}

ذكرى ميلاد موليير.. صانع الكوميديا العابرة للزمن

مناهل السهوي 15 يناير 2020
استعادات ذكرى ميلاد موليير.. صانع الكوميديا العابرة للزمن
مُولْيير (15 يناير 1622 - 17 فبراير 1673)
يُقال إنه مات على خشبة المسرح، في مشهد تراجيديّ أخيرٍ عكس ما فعله طوال حياته في إضحاك المتفرجين بمسرحياتٍ لا يمكن وصفها سوى بالتحفِ التي غيرت المسرح الكوميديّ الفرنسي إلى الأبد. سيتجه المؤلف الفرنسي موليير المولود يوم 15 كانون الثاني/ يناير 1622 عكس رغبة والده نحو الكوميديا كأنّ التجارب العظيمة تحتاج قطيعة مع الواقع، مواجهةً له وتركاً، وعكس المتوقع منه في أن يغدو محامياً أو يعمل في تجارة النسيج كما والده، وسيصبح ممثلاً ومؤلفاً كوميدياً، ليترك الأدوار المأساوية ويتفرغ بشكلٍ نهائي إلى الكوميديا لتبقى مسرحياتٌ كطرطوف والبخيل ومريض الوهم ومدرسة الزوجات علاماتٍ فارقة في المسرح الفرنسي.


صناعةُ الضحك
فعل الإضحاك خطير وعلى عكس ما يبدو عليه من البساطة فهو يحمل داخله مخاوف البشر ورغباتهم ومشاكلهم التي تتحول إلى فعل بشريّ ساذج إن ما أوصل المتفرج إلى الضحك، وهذا ما صنعه موليير طوال خمسين عاماً من خلال تكريس حياته لصناعة شخصيات خالدة تمتلك خصائصها وماضيها ومستقبلها بعيداً عن الابتذال الذي كان شائعاً في تلك المرحلة من القرن السابع عشر.. إنّه الضحك الراقي والثمين الخارج من المواقف البشرية التي يعرفها المتفرج، وليتمكن المسرحي الفرنسي من خلق هذه الحالة العالية من الإضحاك عمد إلى استخدام كوميديا الكلمات والحركات والمواقف مضاعفاً من مصادر الضحك في مسرحياته من دون الاعتماد على جانب واحد، وهو ما يجعل هذه المواقف ثرية ومدهشة دافعةً المتلقي إلى تفاعل حقيقي معها من خلال الأزياء المسلية والغريبة لبعض الشخصيات أو حتى وضع هذه الشخصيات في مواقف مفاجئة مما يدفعها لارتكاب ردات فعلٍ غير متوقعة ومضحكة.
اعتمد موليير كذلك على الكلاسيكية كمنهج لأعماله، وهنا يعني خطة العمل الدرامية من العرض والعقدة والحل، لكنه تخطاها بمهارته في التلاعب بهذه المراحل، فلا يكفي المشهد الأول عند موليير أو حتى الثاني لفهم فكرة العمل وقد تقلب النهاية موازين العرض ليمنح خياله تلك اللمسة الساحرة من وهم الحياة الواقعية، دون أن ننسى مقدرته على تنظيم الحركة على الخشبة وهي ليست بالهينة داخل أعماله، فالمخارج والمداخل والديكور تحتاج إلى مهارة عالية وتنظيم دقيق.


