}

"تهويد" فلسطين: من تغييب الإنسان إلى جعله شبحًا

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 23 أكتوبر 2016

تعاني "الدول القومية" الحديثة عمومًا، بمختلف تياراتها ومشاربها الفكرية وأطيافها الأيديولوجية، من هوسَ السيطرة على المكان ومن عدم تحمّلها ترك بقعة أرض دون فرض سيادتها عليها بشتى الأساليب والأدوات، لكن إسرائيل تعاني كذلك من هوس إضافيّ يتلخص في عملية "تهويد" فلسطين اولًا ودائمًا.

 

يرتبط شهر تشرين الأول/ أكتوبر في ذاكرة الفلسطينيين في مناطق 48 بحدثين يمكن اعتبارهما انعطافيين: الأول والأكثر جدة، "هبّة أكتوبر" عام 2000 وما أنبأت به بشأن مزيد من توحّش علاقة دولة الاحتلال مع هؤلاء الفلسطينيين، وهو توحّش لا يزال يلقي بآثاره الآثمـة حتى أيامنا هذه؛ الثاني، مجزرة كفر قاسم- قرية فلسطينية في منطقة المثلث داخل فلسطين 48- التي ارتكبتها إسرائيل قبل ستين عامًا وتحديدًا مساء يوم 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1956، أثناء قيامها بشن عدوان على مصر في إطار ما سيُسمى لاحقًا "حرب سيناء"، وسقط خلالها 49 شهيدًا وشهيدة. 

تقف وراء الحدثين ماهية نظرة دولة الاحتلال إلى وجود فلسطينيين داخل تخومها، فضلًا عن جوهر تعاملها العدائيّ والإقصائيّ مع هذا الوجود، بالرغم من الأعوام الـ44 التي تفصل بينهما.

بالقدر ذاته تقف وراءهما نقطة جوهرية لا يمكن، بدون الانطلاق منها، فهم قضية الفلسطينيين في الداخل، وأعني النقطة التي سبق أن حدّدها عزمي بشارة في كتابه "رؤية من الداخل"، بضرورة الربط بين ما هو بنيوي وما هو تاريخي وعدم جواز الفصل بينهما.

ووفقًا لما كتبه بشارة، منذ نحو عقدين من الزمن، هؤلاء الفلسطينيون هم سكان البلاد الأصليون وهم جزء من الأمة العربية التي تعيش حالة صراع مع إسرائيل، ومن الشعب الفلسطيني الذي تعرّض لعملية سطو مسلح على أرضه شملت هدم مشروعه الوطني. وقد نشأت قضيتهم تاريخيًا كجزء من القضية الفلسطينية، فلولا نشوء قضية اللاجئين ما نشأت مسألة "أقلية عربية" في الداخل. أما الممارسات الإسرائيلية التي تتضمن مصادرة أراضي العرب في الداخل ومحاصرتهم وتجميعهم ديموغرافيًا، والعمل على إعادة تشكيل هويتهم الثقافية بما يتناسب مع احتوائهم كأقليات متنافرة متنازلة عن المساواة الكاملة وعن الشخصية العربية الكاملة في دولة يهودية، فهذه كلها ليست مجرد مركبات في سياسة تمييز، بل هي جزء من سياسة تشكل استمرارًا تاريخيًا لقضية فلسطين وتضع لنفسها أيضًا أهدافًا تاريخية. فهي ما زالت تجري وتنفذ بعقلية كولونيالية استيطانية إحلالية، وتتخذ شكلًا كولونياليًا أيضًا.

في هذه المعالجة سنسلط الضوء أيضًا على كتاب مهم آخر يتناول الفلسطينيين في الداخل من خلال تحليل مسألة الأرض والاستيطان، ولم يحظ باهتمام كبير وقت صدوره.

