}

أنطونيو ماتشادو.. الطريق ما تصنعه خطانا

ميسون شقير ميسون شقير 22 فبراير 2020
استعادات أنطونيو ماتشادو.. الطريق ما تصنعه خطانا
في مثل هذا اليوم رحل الشاعر أنطونيو ماتشادو
في مثل هذا اليوم (22 شباط/فبراير) رحل الشاعر الذي قال لنا إنه لا طريق، فالطريق هو ما تصنعه خطانا، تاركا لنا خطاه على صفحة الماء.

ولم أكن أعرف، أنا الدمشقية القادمة من بلاد حفرت قلبي على حجر، أني سأكون مثل الشاعر الذي قرأته صغيرة، والذي كسر قلبي رحيله وحيدا منفيا بينه وبين قلبه الذي تركه في مدريد، "ضربة حجر".
في مثل هذا اليوم رحل أنطونيو ماتشادو الذي قال عنه الشاعر الشهيد لوركا بأنه «وديع وصارم كشجرة إسبانيّة عتيقة» تاركا لنا أوراق أغصانه الصفراء كقصائد تعرفنا نحن السوريين المبعدين عن حياتنا وملامحنا، قصائد كتلك التي وجدوها في جيب سجين عاشق، ترتق ثقب روحه، لكنها تثقب قلوبنا.


في مثل هذا اليوم رحلت شّجرة كان ظلها يحمي الشعب الإسباني من شدة حر شمس إسبانيا، شجرة قطعها انتصار الديكتاتور الفاشي فرانكو، كما قطعنا انتصار الطاغية، و"شلعها" فرانكو عن الأمل والشعر والوطن والحياة، وجعلها ترقد اليوم في مقبرة «كوليور» بفرنسا، لكن العصافير والنحل الذي تأتي إلى زهور مقبرته ما زالت تردد قصيدته التي كتبها في عشق بلاد أكلت قلبه.

آه! أيّتها الأرض الجاحدة والقاسية

يا أرضي أنا.

يا قشتالة

إنّ مدنك المخرّبة تجترّ حزنك الدّفين

الذي يعمر وحدتك المعتّمة

قشتالة الوجع

أرض الأبديّة

قشتالة الموت!

ولم يزل الناس يأتون إلى المقبرة التي نقشت عليها أبياته

عندما ستأزف ساعة السّفر الأخير

وتبحر السّفينة التي لن تعود

ستشاهدونني على ظهرها بأمتعتي الضّئيلة

شبه عار وأنا ألهو كأطفال البحر.

 هذه المقبرة التي يوجد بجوارها صندوق بريد بسيط، أوصى به الشاعر قبل أن يقتله منفاه، صندوق بريد أراده للجميع كي يتركوا له، ولأنفسهم، فيه، بعضا من الجراح والشعر وأزهار الحرية الجافة، كي يترك أولئك الذين يعيشون المنفى أو هذه النسخة المزورة عن الحياة، الذين وجدوا بعضا منهم في شعره، الذين كتب لهم، كي يترك كل أولئك ماء أرواحهم فلا تجف روحه

 الذين يعيشون ويعملون،

 يعبرون الحياة وهم حالمون

 وثم 

في يوم ما،

وكآخرين كثر

يمضون إلى ما تحت التّراب

 في مثل هذا اليوم وجد شقيقه الشاعر رامون ماتشادو الذي كان قد اختلف مع ماتشادو سياسيا، والذي جرحه جدا هذا الشرخ بينه وبين أخيه، وجد مقطعا شعريا مكتوبا على ورقة "مجعلكة" محشوة في جيبه

تلك السّماء الزّرقاء.

وشمس الطّفولة هذه.

وكأنه فقط أراد أن ترافقه سماء قشتالة إلى قبره، هي وشمس أشبيلية التي لا تذبل.
وُلد أنطونيو ماتشادو رويث في 26 تموز/يوليو 1875 في مدينة أشبيلية الأندلسية التي عاشت حقولها في قصائده.
وفي 22 شباط/فبراير عام 1939، وفي بلدة كوليور الفرنسية، رحل مهزوما، مخذولا، مشرداً، مطارداً، من قبل قوات فرانكو الفاشية التي انتصرت على الجمهوريين الإسبان، محققا نبوءة قصيدته

ضربة بعد ضربة

بيت شعر بعد بيت

مات الشاعر بعيداً عن وطنه

يواريه ثرى بلد مجاور

ومن بعيد

رأوه يبكي


نحت لـ أنطونيو ماتشادو 

















طيلة حياة ماتشادو القصيرة كفراشة، لاذ الطيب الحكيم بالشعر، كما تلوذ العصافير بالأغصان، ولاذ أيضا بالناس الطيبين البسطاء الذين كان يحسهم دائما أقرب إلى روحه، وأنهم بفطريتهم يعرفون أكثر مما نعرف.
ولربما لم يكتب أحد عنهم بتلك الحساسية الطاعنة بالرقة، وذاك التواضع الطاعن بالتعفف، مثلما كتب ماتشادو

كلّما صادفني قرويّون

 أفكّر في كلّ الأشياء التي يعرفونها

 والتي نجهلها،

ويدهشني كم لا يهمّهم معرفة ما نعرف.

