}

سر الكتابة عند جين أوستن

أنخيلس ماستريت 26 يوليه 2017

مرت يوم 18 حزيران (يونيو) الماضي ذكرى رحيل الكاتبة والروائية البريطانية جين أوستن، صاحبة الرواية العالمية الشهيرة "الغرور والهوى". بهذه المناسبة نشرت صحيفة "إيل باييس" الإسبانية ملفاً حولها ننقل إلى العربية منه هذا المقال للكاتبة المكسيكية أنخيلس ماستريتا، وبالترافق مع ذلك أصدرت الحكومة البريطانية ورقة نقدية بقيمة عشرة جنيهات إسترلينية تحمل صورة الكاتبة للمرة الأولى.

 

هناك كتاب يثيرون إعجابنا، كتاب يعجبوننا وكتاب نحبهم منذ الفقرة الأولى في الكتاب الأول الذي نأخذه بين أيدينا. كتاب نشعر ناحيتهم بالود وتصبح قصصهم جزءاً من قصة حياتنا، وجين أوستن (1775 -1817) واحدة من هؤلاء. فهي ليست مثيرة للإعجاب وساحرة فحسب، بل إن رواياتها هي اليوم إرث أساسي كلما غرقنا فيها كلما انتقلت إلينا عدوى الغبطة.

عندما أصبحت العزيزة جين علامة شهيرة في القرن العشرين أهديت إلى ابنتي، التي كانت تبلغ الثالثة عشرة من العمر، الرواية التي صارت منذ ذلك الوقت مفتاح نقاشاتنا الأكثر أهمية.

يوجد خلف الصوت الذي كتب "الغرور والهوى" امرأة عالمة في سن العشرين، تفكر في مساوئ وفضائل الجنس البشري، كما لو أنها في سن الخمسين. لقد كانت جين تكتب في ظل حياة هادئة وأسرة متآلفة قصصا مؤثرة، لكي يقرأ لها إخوتها، لأن في حادث زواج شخص بآخر ـ على سبيل المثال ـ توجد قوة شخصية روائية قادرة على النفاذ إلى خبايا عالم أشد تعقيدا من ذلك العالم الذي عاشته في زمنها، بكل أشكاله ومظاهره. فكيف لا يمكن قراءتها اليوم بتواضع وبدون مواقف مسبقة، بل بنوع من الإعجاب والانذهال؟

لن أضيف شيئا جديدا إن قلت إنه في الوقت الذي كانت جين تكتب، كان عالم النساء ينتهي إلى باب منزلها، مهما كان ذكاؤهن. لقد كانت والدتها سيدة مثقفة، وكانت تختطف بعض الوقت لكتابة نتف من الشعر، وسط انشغالاتها برعاية سبعة أبناء وعدد من تلاميذ زوجها. ولذلك فإن جين قد وجدت أمامها، بكل تأكيد، عددا من الكتب في مكتبة والدها واستطاعت أن تتعلم القراءة منذ طفولتها المبكرة باستمتاع وفرح، ولم يكن لديها أي حلم آخر خارج مهنة الكتابة.

لقد حاولت منذ فترة غير قصيرة، كأي قارئ حذر، أن أعرف أي حب وأي ذكرى في حياتها دفعتها إلى الكتابة. قرأت كل ما استطعت الوصول إليه حول حياتها، وعطف والدها، والارتياح الذي كانت تعبر عنه تجاه إخوتها، وصداقتها القوية لشقيقتها كاساندرا. وقرأت عن حبها للقرية، وكتمانها خلال وجودها في مدينة "باث"، ورسائلها، لكي أقوم بربط ترهاتها المعروفة عنها والشيء الكثير الذي يجهل عنها مع كتبها. إن أي شخص يتعاطى الكتابة يجب عليه أن يعرف بأن الحقيقة هي أيضا قصة بين قصص كثيرة يتخيلها الكاتب. وهكذا أصبحت على ثقة بأن إليزابيث بينيت، بطلة رواية "الغرور والهوى"، كانت سيدة جريئة وبقيت كذلك دائما، كما كان الحال مع والدتها التي تهمس بصوت عال، وشقيقاتها الصغيرات الطائشات، ووالدها القارئ المتشكك، وأختها الكبرى حلوة المعشر والمخلوق الجميل. ولكن هذه الشخصيات كلها لم تخرج من السيرة الذاتية لجين أوستن، بل من موهبتها، وحسها المرهف، ونظرتها إلى الأشياء، وخيالها.

لقد صنعت أوستن، الرائدة ذات الابتسامة المميزة، طريقها دونما أي تأثر بالإعجاب الذي أحاط بها، لكن من دون أن تكون جاهلة بالقدرات الأدبية التي كانت تتوفر عليها. إنها لم تتحدث أبدا عن نفسها كأي مبتكرة لشيء استثنائي، غير أنها كانت على إدراك تام بكتابتها التي تسعد الآخرين والتي تتميز بنوع من الأناقة والحساسية غير العادية.

لا أستطيع أن أتخيل إلى أي درجة نحبّها اليوم بعد مئتي عام، ولا كيف استطاعت كتبها أن تدخل بيوتنا بجميع اللغات وبمختلف الوسائل، وأن تجعلنا نعرف بأن نزعة الارتياب، والشرف، وقوة القناعات، والكرم، لا تزال حية في زماننا.

كانت نظرات جين أوستن متنبئة. قد يقول بعضهم إنني شبه مجنونة إذا قلت إنها كانت امرأة ذات نزعة نسائية، ولكن الحقيقة أن أيا من بطلات رواياتها لم يفكرن في الانتحار في مواجهة الألم، بل كن يتحدين كما يجب القيام بذلك اليوم، وكن مالكات لأزمّة أمرهن بسبب إرادتهن القوية، مثل أوستن نفسها، بمفردها، أو مثل إليزابيث بينيت، المرأة الاستثنائية ذات الشكيمة، البسيطة والفصيحة اللسان في الوقت ذاته.

إن الكتابة لعبة صعبة لخلق التوازن بين الجرأة والخيلاء، وكذلك بين النقيضين: الخوف والتواضع. أحيانا لا يتمكن الشخص من أن يحكي كل شيء، وهذا هو سر جين أوستن. إن الدرس التي تلقنه للآخرين هو هذا: التوازن. وهو توازن تشهد عليه اليوم رواية "الغرور والهوى"، الرواية الطوباوية التي أكملت مئتي عام من عمرها، لكنها ما تزال بهية وحكيمة أكثر من أي وقت مضى.

 

مقالات اخرى للكاتب

تغطيات
26 يوليه 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.