}

عودة جيرمين دي ستايل: الفيلسوفة الكوسموبوليتية التي نفاها نابوليون

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 2 يوليه 2017
تغطيات عودة جيرمين دي ستايل: الفيلسوفة الكوسموبوليتية التي نفاها نابوليون
لوحة تصور آخر أيام كومونة باريس

وجوه الشبه والاختلاف

بين دي ستايل وماكرون

في ذكرى مرور مئة سنة على رحيل جيرمين دي ستايل (1766- 1817) خصصت جريدة "لوموند" ملفًا خاصًا عن هذه الفيلسوفة الفرنسية، التي طورت أفكارًا كُبرى في مجال الفكر السياسي، ولم يقدّرها زمنه حق قدرها.

ونشرت دار غاليمار أعمالها الكاملة في سلسلة "لابلياد" (1728 صفحة). وبحسب نيكولا وايل، هي أعمال يجب قراءتها باعتبارها حصيلة فكرية لكائن ثوري، برغم شراسة ديكتاتورية بونابارت.

وكتب الصحافي والكاتب أنطوان بايك مقالة مطولة تحت عنوان "جيرمين دي ستايل الحُرّة"، تساءل فيه منذ البداية حول إمكانية اعتبار الرئيس والفيلسوف الفرنسي إيمانويل ماكرون بطلا من أبطال دي ستايل. وبرأيه فإن العقيدة وحماس الشباب يقربان بين مصيريهما. فجيرمين خالطت وحاورت منذ مراهقتها شخصيات من عالم السياسة والفكر في الصالون الذي كان يُقام في بيت أسرتها. وقد دفعتها هذه الرغبة السياسية ذات البعد الإصلاحي إلى البحث الدائم عن المركز، من أجل الجمع بين الأطراف في تركيز تام على الإرادات الحسنة التي كانت تجمع بين اليعقوبيين والملكيين، بين اليسار واليمين، وتحقيق التوازن في حقل سياسي تهدّد فيه التقاليد والأحداث بالوقوع في هذا المعسكر أو ذاك. وذلك هو وضع إيمانويل ماكرون، مع حفظ بعض الفروقات الأكيدة.

وبرغم هذا التشابه، توجد أشياء أساسية يختلف فيها ماكرون عن دي ستايل، وتخصُّ تحديدًا علاقة كل منهما بالسلطة. فالأول رجل براغماتي عن قناعة، ترعرع في اليسار وتم استقباله بحفاوة من طرف اليمين. وهو بهذا المعنى أقرب إلى بونابارت، عدو دي ستايل. بينما هذه الأخيرة ترعرعت في أحضان السلطة، مدلّلة من طرف نيكر، الوزير الرئيسي في حكومة الملك. ولكنه كان يراها وهي تبتعد عنه فكريًا، حيث أمضت وقتًا طويلًا في منفاها في باريس، ممنوعة، مطاردة، مذمومة، وخصوصًا مفتونة بالهزيمة، بالخروج من التاريخ، ومكابدة حدّ العبقرية داخل رغبتها في مواجهة المستحيل والتناقضات السياسية. لقد كانت جيرمين امرأة حزينة بفكر فلسفي أساء زمنها فهمه.

نجاح بفضل الإبداع الروائي

إذا عرفت دي ستايل نجاحًا ما، فذلك بفضل إبداعها الروائي، بداية مع "ديلفين" سنة 1802، وهي الرواية التي كانت في الأصل سبب انزعاج بونابارت، ثم "كورين" سنة 1807. وهما عملان تعرفهما أوروبا بكاملها جيدًا.

 إن جل الكتابات السياسية التي ألفتها زوجة سفير السويد في باريس لن تُقرأ بكثافة إلا بعد موتها، مثلما هو الشأن بالنسبة لـ"تأملات حول السلم الداخلي" (1795)، وأيضًا "نظرات إلى الثورة الفرنسية" المنشور سنة 1818، أو "الظروف الحالية التي يمكن أن تُنهي الثورة"، وهو الكتاب الذي حرّرته سنة 1798، ولم يظهر إلا سنة 1906. وقد كان الكل يعرفون السمعة الثقافية لامرأة أبانت عن ذكاء سياسي حاد في زمنها. كما أن بعض نصوصها المميزة طبعت المرحلة، مثل "تأثير العواطف في سعادة الأفراد والأمم"، الذي ظهر سنة 1796،  أو تأملاتها في قضية الملكة، المنشور أيضا سنة 1793 تحت اسم مستعار.

وبرغم هذا الذكاء السياسي فإن المشروع السياسي لدي ستايل ظل يعاني من سوء الفهم، في حين أنه كان شديد الإفادة لفرنسا الخارجة من الملكية المطلقة. فقد كان فكرها يصارع داخل حلبتين: مواجهة طغيان الملكية "التي ظلت دومًا مطلقة"، ومواجهة دكتاتورية المساواة العمياء .

