}

ذكرى خليل بيدس.. من رواد الأدب والصحافة والترجمة بفلسطين

راسم المدهون 29 فبراير 2020
استعادات ذكرى خليل بيدس.. من رواد الأدب والصحافة والترجمة بفلسطين
خليل بيدس بكل المعاني أحد رواد النهضة والتنوير العرب
ريادة الراحل خليل بيدس الأدبية تأسست في "لحظة" البحث الدؤوب فلسطينيا وعربيا عن استشراف أفق مختلف عن ذلك النفق المظلم الذي عاشته منطقتنا نهايات القرن التاسع عشر. تلك "اللحظة" بالذات هي أيضا – وبالضرورة – لحظة البحث عن ضرورة التحرر من قبضة الدولة العثمانية وتحقيق الاستقلال والوحدة العربية، وهي لهذا كله جعلت الأدب بكل أجناسه وفنونه ينهض لرؤية آداب العالم وفنونه والاجتهاد لتحديث الأدب العربي فعرفنا حالة الغليان والجدل في الشعر، جنبا إلى جنب مع ظهور القصة القصيرة والرواية كجنسين أدبيين جديدين دون أن نغفل بالطبع عن النهوض بالتجمعات المسرحية الوليدة وشقيقتها السينما.

خليل بيدس، الذي حلت الذكرى السبعون لرحيله مؤخراً، هو بهذا المعنى وفي هذا السياق جاء بموهبته وكده معا مشحونا برغبة حارة في التأليف والإبداع وأيضا في الترجمة، ولا يُخفى في هذا السياق انتباهه الذكي لأهمية الترجمة وأهمية الصحافة معا. خليل بيدس يوصف بحق بأنه رائد الصحافة الأدبية العربية، ولكنه أيضا أحد أبرز روَاد الترجمة وقد كان مهما ولافتا أن يعمد إلى نشر بعض الروايات التي ترجمها في كتب مستقلة توزع مع أعداد جريدته "النفائس" خلال أشهر الصيف.

كانت تلك ترجمات "بتصرف"، أي أنها ترجمة روايات جرى تلخيصها ولاقت متابعة النخبة المثقفة في تلك الأيام، وشكلت نوعا من التعرُف على عوالم أدبية جديدة ولكنها وجدت ذلك الرواج والمتابعة بسبب من وقوعها في تربة عربية غنية بشغف جمهورها إلى القص أو إذا شئنا الدقة إلى السرد، وهو شغف انحصر سابقا في الحكايات الشعبية وأدب سيرها وما حققته من مكانة مرموقة في تاريخنا. خليل بيدس أقرب إلى مؤسسة فردية بناها وأشرف عليها رجل واحد باهتمامات غزيرة، ورفدها بجهد تواصل دون كلل على مدار عقود طويلة فجاءت حصيلتها غزيرة وبالغة التنوع والثراء.
ولد خليل بيدس في مدينة الناصرة بفلسطين عام 1874 وعاش حياته كلها مسكونا بهاجس الإبداع والكتابة فتعرَف على الأدب العربي وتراثه وعلى الأدب الروسي الذي قرأ من خلاله نماذج متقدمة من الروايات الهامة التي سحرته بأجوائها ومناخاتها الجديدة وفتحت أمام عينيه أبواب الترجمة ومعها فكرة تحقيق روايات عربية تضع جنس الرواية في اهتمامات الأدب العربي. خليل بيدس استحضر موهبته الأدبية في إبداع روايته "الوارث" عام 1920 ليكون أحد أوائل رواد هذا الجنس الأدبي الذي لم يعرفه العرب من قبل والذي حقق بعد ذلك ازدهارا جعله في مكانة مرموقة عند القراء إلى الحد الذي دفع كثيرا من نقاد الأدب لإطلاق مقولتهم أن "الرواية ديوان العرب". رواية "الوارث" تجاورت أيضا مع جهوده الأخرى في الترجمة وكذلك في الكتابة الصحافية في مختلف الموضوعات والقضايا رغم أنها ككتاب فقدت منذ ذلك التاريخ فلم نعثر على نسخة منها وظلَ الحديث عنها يرد في أحاديث قليلة ممن سبقت لهم قراءتها حتى تمكن ناشطان فلسطينيان يؤسسان مكتبة إلكترونية من العثور على نسخة في مكتبة إحدى الجامعات وقاموا بتصويرها لتنشر كما هي وبأخطائها المطبعية لتكون وثيقة حيَة تؤكد وجودها أولا، ثم ريادتها للرواية العربية.