عنوان الكتاب "حول تهويد المكان، المجلس الإقليمي مسغاف في الجليل- دراسة أولية لحالة"، وهو من تأليف الباحث الفلسطيني نبيه بشير، ابن الجليل.

وقد صدر قبل أكثر من عقد عن منشورات "مدى الكرمل: المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية" في حيفا.

لبّ الصراع

أهم ما يؤكد عليه كتاب بشير، الذي يحلّل موضوع التهويد بعمق، أن لبَّ الصراع مع دولة الاحتلال يكمن في خصائص ومكونات الأيديولوجيا الصهيونية، كونها تُعتبَر الأيديولوجيا الرسمية لهذه الدولة، بمعنى أنّ الدولة هي حاملة راية الأيديولوجيا الصهيونية وتسعى إلى تحقيقها على أرض الواقع، وكأن الأيديولوجيا تحوّلت إلى هدف قائم بحدّ ذاته.

ويشير المؤلف إلى أن المفاهيم والعناصر التي اختارها من مجمل العناصر والمفاهيم المركبة للأيديولوجيا الصهيونية لها علاقة وثيقة ومباشرة بموضوع الأرض والاستيطان، الذي كان وما يزال أحد المحاور الرئيسية للأيديولوجيا الصهيونية.

ومهّد بشير لكتابه بتوطئة كتب فيها ما يلي: يُحكى أنه إبان تجوال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول ديفيد بن غوريون في الجليل (في خمسينيات القرن العشرين الفائت)، استشاط غضبًا لرؤيته القرى العربية "تحتلّ المكان"، وعقّب قائلًا: "إنّ كل من يتجوّل في الجليل ينتابه شعور بأنه ليس جزءًا من إسرائيل"!.

وفي سياق آخر جاء أنّه في إحدى الجلسات التي عقدها بن غوريون مع القيادة العامة لقوات الجيش الإسرائيلي، في عام 1948، امتنع عن منح ترقية وأوسمة لضباط وجنود لأنهم "لم يتصرفوا بصورة مهنية!"، وأضاف قائلًا: "لو تصرفنا كأننا جيش واحد وليس كجيوش... لكان باستطاعتنا إخلاء الجليل الأعلى، القدس والطريق إليها، الرملة واللد، وجنوب البلاد بصورة عامة، والنقب بصورة خاصة".

ويكتب الباحث: إنّ حقيقة وجود سكان فلسطينيين عرب في الجليل بإمكانها تجريد المكان من يهوديّته، وذلك على الرغم من فرض السيادة الإسرائيلية من خلال أنظمة وحكم عسكريين، وكذلك من خلال القانون الإسرائيلي، وقوة السلاح، والسيطرة التامة على حركة السكان العرب، والسيطرة على جهاز التربية والتعليم، وعلى سوق العمل، وعلى الحيّز المكانيّ بشكل تامّ. وقد "استنهض" هذا الوجود العربي المسؤولين في الدولة حديثة العهد إلى التفكير في السبل لوضع حدٍّ لهذا الوجود، عن طريق رسم خطط للترحيل أو النفي أو تشجيع الهجرة، أو- على أقل تقدير- التقليل منه، وهو ما استدعاهم إلى التخطيط لرسم الخطوط العريضة لمشروع "تهويد الجليل" (أو ما عُرف باسم "برنامج المناطر"). لكن، وقبل البدء بهذا المشروع، عرض بن غوريون فكرة تهدف إلى تهويد السكان العرب، كحلّ للمشكلة من أصلها، إلاّ أنّ معارضة شديدة قوّضت هذه الفكرة قبل طرحها للنقاش على الجمهور وعلى الشرائح الثقافية والفكرية (وحاول بن غوريون في مقالتين مختلفتين منذ عام 1917، تأسيس فكرة أنّ أصل الفلاحين الفلسطينيين هو الوجود اليهودي في البلاد في الماضي، بمعنى أنّهم أحفاد اليهود القدماء. بالإضافة إلى ذلك توجه بن غوريون في مطلع الخمسينيّات إلى عدد من الحاخامين ورجال الفكر اليهود للتشاور حول إمكانية تطبيق فكرة تهويد الفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم بعد النكبة). 


