}

ماذا كتب باتريك موديانو بعد نوبل؟

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 8 ديسمبر 2017
تغطيات ماذا كتب باتريك موديانو بعد نوبل؟
باتريك موديانو

 

كتابة المسرح بعد موت الأم:

هل ينقطع الكُتّاب عن الكتابة بعد نيلهم الجوائز؟ ماذا كتب ويليام فوكنر بعد نوبل؟ وغابرييل  غارسيا ماركيز؟ وماريو فارغاس يوسا؟ وجان ماري غوستاف لوكليزيو؟ هل استمر كتاب آخرون بنفس الإيقاع والاجتهاد والحماس بعد نيلهم جوائز أخرى تأتي مباشرة بعد نوبل مثل: بوكر البريطانية، وبوكر العربية، و"غونكور" و"رونودو" الفرنسيتين.

    بعد فوزه بجائزة نوبل سنة 2014، ظل الفرنسيون يترقبّون إصدارات الروائي باتريك موديانو "شاعر الرواية القصيرة". لكن من يعرف الكاتب ظل شبه متأكد أن شيئاً ما يتم تهييئه بين بيته الواقع جنب حديقة "دي هال"، تلك الكارثة الحضرية الباريسية، وناشره دار غاليمار. إلى أن أعلنت جريدة "لوفيغارو"، في ملحقها الثقافي (9 نوفمبر 2017)، ضمن ملف خاص، أن موديانو أصدر كتابين دفعة واحدة؛ مسرحية "بداياتنا في الحياة"، وهي مستوحاة من مسرحية "النورس" لأنطوان تشيخوف. والكتاب الثاني هو "ذكريات نائمة".

   ليس من غرابة في أن يكتب موديانو المسرح. فوالدته هي لويزا كولباين (1918-2015) الممثلة البلجيكية. لقد توفيت بعد نيل موديانو جائزة نوبل. وباتريك كتب المسرحية مباشرة بعد موتها. ألا يذكرنا هذا بمسرحية "أوديب" لوليم شكسبير التي كشف المحلّلون أن السرّ الكامن وراء قوتها الشعرية والفلسفية، بل وسوداويتها، يكمن في كون شكسبير بدأ كتابتها مباشرة بعد موت والده؟ إذن، هل موديانو كتب مسرحية "بداياتنا في الحياة" لتذكّر إنسان؟ اسم؟ مهنة؟ فن؟ حياة بكاملها ويجب ألا تنتهي بالموت؟ إن موديانو، إن كانت تلك هي دافعيته (بالمعنى الفرويدي) فإنه شبيهٌ ببطلة الروائية الفرنسية التي تستقبل حزنها بكل طواعية وشاعرية في روايتها "صباح الخير أيها الحزن".

 إنها عودة إلى الطفولة الخاصة، في كنف مدينة مليئة بالتهديدات. مدينة كل رقم شارع فيها يخبئ العديد من الأسرار. لكن إن كان غرضه هو إيقاظ الحنين، فإن الكاتب الفرنسي إدوارد باير يرى أن الحنين مضرّ للصحة وينبغي الخضوع لعلاج نفسي للخروج من ظلمته، وهذا العلاج هو آلية التطهير التي يحدثها فن المسرح اليوم، كما كان منذ الأزمنة القديمة.

 لكن، هناك سؤال آخر: لماذا ذكريات الحياة الأولى؟ هل للتخلص منها، إن كانت مضرة للصحة العقلية؟ أم لتسميها، وإذن تخليدها؟ إن مسرحية موديانو هي أكبر وأثمن تكريم أدبي لمثل هذه المعادلات، حسب تعبير باير. لكن هل نعثر على ما نشاء بمجرد الانتهاء من الكتابة، ثم النشر؟ لا، إن "أعمال باتريك موديانو تشبه تقصيات وأبحاث مفتش شرطة يعرف جيداً أنه لن يفكّ اللغز أبداً، لكنه رغم ذلك في غاية السعادة" (إ.باير). والغرض مما كتبه في المسرحية هو إنتاج خيال يفكر في باريس، ويستعيد ذكريات طفولته الخاصة، ويكرّم والدته الممثلة الجميلة، "فبدون خيال ليس الإنسان إلا قطعة من اللحم" حسب تعبير أندري مالرو، وصدق.

ذكريات نائمة: باريس متاهة

لم يُوفّق فيليب ديلارم، الصحافي الذي كتب مقالة عن كتاب "ذكريات نائمة"، كثيرا في تقديم هذا الكتاب المختلف عن السرد السابق لموديانو. لذلك كان لا بد من إضافة أشياء كثيرة تتعلّق بالمضمون والشكل، يلامس طبيعة الشخصيات ورؤية النصوص التي يحتويها. السارد "جان. د" وُلد، كما الكاتب، في 30 يوليو من سنة 1945 في بولون بيلانكور، ويحاول بعد خمسين سنة إعادة بناء ذكرياته عن أشخاص التقى بهم، ويحاول ترميم ما أصابه الزمن في ذكراهم وصورهم المستعادة.  

    لماذا نريد العثور على الأشخاص الذي التقيناهم أو عرفناهم ذات مرة في الماضي. قد تكون جمعتنا بهم سنوات، أو لحظات فقط. توقف فيليب دوليرم عند هذا المقطع من الكتاب: "كل محطّة يُشار إليها بزرّ على اللوحة. ما عليك سوى الضغط لتعرف أين تغيّر الخط. تظهر الرحلات على التصميم في شكل خطوط لامعة بألوان مختلفة. كنت متأكّداً بأنه، في المستقبل، يكفي أن تسجّل على الشاشة اسم شخص عرفته في الماضي لترشدك نقطة حمراء المكان الذي يمكنك أن تعثر عليه في باريس".

  هذا الحلم المستقبلي عن المسلك المفقود هي فلسفة موديانو الجديد، موديانو ما بعد نوبل، الذي لطالما تمّ انتظاره. وفعلا لقد كان الفرنسيون ينتظرونه وهم مقتنعون أنه هو من سيجدهم، في أي مكان من باريس، أو من فرنسا، ولمَ لا من العالم كله. "هذا هو موديانو الخالص" (ف. ديلارم). بل هذا هو الجوهر الذي أحبّه القراء في رواياته.

هذه هي زُبدة الذكريات: نعرف الناس، نفتقدهم، نلتقيهم من جديد ثم يضيعون في ضباب الزمن. كيف نعثر عليهم من جديد؟ لنكتب عنهم، لنتذكرهم ونحن نخطّ حروفنا على الورق. لكن هذه القناعة ليست تامة عند موديانو، رغم وضوح مسار الرحلة.

  لكن، هل من الواجب الإشارة إلى أن غلاف الكتاب لم يحتو سوى على العنوان: "ذكريات نائمة"، بلا عنوان فرعي، بل وبلا تجنيس: "رواية". ورغم ذلك، يؤكد دولارم، فالكتاب ليس كتاب ذكريات، رغم حضور هذه الكلمة على الغلاف. فأسماء الشخصيات المذكورة في الكتاب توحي بأنها شخصيات حيقية. قد تكون أسماء حقيقية. لكن، وكما عُرف عن موديانو، فإن الحقيقة يمكن أن تُستعمل كحيلة. والأسماء تصبح سرّاً جديداً.

   لكن الشيء المهم ليس هنا، يضيف صاحب المقال، بل في ما سماه "موسيقى الجملة"، في العلامة الموسيقية التي نتوقّع سماعها، والتي تكون كاملة. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.