}

إعادة نشر أعمال سيلين المعادية للسامية: الجمالية والموقف

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 17 يناير 2018
تغطيات إعادة نشر أعمال سيلين المعادية للسامية: الجمالية والموقف
الكاتب الفرنسي سيلين

رؤيتان لسيلين: أدبية وتاريخية

نقلت جريدة "لوموند" الفرنسية، في عدد 5 كانون الثاني/يناير الجاري، مقالة عن مشروع دار "غاليمار" الذي يخصّ إعادة نشر النصوص المعادية للسامية للكاتب الفرنسي لويس فرديناند سيلين، صاحب العمل الروائي الخالد "سفر إلى آخر الليل" (1932). ولم تمر تلك المقالة من دون جدال على صفحات "ملحق الكتب" بنفس الجريدة، عدد 12 يناير، شارك فيه الروائية والناقدة الفرنسية تيفان صامويولت (1968...)، والكاتب الفرنسي يان مواكس، والمؤرخ الإسرائيلي زئيف ستيرنهال (1935..). وبما أن سيلين كاتب كبير خلق طيلة مساره الأدبي، وبعده، جدالا وتأويلات كثيرة، فكان من الطبيعي أن يتوارث قراؤه نشاطي الحب والهجاء. وقد أكّدت ت. صامويولت، وهي الناقدة والجامعية والمحيطة بقضايا أدب سيلين، أن هناك رؤيتين خرجتا إلى ساحة النقاش منذ ذلك الإعلان، الأولى رؤية "أدبية" والثانية "تاريخية". ففي الوقت الذي تؤكّد فيه الرؤية الأولى على عظمة الكاتب وقوة أسلوبه، ولا ترى في ضلالة الهجّائين سوى عماء مؤقّت لن ينال شيئاً من قوة عمله الروائي، فإن الرؤية الثانية، التاريخية، بقيت غير متحيّزة للأسلوب، واهتمت أكثر بإلقاء الضوء على معاداة السامية، كقضية عميقة في أدب سيلين، ووضع عناصر هذه الدعاية في سياقها.

سيلين بين الحقيقة والجمالية

ترى ت. صامويولت أن هذا التقسيم خطير جدّاً ويؤكّد تجزيئاً أخلاقياً أصبح متجاوزاً اليوم، حيث العلاقات بين الأدب والتاريخ يتمّ انتقادها، خصوصاً من طرف المؤرّخين، الذين ينسون ما قاله رولان بارث في مقالته "خطاب التاريخ": ليس هناك خطاب يتحدث انطلاقاً من الحقيقة. فهذا التقسيم ليس متفطناً إلى أن الدراسات المصنّفة "أدبية"، للأعمال المتميّزة تنطلق بكل تأكيد من الإنتاجات الفنية والأدبية، لكن بانشغال دائم بالسياق وبوعي تاريخي أقوى من سياقنا، ومزوّدة بمعلومات مصدرها شهادة وتأمّل الفنّ للحدث.

  إن القول بأن قراءة ما يكتبه أعداء سيلين لا تمنع القراء المحبّين له بالحفاظ على "لذتهم سليمة أثناء قراءة رواياته"، وجعل "الإبداع الفني" و"جِدّة كاتب ما" أدلّة نهائية، هي طبعاً إحدى الطرق لتخليص الأدب من أي مسؤولية، باسم الجِدّة أو باسم الأسلوب (وهذا ما اعتنى سيلين بإظهاره بمهارة).

معاداة السامية التزام حقيقي

 من هنا ترى ت. صامويولت أن تكليف مؤرخ بنشر هذه النصوص أسلم من تكليف متخصّص في الأدب، مخافة أن تكون "طريقة في تحريف القضية، وذلك يعود إلى نفس الاعتقاد: المؤرخون يهتمون بالعمق والحقيقة، والأدباء بقضية الشكل والجمالية. لهذا دعت الناقدة الأدبية إلى اجتناب هذه الاعتقادات القاتلة، بالنسبة لهذا الخطاب أو ذاك. ليست هناك كتابة محايدة وعلى المؤرخين الوعي بهذا الأمر أثناء فحصهم النصوص. وبالمقابل، لا وجود لكتابة، مهما كانت درجة "جماليتها"، لا تريد الإحالة لنفسها، لنفسها فقط، في استقلالية تامة عن مضمونها. هذه بالتحديد هي القضية التي يطرحها سيلين على العديد من القرّاء، والعابرين من مجال الأدب، في التعليم والنقد؛ لذلك يتمّ اجتناب تدريسه في المدارس والجامعات، لأن كلمات سيلين القاسية لا تُقرأ فقط في هجائياته، وعداؤه للسامية يشكّل التزاماً حقيقيّاً. وهذا ما أكّد عليه الناقد الأدبي فريدريك لايختر فلاك في مقالته "سيلين، الأسلوب ضدّ الأفكار" (لوموند، 27 يناير، 2011). وذلك الالتزام يمكن قراءته أيضاً في روايته الأولى "سفر إلى آخر الليل" (دونويل، 1932)، وهي طبعاً مصاغة ضمن سخرية وتعدّد أصوات تعطي الانطباع بأن المغالاة الإيديولوجية يمكن أن يتمّ إبطالها، غير أنها تبقى مؤكّدة.