قوننة الأشياء

وبرأي الباحث في الوقت الذي تعاني "الدول القومية" الحديثة عمومًا، بمختلف تياراتها ومشاربها الفكرية وأطيافها الأيديولوجية، من هوسَ السيطرة على المكان ومن عدم تحمّلها ترك بقعة أرض دون فرض سيادتها عليها بشتى الأساليب والأدوات، فإن إسرائيل تعاني كذلك من هوس إضافيّ، يتلخص في عملية "تهويد" البلاد.



ولتنفيذ هذا "التهويد"، الذي كان يعني في فترة ما بعد إقامة الدولة الاستيطان في كل مكان يقيم فيه تجمُّع سكّانيّ عربيّ، وعلى ضوء الخصوصيات الدينية والثقافية الأخرى للمجتمع وللدولة في إسرائيل، تندفع الدولة بشكل مستمر في الاستيطان وفرض سلطانها وإحقاق سيادتها عن طريق "قَوْنَنة الأشياء" (يقصد الباحث من وراء تعبير "قوننة" ذلك الشكل اللغوي الذي ينتج عن محاولة صياغة الواقع على جوانبه المادية والروحانية، البشرية وغير البشرية، بلغة القانون وتثبيته في منظومة من التشريعات المختلفة، بحيث يتقبل الواقع شرعيّتَه أو عدمَها من القانون وليس من ذاته.
بهذا المعنى فإن "الأشياء"- كما يستخدمها ميشيل فوكو، بمعنى objects أو things، أي أمور أو أفراد أو جماعات بشرية خاضعة لسلطان خارجيّ وتعتبر مشلولة الإرادة والوعي الذاتيَّين- تغيب عن جميع المشاهد لمجرد عدم تطرّق القانون إليها)، و"قوننة" المناطق، والعلامات، واللغة، والسلوك وما إلى ذلك. وتنبع قوّة القَوْنَنة من كونها تتضمن سيادة الدولة، وتفرض ذاتها من خلال "لغة عالمية"، تسري على كل فرد في الدولة دون استثناء، وغالبًا يتم وصف هذه اللغة باسم "تكنولوجيا"، بمعنى أن الدولة تفرض وتغيّر، على سبيل المثال، حدود التجمّعات السكانية، من خلال استعمالها لعملية التشريع القانوني، الأمر الذي يترك أثره أيضًا على صُعُد عدة أخرى (الهوية الإثنية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، إلخ...).
وتعرض مؤسسات الدولة المختلفة هذا الفرض، أو التغيير، على أنّه نابع من احتياجات تقنية محضة، ويتم التعبير عن ذلك في الخطاب القضائي الإسرائيلي الذي يعزّز هذا الفرض أو التغيير ويُشَرْعِنُه، ويعزّز "عالميته" وكونه مجرَّدًا من الدوافع "السياسية". وبسبب "عالمية" اللغة القانونية من العسير، حتى على الصعيد الفكري غير النقدي، مقاومة ومحاججة سلطان القانون وقوته، وخصوصًا عند حديثنا عن نخبة مكوّنة من تكنوقراطيّين، تلك الفئة المهنية من موظفين في دوائر رسمية ومهندسين ومحامين وآخرين، التي تمتثل للقانون وتعتبره المثل أو المعيار الأعلى والركيزة الوحيدة لخلق نظام، وللحفاظ عليه، ولتقويض أسس فوضوية في المجتمع، والأهم من ذلك، أنها تعتبره المرجعية أو المعيار الوحيد الذي تعمل من خلاله وعليه يقوم خطابها. أمّا في الحالة الإسرائيلية فإن القضية شائكة جدًا، وذلك لأن إسرائيل تحمل هدفًا أيديولوجيًا يشمل جميع أبناء "الشعب اليهودي" أينما وُجدوا، ويستثني جميع "المواطنين" من غير اليهود، الأمر الذي يخلق، بدون أدنى شك، واقعًا مركّبًا يشير إلى بعض الأسس العنصرية أو الإقصائية البنيوية في المنظومة الأيديولوجية السياسية التي تقوم عليها هذه الدولة. 