معرض في جنيف خاص

بأشهر معارضي نابليون

يعود الفضل في هذه الاحتفالية إلى المتخصصة في أعمال دي ستايل الباحثة ستيفاني جونان والأستاذة في جامعة "روان"، التي قامت بإعادة مراجعة ونشر أعمالها الأكثر تميّزًا. فقد قامت بإخراج الجزئين الأخيرين من "المراسلات" إلى الوجود، وبتنظيم معرض كبير تحت عنوان "جيرمين دي ستايل وبنيامين كونستان: فكر الحرية"، في مؤسسة "مارتان- بودمر" في جنيف، وسيستمر إلى الفاتح من أكتوبر من السنة الجارية. وقد خصت جونان الكتيب الخاص بالمعرض بدراسة هامة عنوانها "الغرفة السوداء" أعادت فيه الباحثة من جديد قراءة أكثر معارضي نابليون شهرة، المرأة الوحيدة التي قام نابليون بنفيها طيلة عشر سنوات. كما ضمّ الكتيب دراسات أخرى لكل من جان ستاروبينسكي، سيمون بلايي وآخرين، أظهروا فيها اللقاء المثالي بين الإبداع الروائي والتفكير السياسي، بهدف قارّ تمثل في "تزويد النهار بأحلام الليل".

امرأة عشقت التحليل

وكشف الأمراض الاجتماعية

تبقى دي ستايل امرأة العشق، لكن عشقها الكبير هو التحليل. ففي الوقت الذي كان فيه الفرنسيون يديرون رأسهم للماضي القريب، لم يكن لدي ستايل شيء أكثر إلحاحًا سوى فهم الرعب. إنه لمن السهل إرجاع الخطأ إلى طرف واحد، الجميع يتحملون المسؤولية، تقول بكل وضوح لمعاصريها. كانت تشعر بمسؤوليتها عن كشف "حب الجريمة" لدى المجموعة، وذلك ولع اجتماعي يُسمى اليوم "غريزة الموت"، كانت لدي ستايل شجاعة مجابهتها. كما أنها تجرّأت، تضيف جونان، مباشرة بعد سقوط الإمبراطورية الفرنسية الأولى، سنة 1815، على طرح السؤال: "هل خُلق الفرنسيون ليكونوا أحرارًا؟"، إذا لم يكونوا في أعماق ذواتهم يرغبون في الارتباط بالحاكم؟ هكذا كانت دي ستايل تتحدث عن التاريخ حتى تتمكّن من تعيين القوى الأكثر سلبية، سواء تمثّلت في راديكالية الصفاء المتحدّرة من الثورة، أو في عنصرية المحافظين الذين يحاولون إصلاح النظام القديم، أو في التحكّمية البونابارتية.

إبداعات ملغزة

مثل غرفة سوداء

 في الحوار الذي أجراه جان لويس جانّيل في "لوموند" مع المتخصصة في أعمال دي ستايل، ستيفاني جونان، أكدت أن الفيلسوفة تخيلت في كتابها "من ألمانيا" (1810- 1814) غرفة تمتزج فيها قوة المآسي القديمة مع الحاضر الحارق. وأكدت أن مشاهدة تسلسل الآلام، لكن بدون أقنعة الأسطورة، أمر شبيه بالتواجد داخل غرفة سوداء، حيث تهاجمنا حصتنا الأكثر حلكة. هذه الصورة، تضيف جونان، تبينُ عالم دي ستايل، فالولع يتخذ دلالة قريبة مما نسميه اندفاعًا. وللتفكير في هذا الجانب السلبي في الإنسان، استعملت الاستعارة الكلاسيكية: المسرح. ففي داخلنا يوجد واحد يقوم بالأفعال وآخر يتفرج. في روايتيها توجد بطلات منفصلات. في رواية "ديلفين" (1802)، توجد امرأة فيلسوفة قادرة على التفكير في قضايا المجتمع الأكثر تعقيدًا. لكن الحبكة فاجأت قراء المرحلة: هناك شيء سادي في الشخصيات التي تتحول إلى ممارسة جلد الذات. في رواية "كورين أو إيطاليا" (1807) تثير الانفصال بين إيطاليا الشمالية المتحضرة، وإيطاليا الجنوبية التقليدية، حيث لا يغامر السياح بالتوجه إليها، لكن كورين وعشيقها يقيمان فيها. إنها رواية تحكي القصة الغريبة للتوحش الجديد الآخذ في التقدم.

كانت دي ستايل من كبار عشاق المسرح. وهو أمر قليلا ما أُلتفت إليه. لقد كانت تحب المسرح الشعبي خصوصًا، ذا الروح الخفيفة والإبداعية. ففي أكثر لحظات حياتها تراجيدية، التي كانت قوية في منفاها، كانت دي ستايل تنزع الطابع المأساوي عن حياتها، سواء بالقول، خصوصًا حين منع كتابها "من ألمانيا"، حين تحدثت في إحدى رسائلها عن "إفلاس" ها، أو عن طريق لعب المسرح رفقة أقربائها. لكن، تؤكد  ستيفاني جونان، لا بد من الانتباه لنقطة الشبه مع "بومارشي": هناك شيء يائس في الضحك، كما أن السعادة تتطلب أن نصنع من اليأس مصدرًا للسخرية.

هكذا تعود فرنسا اليوم إلى فيلسوفة فكرت تقريبا في كل المعضلات الاجتماعية والسياسية والفكرية، ما جعلها امرأة كوسموبوليتية حديثة، فيلسوفة عاشت في عصر نابوليون بونابارت الذي فرض على فرنسا نموذجًا سياسيا لا يمكن تجاوزه: نموذج لويس الرابع عشر. وذلك كان مبرر تناولها في رواية "كورين أو إيطاليا" لموضوع "الانتحار السياسي".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.