وغيمة بعد غيمة، وقصيدة قصيدة، تحول أنطونيو ماتشادو إلى أحد  أهم شعراء إسبانيا في العصر الحديث، ولم يكن ذلك لمجرد أنه من جيل 1898 الذي يضم خوان رامون خيمينيث ورامون ديل بايي انكلان؛ ولا من أجل ريادته على جيل 1927 الذي ضم شعراء عظام مثل غارثيا لوركا، ورفائيل ألبرتي، وميغل إيرناندث، وليون فيليبي، وغيرهم من رموز الشعر الإسباني، بل إن البساطة والعمق والدهشة التي كتب بها ماتشادو قصيدته التي اختزلت هموم الناس وآلامهم، صدقهم، أحلامهم، والتي عرت أكذوبة قيم الطبقية الاقتصادية، والنخبوية الفكرية، هي التي جعلت اسم ماتشادو محفورا في قلب كل إسباني.

لم يكن الظهور والاستعراض يعني لماتشادو شيئا، كان متعففا، واثقا بالشعر والناس، وبكل تلك القيم التي يحملها، وعلى العكس من الكتاب الإسبان الذين عاصروه، بقي ذلك الرجل البالغ الرصين، وشكل في العمق ضمير الإنسان الإسباني المختبئ في صدره وليس المتبجح به.
وما بين «عزلات» في 1903 في سنّ الثامنة والعشرين، و«حقول قشتالة» في 1912، والكثير من الكتابات الفلسفيّة ومسرحية «خوان دي مورينا»، عاش ماتشادو متنقلا على ما أسماها "بغلة الشعر العجوز" بين قشتالة التي تعمر في روحه حجارتها، وبين باريس التي يقول إنها أنضجت تجربته على نار شعرائها وفلاسفتها، حين كان يافعا وحين عاش الشعر حادا، لاذعا، بسيطا، حقيقيا، جارحا، طيبا، عذبا، وملذوعا.
وبعد عودته إلى مدريد، شغل وظيفة أستاذ للّغة الفرنسيّة في الرّيف، ثمّ في مدريد سنة 1936، وفي هذه الفترة تعرف على ميغيل إينانيمو، رئيس جامعة سالمنكة، الذي علمه أنّ «الحقيقة هي ليست تلك التي تجعلنا نفكّر وإنّما تلك التي تجعلنا نعيش»، والذي أثر كثيرا في شخصية وشعر ماتشادو وجعله "منفتحا على الإحساس والشّعور أكثر من انفتاحه على المعارف المكتسبة"، وجعله يقول مقولته الشهيرة «إنّ إشاعة الثقافة وحمايتها لأمران متلازمان ومحكومان بهدف واحد: تنمية الكنز البشري من الوعي المتيقّظ في العالم».
في هذه الفترة اشتعلت الحرب الأهليّة الرّهيبة التي استمرّت من 1936 إلى 1939، ولم يكن لشخصية مثل ماتشادو إلا أن تدافع بكل ما فيها عن الجمهوريّة الإسبانيّة، عن الفكر الجمهوري بحد ذاته، بحماس طاعن بحب إسبانيا، وبحب الناس، وبكره غريزة القتل لدى الفرانكويين، فقد عاش نضاله ضد الفاشية بروحه وقلبه ودمه، عاشه بشعاره: «مهما كانت قيمة الإنسان، لن تكون له قيمة أرفع من كونه إنساناً». وانخرط في المقاومة وبدأ يكتب قصائده عن الحرب.

في مثل هذا اليوم رحل الشاعر، وتشظت فقاعة الصابون التي كان ماتشادو يريد أن يكون مثلها. لكنه كان كما أراد لقصائده، أن تكون: لماعة متلألئة وشفافة، وكانت مراياه التي تركها تحيا في أزقة قرطبة وأشبيلية ومدريد، وفي كل الأزقة الضيقة في العالم.

لم أطمح يوما أن أكون ممجّدا

ولم أسع كي تكون أغانيّ

محفورة في ذاكرة النّاس

ولكنّني جبلت على محبّة العوالم النّاعمة

الشفّافة والرّقيقة

الشّبيهة بفقّاعات الصّابون

أحبّ أن أراها تتصاعد

متلوّنة بألوان الشّمس والأرجوان

تطير تحت السّماء الزّرقاء

ترتجف أحيانا

ثمّ

تتشظّى

 في مثل هذا اليوم رحل الشاعر الوحيد بعد رحلة دامت شهرا قضاها حافيا في جبال الشمال الباردة، هاربا من قوات فرانكو التي حاصرت مدريد واحتلتها، وبعدها هاربا من نفس القوات الفاشية التي وصلت إلى برشلونه، رحل بعد عشرين يوما من دخوله فرنسا، عشرين سهما من خروجه من إسبانيا، عشرين مشنقة من اليأس والهزيمة، رحل غير قادر على مواجهة صقيع المنفى، ولا على تحمل حطب الحنين الجاف وهو يشتعل في أصابعه.

في مثل هذا اليوم رحل الشاعر الذي سبقنا إلى قبرنا هنا

رحل

لا السماء انكسرت

ولا اهتزت الأرض

 من سقوط النيزك

تحت التراب. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.