رياح العاصفة

وتتعقد المسألة أكثر فأكثر عندما نكتشف أن مفهوم "القانون" السائد في العديد من شرائح المجتمع الإسرائيلي، كما هي الحال بين السياسيين ومتخذي القرار في الدوائر الإسرائيلية، يتّسم بالأداتية (instrumental concept of law)، الأمر الذي يجعل من القانون مجرّد أداة لتنفيذ أهداف معينة وليس معيارًا أخلاقيًا يعكس قيمًا ومعايير اجتماعية؛ ولكونه مجرد أداة يتم تغييره حين لا يلائم الأهداف العينية.

وبغية تقديم توضيح أكبر، يورد بشير المثال التالي: جاء في معرض كلمة افتتاحية لدورة تدريبية لقوات الشرطة الإسرائيلية عام 2000 ما يلي: "أهلًا وسهلًا [بكم] إلى لعبة الحرب: "رياح العاصفة". نحن اليوم ضيوف مركز التأهيل الشرطي في المنطقة (التي نتواجد عليها الآن [شفاعمرو])، كما أننا نستضيف فيه آخرين. [إنها المنطقة] التي تم احتلالها منذ 52 عامًا على يد الكتيبة السابعة وكتيبة "جولاني"، والتاريخ الدقيق هو 14/7/1948. وها نحن الآن، وبعد مرور نحو 52 عامًا على ذلك، نجد أنفسنا منشغلين في القضايا ذاتها تقريبًا، ليس احتلال البلاد وإنّما الحفاظ عليها". 

ما المقصود هنا بتعبير "الحفاظ على البلاد"، وكيف يمكن "الحفاظ على البلاد"، خصوصًا أننا في صدد الحديث عن دور الشرطة في المجتمع وفي الدولة؟ ولماذا هذا الهوس المسيطر على أفكار متخذي القرار السياسي والمؤسسات الصهيونية واليهودية الأخرى: السيطرة على المكان و"الحفاظ" عليه؟ يؤكد الباحث أن الجواب يمكن أن يتـأتى من طريق الكشف عن بعض الخطوط العامّة التي تحدّد معنى "المكان" والسيطرة عليه، ومتى تتحول رقعة أرض إلى "مكان" في السياق الصهيوني. و"الحفاظ على البلاد" إنّما يقصد من ورائه المحافظة عليها من "أعداء" الدولة والمجتمع، وهم السكان العرب، كما تأكّدَ بعبارات صريحة في معرض بعض شهادات لأفراد من الشرطة أمام "لجنة أور" للتحقيق في مظاهرات أكتوبر 2000. إنّ هذا المواطن- العدوّ، مهما يكن موقفه الأيديولوجي أو السياسي من الدولة ومن الصهيونية، هو هدف مباشر لهذه الدورة التدريبية الشرطية، وذلك لكون وجوده في المنطقة يهدد سيادة الدولة ويهودية المكان.

في سياق آخر يشدّد الباحث على أن موضوع الاستيطان ومواقع تنفيذه وتوقيته تنبثق من الأيديولوجيا الجيوسياسية والاستراتيجيات الإقليمية المتبعة في حقبة معينة.


