتنهد بعمق.

-أكاد لا أصدق، -قال – إنه أمبروسيا، شراب الآلهة. لا يوجد شراب كهذا على كل وجه الأرض. -شرب جرعة كبيرة ولم يشعر حتى بحرقة في حلقه.

-ما هو يا ناين؟ -سأل ثري.

-إنه مُركّب معقّد إلى حدّ ما، حيث يؤمّن كافة احتياجاته. إنه يحتوي على خمسين بالمائة من الكحول وأربعين بالمائة من الماء. ولكن المكونات التي تشكل الخمسة بالمائة لا تحصى، تحتوي على كل الفيتامينات والأملاح التي يحتاجها جسمه، ثم هنالك مكونات أخرى، لتحسين الطعم، حسب مذاقهم. بالنسبة لنا، سيكون فظيعاً، حتى ولو أننا نستطيع شرب الماء أو الكحول!

تنهد هانلي ثم عاد وشرب جرعة كبيرة. ترنّح قليلاً، نظر إلى ثري وضحك. – الآن أعرف أنكما غير موجودين، -قال.

-ماذا يعني بقوله هذا؟ سأل ناين ثري.

-يبدو أن تكوينه العقلي خال من أي منطق. لا أعرف فيما إذا كان بالإمكان اقتناء عبيد أكفاء من هذه الكائنات، أشكّ في ذلك. على أي حال، يجب أن نتأكد من الأمر. – استدار نحو هانلي. – ما هو اسمك؟ -سأل. – هل تملك اسماً؟

-ما هو الاسم، يا صديقي؟ -سأل هانلي. – أعطني أي اسم ترغبه. أنت وصديقك من أحبّ الأصدقاء إلي. يمكنكم أخذي حيثما أردتم وشئتم، أخبروني فقط متى نصل.

شرب جرعة كبيرة أخرى وتمدّد على الأرض. بدأ حالاً في إصدار أصوات غريبة، لكن لا ثري ولا ناين تمكنا من البتّ فيما إذا كانت كلمات أم لا. – خرخر شه شه شه ... خرخرخر شه شه شه ... – حاولا أن يوقظاه، أن يحركاه، لكن بلا طائل.

وقفا يراقبانه، جامعين كل المعلومات الممكنة. بعد عدة ساعات فقط، استيقظ هانلي من سباته. اعتدل ليجلس وحملق فيهما. قال: -لا أصدق. أنتما لا يمكن أن تكونا هنا. أنتما غير موجودين. بحق السماء، أعطوني الشراب، بسرعة.

أعطوه الزجاجة ذات المقاييس. كان ناين قد عبأها مجدداً، حتى حافة الفوهة هذه المرة. شرب هانلي. أغمض عينيه وملامحه اتخذت طابعاً جذلاً. قال: -لا توقظوني.

-ولكنك يقظ!

-إذن لا تدعوني أنام. لقد فهمت ماذا يكون. إنه أمبروسيا، ذاك الشيء الذي تتناوله الآلهة.

-ما هي الآلهة؟

-إنها غير موجودة، ولكن هذا ما يشربونه على جبل الأوليمب.

قال ثري: -بنية عقلية خالية تماماً من المنطق.

رفع هانلي الزجاجة وقال: -هو صديقي وأنا صديقه. هو أيضاً صديقي. كلنا أصدقاء.

-أي صنف من الحديث هذا؟ قال ناين لثري.

-صديق قافية لإبريق. كلا ... قافية ... قافية ...

-إنه في منتهى الحماقة لكي يمكن تأهيله لأبسط عمل يدوي، قال ثري. – لو كانت بنيته أكثر صلابة لتَحَمُّل الأعمال الشاقة، لكان بإمكاننا ألا ننصح بغزو عسكري لهذا الكوكب. أعتقد بأن هنالك ما لا يقل عن ثلاثة أو أربعة مليارات من السكان، ونحن بحاجة إلى عمالة غير متمكّنة ... ثلاثة أو أربعة مليارات سيكونون عوناً كبيراً لنا.

-هوررررا! – صاح هانلي.

-إنه لا ينسق عقلياً بشكل جيد، هذا ما يبدو لي، -قال ثري قلقاً، -ولكن ربما يملك قوة جسدية لا بأس بها. أيها الكائن، كيف يجب أن نناديك؟

-نادني آل أيها الشباب. – هانلي كان يحاول أن يقف على قدميه.

-أركض جيئة وذهاباً من طرف المكعب إلى طرفه الآخر ريثما تتعب. أعطني زجاجة غذائك.

نزع من يد هانلي الزجاجة ذات المقاييس. هانلي تلمس بيديه. – جرعة أخرى. جرعة صغيرة فقط. بعدها سوف أركض بقدر ما تشاؤون.

-ربما هو بحاجة لها، قال ثري. – أعد له الزجاجة يا ناين.