شخصياتٌ استثنائية
سيخلق الكوميدي الفرنسي شخصيات مألوفة كالبرجوازيين والخدم والنبلاء ليصنع تركيبة اجتماعية قريبة من المتلقي يعالج داخلها العلاقات الأسريّة بكل ّصراعاتها ومشاكلها غير متوانٍ عن السخرية من النبلاء وإظهار كبريائهم أو حيلهم لصناعة أمجادهم في تركيبة ذكية ومضحكة معتمداً دون شك على الخدم وخصوصاً الخادمات لإظهار التفاوت في الطبقات الاجتماعية، حيث امتلك شخصيات متنوعة ومستقلة، لا تشبه أيّ منها الأخرى. لم يترك شخصية إلّا قدمها ابتداءً من الأزواج والزوجات، وصولاً إلى المتدينين والبرجوازيين، مروراً بالأبناء والخدم والفلاحين، دون أن يقع في فخ التشابه مرة ودون أن يترك فسحة تشبه الأخرى، كأنّ في رأسه مدينة كاملة يُخرِج منها شخوصه التي تملك كلّ واحدةٍ منها طابعها الخاص، لمستها، علامة تميزها، وتجعلها متفردة، لكن جميع هذه الشخصيات سيجمعها شيء واحد وهو أنها إمّا بغيضة أو لئيمة، إنّها شخصيات تثير الاشمئزاز وتقدم صورة عن الانحطاط والرذيلة، ليست بينها شخصيات محببة ذات طباع حسنة، مقدماً صورة رهيبة عن الانحطاط والتفكك الأسري والأزمات الاجتماعية والإنسانية مانحاً كلّ هذه الكآبة والمواقف الصادمة جرعة عالية من الكوميديا حتى تغدو قادرة على استيعاب هذه الآلام ليغني كلّ ذلك بحيوية أسلوبه فهو يوصل بدقة ما يودّ قوله للقارئ والمتفرج، يختار الكلمة الدقيقة والعبارة التي تأتي في الوقت والشكل المناسبين، إنها اللغة العالية والخاصة التي تؤسس لشعور غير بسيط ودائم لدى المتلقي.
ما يجعل أسلوب موليير مربكاً هو أنه غير محدد ولا يمكن التقاطه كأنّ كلّ شخصية تمتلك أسلوبها الخاص، وهذه العبقرية في صنع العديد من الأساليب هي السبب في إثراء شخصية موليير كمؤلف وممثل معاً.

مشهد من إحدى مسرحيات موليير 


















زواجه والتشهير به بعد موته
كان موليير متزوجاً من أرماند بيجار التي تصغره بحوالي عشرين عاماً، وهي ممثلة ناجحة وجميلة ذات شخصية استثنائية وقوية، وهذا ما جعل من علاقتهما مادة خصبة للتشهير به بعد موته. مصدر الشائعات نُشر في كتيّب ظهر عام 1688 في فرانكفورت بعد خمسة عشر عاماً من وفاة موليير، لم يظهر اسم المؤلف على الكتيّب الذي احتوى الكثير من الاتهامات الموجهة للكوميدي الفرنسي وزوجته ابتداء من علاقته بالعديد من الممثلات اللاتي عملن معه واتهامه بسفاح القربى من خلال علاقته بزوجته والتي ذهب صاحب الكتيّب ليدعي أنها ابنته بعد أن كان على علاقة طويلة مع والدتها مادلين بيجار. تعلقها به القادم من كونه الرجل الذي رباها وزواجهما لاحقاً كان مادة خصبة لهذه الشائعات التي لا يؤكدها أي دليل، وامتد هذا الخطاب من التشهير إلى اتهامه بعلاقة مع أحد الممثلين علاوة على أن مجهولاً كان يكتب له أعماله، متهماً موليير بأنه ليس أفضل من شخصياته وأنه ارتكب أموراً أفظع مما قدمته شخوصه المثيرة للتقزز. لكن كلّ ما جاء في الكتيّب ما كان من الممكن الجزم بحدوثه خاصة أنه نشر بعد وفاته بخمسة عشر عاماً ويبدو خطاباً صادراً عن غيرة وكرهٍ شخصيّ للكوميدي الفرنسي وزوجته.
بحياة ثرية وموت ملاحق بالشائعات صمدت أعمال الكوميدي الفرنسي الأشهر، ليؤكد مقولة أن الأعمال وحدها من تبقى، وأعمال موليير صمدت أمام الزمن ورسمت خارطة جديدة للمسرح الكوميدي الفرنسي متجاوزة كلّ الاتهامات والشائعات لتترك داخل كلّ قارئ ومتلقٍ ابتسامة وضحكة تؤكد قدرة الكوميديا على جعل جميع الموضوعات قابلة للطرح والسخرية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.