}

"سويسرا الساكسونيَّة"

صوفيا سومبوراني 7 أكتوبر 2017

منذ أمدٍ بعيد أعرف أن ثمة أماكن في ألمانيا لا يمكن للمرء ارتيادها إن لم تكن ملامحه ألمانيَّةً خالصة، أعرف ذلك على الأقل منذ أن كنتُ أعمل في محل بيتزا في الزاويةِ، حين نادت الخبازةُ، زميلتنا في العملِ: "انظروا إلى ذلك (الأسود) (استعملت في الحقيقة كلمة أخرى)، اجلبوه إلى الداخل، فأنا أحتاج قرداً مروَّضاً يحضر لي البيرةَ خاصّتي"• سافرت هذه المرأة العنصرية في اليوم التالي لتقضي إجازتها في "سويسرا الساكسونيَّة"، هذا المكان الذي حقَّق فيه حزب البديل لأجل ألمانيا "إ ف د" يوم الأحد نسبةَ 35.5 بالمائة من الأصوات، والذي يعدّ منذ وقتٍ طويل معقلَ اليمين المتطرِّف في البلاد. سافرتْ هذه الخبّازةُ، التي لاقت عبارتها العنصرية قهقهةً وابتهاجاً ، إلى سويسرا الساكسونيَّة، رفقة أصدقائها بسيارة "بي إم دبليو" طافحة برموز النازية كانت مركونةً أمام باب منزلنا في لايبزيغ دونما رادع!

سويسرا الساكسونيَّة هو ذاك المكان الذي لم نذهب إليه أنا وزوجي، ذو الأصول الموزمبيقية، لنقضي إجازتنا بصحبة طفلتنا. كما أن فكرة وجودِ جبالٍ لا أستطيع رؤيتها إلا من خلال الصّور لم أعد أحسّها أمراً يبعثُ على الحزن. تلك الصور الرومانسيّة البانورامية للجبالِ التي ينشرها أصدقاء على الفيسبوك، والتي تظهرُ في خلفياتِها الأعلامُ النازية مرفرفةً فوق منازل القرويين، دون أن يعلِّق أحدهم على ذلك، تماماً مثلما فعلتُ مع خبّازة عجين البيتزا العنصريَّة، لأنَّه لن يجلبَ نتيجةً. إنَّهم وحسبُ أغبياء، دعهم يتحدّثون.

لقد كان ذلك قبل خمس سنين، فنحن لم نعد نعيش في لايبزيغ، لأن العنصرية الكامنة هناك كادت أن تنهكنا وتصيبنا بالقنوط، فلم نعد نقوَى على سماعِ أحدٍ يردِّدُ في حديقة الحيوانِ : "انظروا، ها قردٌ قد فرَّ من قفصِه."، لم نعد نريد أن نتردَّد إن كنّا بالفعل نودُّ الخروج مساءً إلى الشارع أو إن كان علينا ان نأخذ الأمر بجدية ونرد بحزم آنَ ينعتُ أحد الأطفال في الروضة طفلتنا بالخراء وتقهقه والدتُه، إن كان علينا أن ننزعج بحقٍّ حين يتهامس الجيران:" مُذ سكنت السوداءُ هنا صار الأطفال يلعبون بصخبٍ."، إن كان علينا أن نسمح للآخرين نعتنا بالعفنين..

لقد قبلنا ذلك كله بصمتٍ تام وحزمنا أمتعتنا وهاجرنا من ولاية ساكسونيا، حيث صارَ "حزب البديل لأجل ألمانيا" أقوى الأحزاب السياسيّة فيها، متجهين إلى بوتسدام، إلا أننا لم ننته من النازيين بصورةٍ نهائية.