سيطرة الأمة

كما أن توقيت الشروع بتنفيذ "التهويد" مرتبط بعدة عوامل، منها: جدول الأعمال القومي، والمقصود تلك المواضيع التي تولى الأهمّيّةَ القصوى والطارئة في الدولة؛ الوضع الديموغرافي في البلاد بشكل عامّ، وفي مناطق محددة بشكل خاصّ؛ عوامل تتعلق بالحيّز الجغرافي المزمع تنفيذ الاستيطان عليه؛ حجم الدعم المادّيّ الخارجيّ والوضع الاقتصاديّ والقوى البشرية العاملة وقدرة المؤسسات على ترجمتها إلى فعل؛ وسيطرة "الأمّة" على الأراضي.

وبرأيه، كان هدف الأيديولوجيا الجيوسياسية الصهيونية منذ نشوء الصهيونية حتى عام 1948 يتلخّص في التحضير لخلق إقليم لإنشاء "بيت قوميّ" عليه، والاستراتيجيات التي اتُّبعت آنذاك كانت عبارة عن بناء مؤسسات "قومية" وشراء أراضٍ واستيطان في مناطق حيوية واسعة، يضمن سيطرة كبيرة على الإقليم المخطط إقامة "البيت القومي" عليه، وتشجيع الهجرة إلى فلسطين وغيرها.



واختلفت الأيديولوجيا الجيوسياسية وتبدلت الاستراتيجيات المتبعة بعد إنشاء الدولة فعليًّا، بحكم تغيّر الواقع والزمن والعوامل الداخلية والخارجية والسيادة السياسية والأولويات "القومية" والمواضيع الملحّة على جدول الأعمال القومي وما إلى ذلك. كذلك يمكن التمييز بين فترة 1948- 1967  وفترة 1967- 1976 وفترة ثالثة: 1976 - حتى اليوم. فقد أوجدت نتائج حرب حزيران/ يونيو 1967 واقعًا ديموغرافيًّا وإقليميًا جديدًا أدّى إلى تحوّل كبير في جدول الأعمال القومي الإسرائيلي، وبالتالي أدّى إلى تحوّل عميق في الأيديولوجيات الجيوسياسية والاستراتيجيات الإستيطانية والإقليمية. كما يمكن القول إن "يوم الأرض" (1976) خلق تحوّلًا عميقًا آخر أدّى - في نهاية الأمر- إلى تعزيز الاستيطان في الجليل والشروع في تنفيذ أفكار عديدة لتشديد السيطرة والتحكم بواقع العرب في الداخل وبمصيرهم.

المطالب الآنية لا تمس

جوهر الصراع

يؤكد بشير ما سبق أن توقف عنده عزمي بشارة، وهو أن مطالبة العرب في الداخل بتوسيع مناطق نفوذ تجمعاتهم السكنية، والحدّ، أو التوقف، عن مصادرة الأراضي، ومطالبتهم بميزانيات وخدمات إضافية، لا يمكن لها أن تعالج الصراع القائم، وذلك لأنها مطالب آنيّة وتتطرق إلى قشور الصراع ولا تمسّ جوهره بتاتًا.

وينوّه بأنه لو تمّ تبني طرح مهَيْمِن في بعض الأدبيات وفي أروقة الحكم المحلي العربي في الداخل، والذي يقوم على أنّ "لبّ الصراع" هو على الأرض أو على ملكية الأرض، لتوصّلنا إلى النتيجة ذاتها التي مفادها أنّه يجب رفع شعار المطالبة بمناطق نفوذ أوسع لتلبّي حاجة السكان العرب في جميع أنحاء البلاد، وزيادة في الميزانيات والخدمات. لكن بناءً على الطرح والتحليل في هذه الدراسة، المطلوب هو حلّ يقوم بدايـة على فهم لغة الصراع، لغة كلّ طرف على حدة، لحلّ الصراع من أساسه، بمعنى السعي نحو جذور الصراع وليس إلى عوارضه؛ وثانيًا النظر إلى أن الأرض بحدّ ذاتها مهمة لتطور الفئة السكانية العربية في البلاد، ولكنها أيضًا تمس هويتهم وحيّزهم المكاني، الأمر الذي يؤثر على سلوكهم على جميع الصعد الثقافية والسياسية والاجتماعية إلخ...

