}

رسمي أبو علي إذ يرثي صديقه تيسير سبول!

هاني حوراني هاني حوراني 26 يناير 2020
استعادات رسمي أبو علي إذ يرثي صديقه تيسير سبول!
تيسير سبول ورسمي أبو علي
في خريف 1985، كنت أستعد لإصدار محور خاص عن تيسير سبول، الشاعر الأردني الذي مات منتحراً، وذلك بمناسبة اقتراب الذكرى الثانية عشرة لغيابه المأساوي، يوم 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1973، وذلك لنشره في مجلة "الأردن الجديد" التي كانت تصدر في قبرص. حينها كان رسمي أبو علي قد شرع في نشر "الطريق إلى بيت لحم" روايته، أو بالأحرى سيرته الذاتية على حلقات في صحيفة "النهار" البيروتية. ولما طلبت منه أن يكتب عن صديق شبابه المبكر تيسير سبول، لم يتردد في تزويدي بمقطع من ثماني صفحات، لم يكن قد نشر بعد، من أحد فصول الرواية، وكان يحمل عنوان "عمان"، ويتوقف فيه رسمي عند السنوات البوهيمية من حياتهما، في ستينيات القرن الماضي. لكن أهمية هذا المقطع أنه يرسم بورتريهاً ذاتياً عن نفسه وآخر عن تيسير سبول، صديقه اللدود، أو بالأحرى نقيضه من حيث الطباع والنظرة إلى الحياة.

درس رسمي وتيسير في المرحلة الثانوية في كلية الحسين، وكانت أكبر مدرسة ثانوية في العاصمة الأردنية حينها. يقول رسمي: "كنت أراه من بعيد.. وكان في الصف الأدنى لصفي مباشرة، ولذلك لم يكن ثمة مجال للتعارف، يضاف إلى ذلك أنه كان من سكان مدينة الزرقاء.. وكنت أراه مع بقية طلاب الزرقاء في شاحنة عسكرية كانت تأتي خصيصاً لنقلهم.. إذ أن تيسير كان يقيم عند أخيه الأكبر والذي كان يحتل رتبة عسكرية مرموقة في ذلك الحين"...