كان من الممكن أن تكون الأخيرة لفترة من الزمن، وهكذا شرب هانلي جرعة كبيرة. بعد ذلك، حيّا الداريين الأربعة وهو يلوح بيديه بمرح. هؤلاء كانوا يبدون وكأنهم ينظرون إليه. قال: -سنرى بعضنا في السباق أيها الشباب. أنتظركم جميعاً. سأجعلكم تفوزون. جرعة أخرى قبل الانطلاق؟

-كفى، -قال ثري، -ابدأ العدو الآن.

قام هانلي بخطوتين وسقط على وجهه، ثم انقلب على ظهره وبقي هامدا مع ابتسامة رضا على محياه.

-مستحيل! – قال ثري – ربما يحاول أن يخدعنا. افحصه قليلاً يا ناين.

ناين فحصه. – غير معقول! – قال – حقاً هذا غير معقول، بعد جهد لا يذكر كهذا، مع ذلك فقد وعيه تماماً، لدرجة أصبح عديم الإحساس تجاه الألم. وهو ليس بمتصنّع حتماً. هذا الصنف من الكائنات لا يمكن البتة أن يكون ذا نفع لكوكبنا. أدر المحركات، فلنعد ونعدّ تقريرنا. سوف نأخذه معنا، حسب الأوامر، كنموذج لحديقة الحيوانات، إنه يستحق هذا الجهد. إنه الكائن الأكثر غرابة شكلاً الذي وجدناه بين ملايين الكواكب.

في المدينة الرئيسة لكوكب دار، آل هانلي وُضِعَ في قفص كبير من الزجاج يستقر في الصدارة، كما يليق بالنماذج المثيرة.

في وسط القفص، يوجد حوض حيث يستسقي منه باستمرار وشوهد وهو يستحم فيه. الحوض يعبأ باستمرار وبشكل أوتوماتيكي بشراب يعادل أفضل أنواع الويسكي على الأرض كما أفضل ويسكي أرضي يعادل ماء جلي الأطباق. بالإضافة إلى ذلك، الشراب مدعوم أيضاً – دون نكهة تذكر – بكل الفيتامينات والأملاح التي يحتاجها استقلابه.

إنه شراب لا يسبب الصداع ولا يخلق أعراضا سيئة، ويملأ نفس هانلي بالنشوة بالضبط مثل بنية هانلي الغريبة التي تدهش زوار الحديقة، الذين ينظرون إليه بأعين مشدوهة ومن ثم يقرأون اللوحة المثبتة تحت القفص التي تبدأ باللاتينية، بالاسم الذي أفصح به هانلي لثري وناين:

 

ALCOLICUS ANONIMUS

مدمن كحول مجهول

يعيش على نظام غذائي مؤلف من C2H5OH2، مدمج بفيتامينات وأملاح. بمقدوره، على فترات، الكشف عن تجليات تنم عن ذكاء، ولكنه لا يتمتع بأي حس منطقي. الأداء الجسدي: بمقدوره التحرك بضع خطوات دون أن يسقط. لا يتمتع بأي قيمة تجارية، مع ذلك يعد نموذجاً من أكثر نماذج الحياة غرابة التي تمّ اكتشافها حتى الآن في المجرة. مكان المنشأ: كوكب رقم 3 من الشمس JX6547 – HG908.

 

كائن غريب لدرجة أنهم أفردوا له معاملة خاصة حيث عملياً تجعله خالداً. وخيراً ما فعلوا، لأنه نموذج حديقة حيوانات مثير للاهتمام، وفيما لو قضى نحبه، يمكنهم أن يعودوا إلى الأرض لكي يقبضوا على واحد آخر. ويمكنهم وضع يدهم عليّ أو عليك، وأنا أو أنت، حسب الصدفة، يمكننا أن نكون في تلك اللحظة غير ثملين، وهنا الطامة الكبرى للجميع.

 

  *   *   *

 (1) الاستقلاب أو الأيض أو عملية التمثيل الغذائي هي مجموعة من التفاعلات الكيميائية التي تحدث في الكائنات الحية على المواد الغذائية المختلفة بواسطة العوامل الإنزيمية بغرض الحصول على الطاقة أو بناء الأنسجة.

 

فريدريك براون واحد من أهم كتاب الخيال العلمي الأمريكيين. ولد في سينسينّاتي عام 1906 وتوفي عام 1972

تعود شهرته إلى السخرية في كتابته "القصة القصيرة جداً" – قصص مؤلفة من صفحة إلى ثلاث صفحات، وغالباً ما تتمتع بحبكة حاذقة ونهاية غير متوقعة. بالإضافة إلى السخرية، تتميز قصصه إلى حد ما برؤية ما بعد حداثوية. من أهم رواياته وأعماله القصصية "يا له من عالم مجنون" (1949)، "الأضواء في السماء هي نجوم" (1952). إحدى أشهر قصصه القصيرة، "أرينا"، استخدمت كأساس للحلقات التي تحمل نفس الاسم في النسخة الأصلية لمسلسل "حرب النجوم" ذائع الصيت. معظم قصص الخيال العلمي التي كتبها براون لا تتجاوز ألف كلمة أو حتى 500 كلمة

 

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
30 يناير 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.