ويقول بشير إنّ غياب الأيديولوجيا الصهيونية من بنية الدولة الإسرائيلية وتخلّيها عن تحقيق أهدافها من شأنه أن يفتح الباب أمام إعادة ترتيب "المجتمع والدولة" في إسرائيل، بالإضافة إلى إعادة بلْوَرة المفاهيم المدنية والسياسية من جديد. لكنه في الوقت عينه لا يدعي أنه من خلال هذه الدراسة سيقوم بعرض استراتيجيات لبلورة وبناء مؤسسات الدولة التي يمكن لها أن تنتج عن فضّ الصراع، ولكن الإشارة إلى مصدر وبؤرة الصراع فقط، من دون الدخول في مسائل معيارية حول كيفيّة وجوب أن تكون الدولة ما بعد الصراع.

صراع عائلات

وتحلّل الدراسة أداء "الحكم المحلي العربي" (السطات المحليّـة) فتورد ما جاء في أحد المستندات الرسمية من أيلول/ سبتمبر 1959 (المُستند محفوظ تحت تصنيف أمنيّ "سرّيّ جدًّا للمرسل إليه فقط" ويحمل عنوان "توصيات لمعالجة شؤون الأقلية العربية في إسرائيل") بأنّ هدف السلطات الإسرائيلية من إنشاء سلطات محلية في القرى العربية كان أولًا تحويل الصراع من صراع قومي بين العرب واليهود في الدولة إلى صراع بين العائلات في قراهم ومدنهم. وبذا فإنها تقوّض أيضًا أية قوة سياسية عربية تتناقض وأهداف الدولة وأيديولوجيتها، كما تشغل السكان عن القضايا القومية والقطرية وتركز جلّ اهتمامها على السياسة المحلّيّة في القرية.
بالإضافة إلى ذلك، تكمن أهمية السلطات المحلية في كونها قناة ووسيطًا بين الجمهور وبين السلطة ودوائرها المختلفة. وكي تقوم هذه السلطات بالمهمات المنوطة بها، لا بدّ لها من إتقان دورها في تلبية مطالب أساسية للسلطة السياسية من جهة، وفي الحصول على الشرعية من جمهورها، من جهة أخرى. ويشير هذا الأمر إلى تبعية هذه السلطات بشكل كبير جدًا، وإلى وجوب سيطرة الذهنية البراغماتية عليها لتفي بمتطلبات المهمات المنوطة بها.
وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها في أن تكون في مكان قيادي لجماهيرها. ويتضح ذلك جليًّا في ضوء غياب النقديّة في خطاب المهنيين في هذه السلطات المحلية العربية، الأمر المبرر في إطار الذهنية البراغماتية. ويقصد بمفهوم "النقديّة" القدرةَ على الخروج من الإطار وعدم التقيد بمنطقه وبالمنظومة القانونية أو الإدارية القائمة ونقدها من الخارج بناءً على أسس معيارية معينة.

ويتوصل الباحث إلى الخلاصة المهمّـة التي تقول إنّ الصهيونية بمركباتها وعناصرها المكوّنة هي المنظومة الأيديولوجية التي تنبثق منها العديد من محاور الصراع العربي- الإسرائيلي بصورة عامة، وهي المحاور ذاتها التي تقف في صلب الصراع بين إسرائيل وفلسطينيي 48. والصهيونية، شأنها شأن الأيديولوجيات الأخرى، بُنية لمنظومة فكرية مترابطة تهدف إلى تنفيذ مشروع محدد، وتتكون من عدة عناصر وأسس مختلفة ولكنها متناغمة. من بين تلك العناصر والأسس والمفاهيم المكوّنة للأيديولوجيا الصهيونية التي تعنَى بها هذه الدراسة: "أرض إسرائيل"، "خلاص الأرض"، "المكان"، "تهويد المكان"، "إسرائيل كدولة يهودية".