عليَّ أن أعترف، لقد استغرقَ ذَلِكَ وقتاً، لكنّ الآن ثمة أمكنة هنا أيضاً لا نودّ الذهاب إليها وبشراً لا نريد أن نلتقيهم. في السابقِ كانت هناك بعض هذه الأمكنة، لكن بدرجة أقل وبالكادِ كنَّا نجدُ هؤلاءِ العنصريين الذين كانوا يسعون إلى إزعاجنا وقطع الطريقِ أمامنا بأفعالهم الشنيعةِ أو مظهرهم الخارجيِّ المُستَفِزّ، لكن الآن أخذت نسبة هؤلاء تزداد وهذا ما يخيفني.

لا أحبُّ أن أُرغَم على أن أفسّرَ لطفلتي لمَ يريد الآخرون أن يمسوا شعرَها دوماً، لِمَ يهزأ بها الأطفال، لِمَ هي طفلةٌ هُزأةٌ لمجرَّد وجودِها، لا أريد أن أشرح لها لم تُسأل مراراً إن كانت تجيد السباحةَ قبل أن تدخلَ حوض المسبحِ، ولم يستفسر منها الآخرون على الدوام: "من أينَ أنتِ؟".

لا أريد أن أشهدَ كيف أن حزباً بتجاوزاته المتكررة يسحبُ الأشياء المُحرَّمةَ إلى مركز الحياةِ ثانيةً، كلّ يومٍ يسحبها درجةً أخرى، كلّ يومٍ تصيرُ الحياة أكثر فظاعةً. لا أريد أن أضطرَّ إلى تحمُّل فكرة أن تعودَ العنصريَّة أمراً مقبولاً اجتماعيا، رغمَ أنني أعرفُ أن ذلك قد تحقق بالفعلِ وأعرف أيضاً أن من يبدو مظهره ألمانيّاً بالكاد يحسُّ بذلك ولا يهزّ رأسه ذاهلاً من أمثال السيد غاولاند (زعيم حزب البديل) ولا يطفئ التلفاز أو يسوّيه بالأرض.

لكنني أعرف أيضاً إلى أين يقودنا ذلك.

آنذاك، قبل خمسة أعوام، حملتُ البيتزا خاصّتي وركبتُ السيارةَ هازّةً رأسي غضباً من عبارة "القرد المروَّض" وحاولتُ جاهدةً نسيانها. اليوم يتملّكني إحساسٌ بخيانة عائلتي، لأنني آنذاك لم أرد ولم أفعل شيئاً.

لا أريد العيش في عالمٍ فيه أمكنةٌ لا يُسمَح لي بزيارتها، يُعتدى فيه على طفلٍ ويصيرُ شيئاً يمكن لمسه والتعجّب منه؛ في عالمٍ يُرسَل فيه طفلٌ إلى دروس تقوية الرياضيات مع أقرانه غير الألمان بسبب شُبهةِ "النيملكسا" أي صعوبة تعلُّم الحساب، لمجرّد أنهم ليسوا ألماناً. لا أريد العيش في عالمٍ يستفسرني الناس في شوارعه حين أكون برفقة أطفالي إن كان زوجي "الأسود" قد ضحكَ عليَّ حتى حصل على الفيزا الألمانيَّة ويعيش الآن مرفهاً على حساب خزينة الدولة؛ وحين يكون زوجي برفقتي فإنَّه في نظرهم مجرد انتهازي متطفل يسرقُ النساءَ الألمانيات، كما لو أن النساء غير ناضجات ليقررن بأنفسهن بمَنْ عليهن الارتباط. لكن هذا أمرٌ آخر، يميّع أفكارهم المسبقة ويسلط الضوء على شيء آخر.

إنني أخشى من هذا الحزب، من التحريض الذي يمارسه بأحكامه التي تشوّه صورة الإنسان، من النار التي يؤججها. إنني لا أخشاه لأجلي، إنما بالدرجة الأولى لأجل أطفالي الذين سيحسّون بكرهٍ لن يستطيعوا فهمه، بكرهٍ لا أحبُّ أن أفهمه.


*كاتبة وناشطة ألمانية

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
7 أكتوبر 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.