الإنسان هو عاصمة كل التناقضات

 أثار الكاتب والمخرج الفرنسي يان مواكس (1968...) الحائز على جائزة "غونكور للرواية الأولى" سنة 1996، وجائزة "رونودو" سنة 2013، إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي ليس هناك نسختان من سيلين، إنه وحدة أدبية وفكرية من الصعب تجزيئها. ورأى أن سيلين نفسه كان سيرفض اجتزاء كتاباته المضادة للسامية وإعادة نشرها في انفصال عن مجمل أعماله، واعتبر ذلك بمثابة تزوير لـ DNA، وتحريف للحقيقة. إن الأمر شبيه بخلق سيلين غير موجود، ولم يوجد من قبل. إن كتاباته المعادية للسامية هي جزء من سيلين كله، وهو بدونها غير موجود أيضاً، إنه وهم. لقد كان نشر أعماله الكاملة في سلسلة "لابلياد" بعد وفاته سنة 1961، وفي تسلسل زمني، وضمن تصنيف موضوعاتي عملا غير معقول، بل وينتج فكرة خاطئة عن الجوهر الحقيقي لهذا الكاتب.

أكّد ي. مواكس على فكرة أن سيلين يترجمه الزمان، فالشيء الوحيد الممكن في حالة هذا الكاتب هو تتبعه من خلال الزمن، مرحلة بعد مرحلة، وضمن تعاقب للأحداث، و"تتبعه" (وليس فهمه يؤكّد الكاتب). فلا يمكن ضبطه إلا ضمن تعاقب "تطوّراته"، ضمن التفاقم التعاقبي لعيوبه وانفصاماته. إن مخاوفه، وجنونه لا ينفصلان عن التقدم الدائم للتاريخ. إن الانتقال من عمل إلى آخر، هو تجزيء له، هو خيانة لسيلين المحبوب، لأنه لا وجود لـ"نسختين" من سيلين، بل لا وجود، في هذا التاريخ، إلا لكاتب مركّب، يذكرنا بأن العبقرية ليست آلياً ضدّ الشيء السيئ، وبأن كاتباً يمكن أن يكون في الآن نفسه ذاك الذي لا يُعذر من بين كل الأوغاد وأكثر الكُتاب خلقاً وكثافة في زمنه. يذكرنا سيلين بأن الإنسان هو عاصمة كل التناقضات، كل التمظهرات، كل الإمكانيات، وكل الاستحالات.

عظمة وعبقرية

   قال يان مواكس بأن آلة نقد الكتابات المعادية للسامية لا يجب أن تكون عدة من آلة نقد الروايات. لقد قام سيلين بما قام به، وعبقريته ليست من أجل الاعتذار عما كتب، خصوصا النصوص التي فضح فيها اليهود. كما أن أفعاله لا تلغي عبقريته. وأضاف الكاتب أن نص "تفاهات من أجل مجزرة" يوجد في نفس الآن مع نصوص أخرى مثل: شمال، الأغطية الجميلة، والتي لها نفس وضعية روايته/ سيرته الذاتية "موت بالتقسيط" (وليس نفس القيمة الفنية، يؤكد مواكس). وركز كاتب المقالة عن أنه بدون وجود سيلين الأشياء القاسية، فلن يكون لأي جزء من ثلاثيته الألمانية الضخمة أدنى معنى. إن معاداته الحقيقية للسامية منحت لوجوده مصيراً فظيعاً (المنفى، السجن، التغريب..) الذي أصبح مادة لأعمال خالدة فريدة: من قصر إلى آخر، شمال، ريغودون. إننا نفهم جيداً، في هذه المدرسة السيلينية المتوهّجة، التعقيد المذهل للوجود الإنساني، حيث كل شيء يتداخل مع كل شيء، حيث الشعر يجاور الرعب، العظمة قرب الدناءة، اللطف يتعايش مع الخسّة. فنفس الإنسان يمكن أن يكون مبدعاً وواشياً. كل ذلك عبّر عنه "ي. كواكس" بـ"تشييد الكنائس والمدافن في نفس الآن".

  أما المؤرخ الإسرائيلي زئيف ستيرنهال فدعا إلى معرفة ودراسة سياق معاداة السامية في فرنسا القرن العشرين. ودراسة مثل هذه يجب بالضرورة أن تحمل تأملا في العلاقات بين الأفكار والحركات السياسية. ذلك أن معاداة السامية منذ حركة جورج بولانجي أو "البولانجية"، (1885-1889)، يضيف المؤرخ، لم تكن في يوم ما رأياً، بل سلاح معركة، وأداة مؤثرة. لذلك دراسة سيلين، في هذا الضوء، هو تأمل في ثقافة سياسية سادت النصف الأول من القرن العشرين. ويختم زئيف بأن العلاقات بين الأفكار والحقيقة التاريخية والسياسية قضية يعرفها الجميع؛ إنها علاقات جدلية، لكن السؤال هو: هل كانت لأفكار سيلين تأثيرات معينة على المناخ الثقافي في تلك المرحلة؟

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.