طروحات مهمة حول "الحالة الإسرائيلية" 

تضم دراسة "حول تهويد المكان" لنبيه بشير العديد من الطروحات المكملة الواحدة للأخرى، منها طروحات ذات طابع نظري، وأخرى ذات طابع خاص بالحالة الإسرائيلية.

ولعلّ أهمها ما يلي: 

1) من العسير جدًا فهم عملية الاستيطان الصهيوني بشكل عميق من دون العودة إلى مفاهيم يهودية مركزية وإدراكها، على صعيد تأويلاتها المختلفة في الفكر الصهيوني، مثل مفهومي المكان و"تهويد المكان" وأهميتهما في النسق الديني اليهودي.

2) إنّ النشاط الاستيطاني الصهيوني الحكومي لدولة الاحتلال ولدوائر الاستيطان الأخرى المختلفة يعكس الخطاب الإقصائي الإثني القائم في صلب الأيديولوجيا الصهيونية، على مختلف تأويلاتها المختلفة، المنسجمة مع بعضها البعض أحيانًا والمتعارضة أحيانًا أخرى، بحيث تحوّلت الصهيونية إلى معيار أوليّ بديهي يتم النظر إلى العالم وإلى الديناميكيات التي تحصل فيه من خلاله.

3) إذا تمعنّا في مكانة العرب الفلسطينيين في الداخل عبر الخطاب والنشاط الاستيطانيين للدولة ولدوائرها الاستيطانية غير الحكومية المختلفة يمكننا القول إنهم بمثابة رعايا الدولة لا يشاركونها في حيّزها ومداها الجغرافيين، فهم يعتبرون أفرادًا وجماعات لا حيّز لهم، ومجردين من أبعادهم الحيّزية الجغرافية والتاريخية.

4) إنّ تطورًا بالغًا يحصل على صعيد المجتمع الإسرائيلي عمومًا، وعلى صعيد التوجه الثقافي السياسي للمستوطنين في الجليل بشكل خاص. ويندمج هذا التطور مع التوجه العام في إسرائيل الذي يجوب تخوم النصوص والتلال بحثًا عن جذور ثقافية أولية (دينية تاريخية) للمشروع الصهيوني ولشرعنة الوجود الصهيوني في فلسطين. ومن شأن هذا التطور الأخير أّن يؤدي إلى تقارب بين التوجهات العامة للمستوطنين وبين تيارات سياسية يمينية ذات بعد ديني. وبالتالي سيؤدي هذا التطوّر إلى عداء وتصادم شديدين بين التجمعين المتداخلين: المجتمع العربي الفلسطيني في الجليل، ومجتمع المستوطنين. ويمكن رؤية نتائج "هبّة أكتوبر" في عام 2000، على صعيد العلاقات بين المجتمعين، كنقطة تجسد جانبًا من هذا التحوّل الذي يأتي في سياق التطوّر العدائي التصادمي.

5) يقوم الخطاب الاستيطاني الصهيوني في الجليل - وفي سائر أنحاء فلسطين التاريخية - في بعض وجوهه، على حقّ اليهودي (ولا يُشترط أنّ يكون مواطنًا في الدولة) في الاستيطان في حدود "أرض إسرائيل" (وهو مفهوم غامض على الصعيدين الديني والسياسي)، وعلى أنّ "بيت" اليهودي هو ذلك المكان الذي اختار هو بذاته الإقامة عليه، أو اختارت له إحدى دوائر الاستيطان الصهيوني ذلك. في حين يتسم الخطاب العربي - كما يتجلى في خطاب معظم قيادات المجتمع العربي الفلسطيني في البلاد على تنوعها - بكونه خطابًا محليًا يصبّ جلّ اهتمامه على حدود قرية أو مدينة عربية معينة، وفي المطالبة بتوسيع هذه الحدود من دون أنّ يعتبروا "كل البلاد" بلادًا لهم يحق لهم الإقامة في حدودها. وكانت هناك بعض المحاولات الفردية للخروج من هذا الخطاب المحلي الضيق، بيد أنه لم يتمّ تبنّيها على صعيد القيادات القطرية والمحلية، بالإضافة إلى إحتماليّة كون خطابها يبتغي تحدّي الخطاب الليبرالي للدولة فقط.

