}

مَم وزين، الرواية الكُردية الأولى

 

يُعيد جورج لوكاش أصول الرواية إلى الملاحم الشعرية، التي اعتمدت الأشكال الروائية الشعرية والشفاهية ـ والتي يقابلها تعبير (destan/ملحمة) في الكُردية. يقودنا اعتمادُ هذا التصوّر إلى اعتبار ملحمة مَمِ آلان (Memê Alan) التي بنى عليها الشاعر الكلاسيكي الكُردي أحمد خاني ديوانه مَم وزين (Mem û zîn)، وكذلك ملاحم شعبية أخرى كملحمة جَمبلي (Cembelî) رواياتٍ جمعيةً مستقاةً من الذاكرة الشعبية الكُردية؛ ذلك أنَّ الملاحم نتاجاتٌ تثمر من شجرة الذاكرة الجمعية، ومن المسلم به أنّ هذه الملاحم قد كُتبت منظومة وحافظت على القافية ولبست لبوس الشعر إلى حدٍّ بعيد، مما يجعل فصلها عن الشكل الحديث للرواية أمراً في غاية الصعوبة.

خلال القرنين الثاني والثالث عشر، كانت باكورة المحاولات والنشاطات الأوروبية في مجال الرواية مقتصرة على تحويل النتاجات والملاحم الشعبية إلى كتابات أدبية، حتى أنَّ الرواية، كجنسٍ أدبي، لم تكن أكثر من استخدامٍ شخصيٍ لهذا العمل الجمعي. فإذا صح ما قلنا به سابقاً، عليه أولاً يجب أن نعتبر ديوان "مَم وزين" لأحمد خاني باكورة الرواية الكردية؟! لأنّه لو قلنا أنّ الرواية مقتصرة على الكتابة النثرية، ستتجه دفة النقاش نحو الكثير من الروايات التي تُكتب اليوم، خاصة تلك التي تدخل في نطاق كتابات ما بعد الحداثة، لأنّ ابتعاد هذه الروايات عن الأشكال المعروفة والمقولبة سيخرجها من حيّز تعريف الرواية.

في الأصل، الرواية كجنسٍ أدبي، لا تُعرف بقالب ولا شكل محدد لها، وكما يقول بيير لويس ري في كتابه (الرواية): "حتى القرن الثالث عشر كانت الرواية تُكتب بأسلوب الأبيات الشعرية" و"النثر الذي كان شكلاً كتابياً سهلاً ومجدياً في سرد الأحداث والتعبير عن الأحاسيس، غدا شيئاً فشيئاً الشكل الأساسي".

هذا الشكل السردي الجديد الذي كان يُعرف سابقاً كشكلٍ مبتذل، ونعته نيكولا بوالو في كتابه "فنُّ كتابة الشعر" (1674) بـ "غير المجدي والخفيف"، كان شكلاً سهلاً جداً ولم تكن له قواعد صارمة، وكذلك لهذا السبب المتعلّق بانعدام القواعد، والذي غدا ميزةً لهذا النوع السردي الجديد في مقابل الأجناس الأدبية الأخرى، بدأ السرد، في القرن العشرين، يحتل مكان الصدارة في الكتابة الأدبية، مسيطراً على القواعد الأدبية المعمول بها حينها.

إذا سلّمنا اليوم بالمقارنة التي طبّقها بيير لويس ري على القصة والرواية، وقلنا أنّ الرواية عبارة عن قصة طويلة حُبلى بالكثير من الأحداث والأبطال؛ فعلينا إعادة النظر في تقييماتنا الخاصة بالرواية الكردية، لأنّ أول نتاج يدخل ضمن هذا التصور هو ملحمة (مَم وزين) لأحمد خاني. ما عدا بعض الفصول الاستهلالية الخاصّة بمدح الله والرسول وأحياناً مدح السلاطين والأمراء، والتي كانت دارجة في نتاجات تلك المرحلة، تحتوي "مَم وزين" أحمد خاني على جميع عناصر الرواية بشكل واضح، الفارق الوحيد هو أنّ "مَم وزين"، كالروايات الأوروبية الأولى، كُتبت بشكل منظوم، لذلك استعمل هوفسَب أوربلي تعبير "الرواية الشعرية" لها، كذلك حين عرّفها مقداد مدحت بدرخان في العدد الأول من صحيفة "كردستان"، استعمل تعبير "الرواية المنظومة".

الشكل الذي تم استخدامه في كتابة مَم وزين شكلٌ من الشعر الكلاسيكي يُسمّى بـ"الشعر المثنوي". كانت سهولة قواعد النظم والقافية الخاصة بالشعر المثنوي قياساً إلى قواعد كتابة الغزل والقصيدة، تعطي مساحة أوسع لسرد الحكاية والقصة الطويلة، حتى أنَّ هذه السهولة مكنت الرواية من التفوّق على الأجناس الشعرية، فإذا كان الشعر المثنوي في الشرق قد لعب الدور الذي يؤديه السرد اليوم وهو سرد الأحداث الطويلة، فمن الممكن اعتباره النموذج الأصلي للرواية في اللغات الشرقية، فقبل القرن التاسع عشر، لم يعرف الشرق الأوسط النثر كجنس أدبي، لأنّ الشكل الأقرب له كان الشعر المثنوي الذي شغلت الرواية والقصة فيما بعد مكانه.

 

* المادة مُقتبسة من سلسلة مقالات عن الرواية الكردية، مُستقاةٌ بدورها من كتاب "الأدب الكردي والرواية الكُردية".

 ** كاتب من تركيا. يكتب بالكردية، التركية والفرنسية. حائز على شهادة الدكتواره في علم اللغة من جامعة روان الفرنسية. يقيم حالياً في فرنسا، ويرأس قسم اللغة الكردية في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية (Institut National des Langues et Civilisations Orientales). 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.