الأحول والدميم..!!
عن لقائهما الأول في صيف عام 1959، في مطار عمان القديم، بماركا، حيث كان صديقهما الثالث، صادق عبد الحق، يعمل في الأرصاد الجوية يصف رسمي فحوى حوارهما الرئيسي والنظارات الملونة التي كانا يخفيان بها عيونهما!
يقول رسمي:
"كان يضع نظارتين طبيتين خضراوين كما كنت أفعل، وإن كانت نظاراتي سوداوين. وعندما تصارحنا.. قال لي بأنه عرف أنني أضع نظارة ملونة لإخفاء عيب ما وإن لم يستطع أن يحدده. قلت له الشيء ذاته واعترفت بأنني حساس من حول في عيني اليمنى، فاستغرب وقال إنه لا يلاحظ ذلك، فخلعت نظارتي وقلت له انظر، فأخذ يضحك ناشجاً على طريقته وهو يردد: يا لك من حساس – إنه شيء لا يكاد يلحظه أحد. فقلت له: ربما، لكني أنا ألحظه. وجاء دوري لأسأله عن سره، فقال إنه أمر واضح: انظر، فنظرت وقلت أني لا أرى أي شيء غير طبيعي. قال: كيف، فأولاً عيناي جاحظتان أليس كذلك؟ قلت: ولكن هذا أمر عادي – أعني أنه أنت – قال: طيب! وهذه الشروش الحمراء في العينين هل هي طبيعية هي الأخرى؟ ألا تستحق أن يخفيها المرء بنظارة ملونة؟".
كان واضحاً – يقول رسمي – أن المشكلة (...) قائمة في حسنا الجمالي وتوقنا الغريزي إلى الكمال!!
في لقائهما الثاني، وكان ذلك بعد أسبوع من لقائهما الأول، وفي المكان نفسه: شرفة مطار ماركا، تحدث تيسير عن خططه للانتحار، وهما يحتسيان البيرة.
كتب رسمي:
"في تلك الجلسة حدثني عن انتحاره المزمع وكيف أنه بعد أن درس جميع أشكال الانتحار وجد أن أفضل طريقة هي أن تضع فوهة المسدس على صدغك الأيمن في مركز تقاطع الأعصاب وتك – وينتهي كل شيء مرة واحدة دون ألم، دون ألم بالمرة وهذا هو أهم جزء في الموضوع، لأنني – قال - لا أطيق الألم الجسدي".
ويعقب رسمي: كان يتحدث بألفة تامة عن الموضوع، فاعتقدت بلا حقيقة الموقف، وخيل إليّ أنها واحدة من تجلياته الوجودية التي لم تكن تتوقف.. ومن ثم يجري حوار طريف بين رسمي وتيسير حول الموقف من الانتحار.
لم أستطع أن أستوعب شيئاً – يقول رسمي – "خاصة عندما سألني تيسير فيما إذا كنت أفكر بالانتحار، فصرخت: أنا؟ مطلقاً لم أفكر بذلك ولن أفكر بذلك في أية لحظة. فاستغرب تأكدي من الأمر وعاد يلمّح: فهمنا أنك لم تفكر بالانتحار، لكن كيف تجزم أنك لن تفكر في ذلك مستقبلاً؟- يضيف رسمي: لم أعرف كيف أجيب، ولكنني حاولت أن أشرح بغموض بأن موضوع الموت بعيد كلية عن تفكيري".
وحين حاول رسمي أن يشرح لماذا كان الموت بعيد كليا عن تفكيره، وكيف أن كبار السن في أسرته يعمرون طويلاً حتى يبلغوا التسعين أو أكثر، حيث ينسحبون ببطء وهدوء "بعد أن يكونوا قد ماتوا في أذهاننا منذ زمن بعيد،" يضيف: "لذلك فإنني حقاً لا أعرف الموت – لا أعرف صدمة الموت المفاجئ حتى الآن". لكن تيسير سبول يجادله فهو يقول إن هذا الأمر ينطبق على أسرته أيضاً، "فوالدي – قال – بلغ الثمانين ولا يزال حياً يرزق، أما والدتي فأظن أنها ستعيش حتى تبلغ المائة – أترى؟ إنه ليس سبباً كافياً لعدم الانتحار: طول عمر الآباء والأمهات والأجداد!".
إنه حقاً لحوار غاية في الطرافة، بل أكثر من ذلك من منظور زماننا، حين نقرأه بين رسمي المحب للحياة، والذي توجس مؤخراً من قرب نهايته، حين كتب أنه إذا وصل إلى نيسان/أبريل فإنه قد نفد، وبين تيسير الزاهد بحياته وهجس مراراً بفكرة انتحاره حتى نفذه فعلاً في أواسط تشرين الثاني/نوفمبر 1974.
لم يكن الانتحار الموضوع اليومي بين تيسير ورسمي وإنما "النساء والأفكار والحياة وكل ما يخطر ببال شعراء دخلوا لتوهم جحيم الحياة العربية في ذلك الزمان..". يقول رسمي: "أستطيع المضي بلا توقف وإلى ما لا نهاية سارداً وقائع وتفاصيل تلك الفترة من حياتنا"، وهنا ينتقل إلى الحديث عن انتماء تيسير العقائدي إلى حزب البعث، وكيف أنه في الوقت نفسه كان "ناصرياً متحمساً، وكان عليه في مرحلة ما أن يتمزق، عندما اصطدم عبد الناصر بالحزب، ولم يكن يعرف الموقف الصحيح" الذي كان عليه اتخاذه.
أما رسمي فقد كان يتابع بلا حماس المناقشات السياسية التي كانت تدور بين تيسير وصديقهما الثالث، صادق. وحين كان يسأله تيسير وأنت ما رأيك كان رسمي يجيبه بسخرية قائلاً: "وما فائدة رأيي؟ لا رأي لمن لا يُطاع"، مما كان يثير جنون تيسير الذي كان يحاول عبثاً أن يفهم "لماذا أنا إلى هذه الدرجة عزوف عن أمور تشغل الجميع" – يقول رسمي.
ويشرح قائلاً: "كنت أحاول أن أفسر له – لتيسير – أنني فعلاً لا أحس بهذه الأشياء – ولو كنت واعياً ما فيه الكفاية لقلت له بأنني كنت إنساناً – تحت سياسي. فحتى يكون المرء سياسياً لا بد وأن يمتلك شيئاً ما يدخل به اللعبة (...) كنت أنتظر حتى أمتلك خبرة ما، معرفة ما، موقفاً ما، رؤية ما"... أما في ذلك الزمان – يضيف رسمي – "فلم أكن أمتلك إلا صبوات تتجه أولاً نحو النساء ثم الكتب والموسيقى –هذه كانت سياستي – كنت مشغولاً بذاتي مدفوناً في أعماق بئرها، وكان يجب أن تمر عشر سنوات على الأقل، حتى أستطيع الخروج من المونولوج إلى الديالوج".
ربما تفسر الفقرات المارة عن المرحلة المبكرة من شبابه، تزعمه مجموعة شعراء وكتاب "الرصيف" في بيروت، في ذروة الاحتدام السياسي والعسكري الذي عرفته المقاومة الفلسطينية، عشية وإبان الاجتياح الإسرائيل للبنان في صيف عام 1982.
تحدث رسمي عن الاهتمامات المشتركة التي جمعته وتيسير سبول على صعيد الأدب والموسيقى، وعن ذائقة تيسير الموسيقية والأدبية. فالأخير كان يكره سارتر وينفر من "عالمه الصحراوي الخاوي" في حين كان يحب كامو كثيراً، وكان يصفه باعتباره صديقه الشخصي "لأنه أخلاقي.. رجل يؤمن بالقيم". كما أنه لم يحب بيتهوفن لأن "عظمته وقدرته الهندسية أمران لا إنسانيين"، لكنه كان "يعبد تشايكوفسكي"، وخاصة في الباثيتيك – السمفونية السادسة. وفي أحد المقاطع الحزينة الرقيقة كان تيسير يصاحب الموسيقى موقعاً أداءه مغنياً "أيا ماما.. أيا ماما" و"كان الحزن يسيل من عينيه عند ذلك المقاطع".
ينتهي رسمي من مقالته عن تيسير سبول بالحديث عن وعد قطعه له بأن يكتب عن انتحاره كتاباً تحت عنوان: "تيسير سبول: شاعراً وشهيداً"، وأضاف: "ولا أزال عند وعدي".
كان ذلك في أواخر عام 1985. ونعلم الآن أن رسمي لم يف بوعده. والمؤكد أنه كان وعداً صادراً عن حب وعاطفة وليس عن تفكير واثق. فرسمي المفعم بحب الحياة والنافر من الموت ما كان يستطيع أن يؤلف كتاباً عن صديقه تيسير الذي لم يكتف بالتنظير للانتحار وإنما مارسه دونما تردد، تاركاً كدمة في روح رسمي وكل من عرفه في حياته القصيرة جداً.
رحم الله رسمي وتيسير.

*كاتب ورسام

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.