6) لأسباب عديدة ومختلفة غاب البعدان التاريخي والحيّزي للفرد وللفئات البشرية المختلفة عن الفكر النظري، ذلك الفكر الذي يقوم في صلب النظريات الاجتماعية والسياسية المختلفة. وقد تطور هذا الفكر النظري بالأساس من خلال التيارين الليبرالي والاشتراكي، اللذين تجاهلا هذين البعدين. من جانب آخر فقد تأسس الخطاب القومي بشكل مركزي على هذين البعدين. لهذا فان الخطاب القومي غريب عن المنطلق الفكري النظري لمختلف هذه النظريات الاجتماعية والسياسية. وثمة حاجة ماسّة إلى إعادة هذين البعدين إلى هذا المنطلق الفكري النظري، ليتحقق نوع من التناغم، وليكون في الإمكان مقارعة الخطاب القومي من خلال هذه النظريات الاجتماعية والسياسية. 

7) إنّ محاولات الإنطلاق من نظريات اجتماعية وسياسية، ليبرالية المصدر أو إشتراكيّته، لمقارعة الدولة الحديثة أو ما بعد الحديثة لتحسين ظروف الأقليات القومية فيها من الصعب جدًا أن تبلغ أهدافها، وذلك لأن الأسس المعيارية والأيديولوجية للدولة هي أسس قومية تعتمد على محوري الزمان والمكان ("التاريخ اليهودي في البلاد"، و"أرض إسرائيل" في حالة الخطاب الصهيوني) لشرعنة سلوكياتها ومشروعها الاستيطاني وغيره، بينما تقوم النظريات الاجتماعية والسياسية على أسس معيارية تجرد الفرد والمجموعة من بعديهما التاريخي والمكاني. وعليه فإنهما إطاران مختلفان لا يلتقيان إلا في نقطة واحدة، وهي استخدام الدولة للخطابين الاجتماعي والسياسي أداة لخدمة المشروع القومي فقط. وهذا فعلًا ما نحن بصدده في دولة الاحتلال، فالخطاب الليبرالي أو الديموقراطي ليس سوى خطاب أداتي يأتي لخدمة المشروع الصهيوني، كنموذج لدولة تحمل أيديولوجيا معينة وغير حيادية في طابعها. ولا يهدف هذا الخطاب الأداتي بالضرورة إلى تحسين شروط حياة المواطن بمعزل عن خلفيته الإثنية، ففي حالة تعارض المطلب الديموقراطي مع المطلب اليهودي أو الصهيوني تكون الغلبة للأخير في جميع الدوائر الحكومية والتمثيلية السياسية في البلاد، سواء أكان ذلك في الكنيست (كجهاز تمثيلي سياسي)، أو في الدوائر الحكومية (كجهاز تنفيذي)، أو في أجهزة القضاء المختلفة.  

أخيرًا، تشكل دراسة نبيه بشير "حول تهويد المكان" مرجعًا لا استغناء عنه ليس لفهم مسألة الفلسطينيين في مناطق 1948 فحسب وإنما أيضًا للدراية العميقة بتأثير الأيديولوجيا الصهيونية في "الحالة الإسرائيلية" الراهنة، ولا سيما من خلال ارتباطها بما كان وإحالتها إلى ما سيكون.


(الرسمتان للفنانة الفلسطينية سامية حلبي)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.