شخصية خليل بيدس جسدت إلى حد بعيد ملامح المثقف الفاعل في قضايا وطنه وشؤون شعبه، وسيرة حياته عرفت الكثير من كفاحه ضد السلطة العثمانية في البداية، ثم سلطة الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى. وقف بيدس المثقف منذ البداية – وطيلة الوقت – ضد الانتداب، وخصوصا أكثر ضد تحالف سلطة الانتداب مع الحركة الصهيونية منذ وصول المندوب السامي البريطاني الأول هربرت صموئيل والذي جعل هدف حكومته (وهدفه الشخصي) تحقيق وعد وزير الخارجية البريطانية بلفور. خليل بيدس عرف السجون والمعتقلات البريطانية كثيرا، وأبعدته سلطات الانتداب عن وظائف شغلها في مراحل مختلفة من ذلك العهد وقد سجَل كثيرا من أفكاره عن تلك السجون البريطانية في كتابه "أدب السجون" الذي ضاع للأسف مع النكبة الكبرى عام 1948.
ميزة تجربة خليل بيدس في الأدب الفلسطيني وفي الثقافة عموما هي بالذات في شموليته وتنوع إنتاجه في مجالات الكتابة كلها، وهو تنوع لم يكن وليد الرغبة المزاجية بقدر ما هو نتاج اهتمامات الكاتب التي شملت مجالات لا تحصى وتجاورت مع اهتمامه الأساس بوطنه فلسطين وما كان يواجهه في تلك الأيام من مخاطر ومؤامرات، كان الراحل يضعها في أول اهتماماته خصوصا وقد كرَس جلَ وقته وسنوات حياته في موقع الوطني الفاعل والمثقف العضوي الملتزم بقضية وطنه ومصير شعبه.

 استحضر موهبته الأدبية في إبداع روايته "الوارث" عام 1920 

















أهم محطاته الأدبية والثقافية
تمثلت أهم محطات بيدس الأدبية والثقافية في ريادة الرواية، ثم في الترجمة وكذلك في أدب الحياة وما يتصل بوطنه، ولعلَنا لا نغالي حين نؤكد أن تجربته مع اللغة والأدب الروسيين كانت ملمحا مهما بل أساسيا من ملامح تجربته كلها، وهي تجربة اغتنت بنصائح الأديب اللبناني الشهير ميخائيل نعيمة الذي كانت له الاهتمامات ذاتها. نتحدث عن هذه المسألة دون أن ننسى بالطبع دوره في مجال التربية والتعليم وهو الذي عمل لسنوات في هذا المجال وأنتج كتبا وبحوثا هاما في المناهج وما يتعلق بعلوم اللغة وغيرها.
حياة خليل بيدس شهدت بعد النكبة محطات انتقال متعددة أهمها وصوله للعاصمة الأردنية عمان لفترة ثم انتقاله إلى بيروت ليعيش بجوار أبنائه إلى يوم رحيله عن عالمنا عام 1949 أي بعد عام تقريبا من نكبة وطنه فدفن بعيدا عن الناصرة أو القدس.

ستتذكر الأجيال الفلسطينية خليل بيدس دائما باعتباره علما من أعلام فلسطين بما أثرى به المكتبة العربية من مؤلفات وبحوث غزيرة وبما قدَمه من تاريخ كفاحي من صباه الأول وكفاحه ضد التسلط العثماني ومن بعده الانتداب الفلسطيني والذي رآه بعين المثقف انتدابا ليس له من غاية سوى تنفيذ وعد وزير خارجية بريطانيا بتحويل فلسطين إلى "وطن قومي لليهود"، الأمر الذي شرع في تطبيقه المندوب السامي البريطاني الأول هربرت صموئيل ومن جاء بعده وهو الأمر الذي دفع الكاتب الراحل خليل بيدس يدفع من حريته وعمله أثمانا باهظة لم توقفه عن أداء واجبه.
هو أحد رواد الكتابة الوطنية والتربوية، ولكنه أيضا مؤسس وصاحب ومحرر مجلة "النفائس"، والتي أعاد إصدارها بعد ذلك باسم "النفائس العصرية" والتي ساهمت بجهد وفير في تعريف القراء والمثقفين بالآداب في فلسطين والبلدان العربية ورعت كتابات وإبداعات هؤلاء الكتاب ومنحتهم فرصا كبرى في الانتشار الواسع.
خليل بيدس هو بكل المعاني أحد رواد النهضة والتنوير العرب، عاش جادا ومكافحا في وطنه كما في اغترابه، وواجه بشجاعة الغزو الأجنبي لوطنه فلسطين وللوطن العربي فكان مثالا للالتزام الحيوي الذي يواجه العسف والظلم بالسعي المثابر لاستنهاض الحالة الحضارية لبلاده والمساهمة في تقدمها في مجالات الحياة كلها ومات غريبا ولاجئا بعيدا عن مسقط رأسه في فلسطين ليظل حاضراً في وجدان أهله وفي سجل الخالدين من الكتاب والمبدعين الفلسطينيين على مر أجيالهم وتعاقب أحوالهم.


# خليل بيدس - رائد الترجمة الروسية العربية




الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.