}

مودلياني في ذكرى ميلاده: فنان الجسد العاري بكامل فجاجته

سارة عابدين 13 يوليه 2019
استعادات مودلياني في ذكرى ميلاده: فنان الجسد العاري بكامل فجاجته
(مودلياني: جين هيبوتيرن)
"كل عمل فني هو عمل عظيم مثل الطبيعة، من وجهة نظر واقعه الجمالي، ومن ثم ليس فقط تطوره وإتقانه، ولكن من وجهة نظر ما حركه وأثاره في الفنان".
مودلياني


يعتبر مودلياني من أهم فناني مدرسة باريس، وتأتي أهميته من عمله على موضوعين من أهم الموضوعات الدائمة في تاريخ الفن وهما البورتريه، والفيغر العاري. تتميز أعمال مودلياني بمسحة من الكآبة، مع نسب طولية ووجوه تشبه الأقنعة متأثراً بالنحات الروماني كونستانتين برانكوزي، وبالفن الأفريقي.
شكل جسد المرأة العاري الذي رسمه مودلياني ثورة حقيقية، كونه قام بتصوير المرأة بشكل مخالف لما اعتاد عليه الفنانون، بطريقة تعكس حرية المرأة الجسدية، وليس تصويرها بالصورة النمطية التي ترضي الرجل، ولكن بصورة وحشية تظهر هويتها الجنسية بشكل فج وبدون تزيين، الأمر الذي ربما يرتبط بشخصيته البوهيمية، ونمط حياته البوهيمي المدمر الذي شمل حياة جنسية غير مستقرة بالإضافة إلى تعاطي المخدرات والكحول.


أفكاره الرئيسية
تحقق بورتريهات مودلياني مزيجا فريدا من الخصوصية والتعميم، بحيث تظهر صور

شخوصه، كأنها ماركة مسجلة له، بالرقاب والوجوه الطويلة، والعيون اللوزية التي تضفي عليهم مسحة من العزلة والتوحد. وربما كانت أعمال النحات الروماني برانكوزي أهم تأثير منفرد على مودلياني وتطور أعماله، لأنه بالرغم من شهرة مودلياني كرسام ومصور، إلا إنه ركز في بداية حياته المهنية على النحت، حتى أن بعض مؤرخي الفنون اعتبروا النحت مدخله الأول لعالم الفن.
صنع مودلياني مجموعة من التماثيل بين عامي 1909- 1914، وقد وصلنا منها 25 قطعة من الحجر الجيري وقطعة خشبية واحدة، ويبدو تأثير تلك التماثيل كبيرا في عمله كرسام، ما ساعده في الوصول إلى ذلك الشكل المجسم والملموس في لوحاته، ومن خلال فنه تمكن مودلياني من سد الهوة بين اللوحة الإيطالية الكلاسيكية، والحداثة الفنية الحديثة، بالرغم من طغيان حياته المأساوية ومرضه على إنجازاته كفنان.


حياة مودلياني
ولد مودلياني في 12 يوليو/ تموز 1884، وكان أصغر أربعة إخوة ولدوا لأبوين يهوديين بمدينة ليفورنو الإيطالية، التي كانت تعتبر مركز تجمع اليهود في إيطاليا، وقبل فترة قصيرة من ولادته وقعت أعمال عائلته التجارية في أزمات مالية أجبرت والده على إشهار إفلاسه.
عاش مودلياني ودرس الفن في إيطاليا بتشجيع من أسرته المنفتحة، لكن في بداية شبابه عام 1906 شعر أن الحرية الفنية الأكبر سيجدها في فرنسا، التي كانت هدفا لأغلب الفنانين والشعراء في ذلك الوقت. بعد فترة قصيرة من وصوله لباريس بدأ مودلياني في التمعن تدريجيا في الفن المعاصر، وعاش في أماكن مختلفة أشهرها حي مونمارتر البوهيمي معقل الفنانين، وبدأ بعرض أعماله وبيعها لأول مرة بوساطة راعيه الفني وصديقه بول ألكسندر الذي اشترى العديد من لوحاته. وفي فرنسا توسع مودلياني في رسم الموديل العاري، الأمر الذي كان صعبا في إيطاليا المحافظة، خاصة مع صعوبة وجود فتيات يوافقن على الجلوس للرسم بالشكل الذي

يريده.
تأثر مودلياني في باريس بزيارة المتاحف المنتشرة هنا، وأهمها متحف اللوفر، ومتحف الإثنوغرافيا في تروكاديرو، تلك المتاحف التي ألهمته هو والعديد من فناني أوروبا، عن طريق الاطلاع على الفن المصري القديم والفن الأفريقي والفن الإيطالي المبكر، الأمر الذي قاده إلى تقدير أهمية الخط والتبسيط والتكثيف في اللوحات. بالإضافة إلى ذلك اكتشف مودلياني في باريس أعمال رينوار وديغا وغوغان، وأعمال الفنانين الأصغر سنا، مثل ماتيس وبيكاسو وسيزان، وكانت أعماله المبكرة لشخوص حزينة وألوان يطغى عليها الأخضر متأثرا بسيزان ولوتريك.
يقول ماسون كلاين، المنسق المساعد في المتحف اليهودي: "لا يمكن إهمال دور الفن القبلي وخاصة النحت الأفريقي في التأثير على طليعة فناني باريس في هذه الفترة، وفي تماثيل مودلياني لا يظهر تأثير الفن الأفريقي فحسب، بل فن الخمير وفن مصر القديمة وفن اليونان، وربما أيضا بعض الوجود الأيقوني للفن البيزنطي".
لسوء حظ مودلياني كانت رؤوسه المنحوتة غريبة للغاية ولم تجتذب أي مشترين، واستخدمهم كحاملات شموع عملاقة في الستوديو الخاص به حيث كان ينام ويعمل. توجد هذه الرؤوس حالياً بمتحف الفن الحديث بنيويورك. ومن الملاحظ أن النحت ساعده على التفكير في كيفية تبسيط خطوطه ونماذجه الفنية، والوصول إلى جوهر الموديل باستخدام أبسط الوسائل الممكنة.
بعد عقد كامل من انتقاله إلى باريس أصبحت مدينته وأصبح فناناً معروفاً بمجتمع مونبارنس الفني، وقام برسم العديد من الفنانين والشعراء والموسيقيين، وبالرغم من ذلك لم يجد دعما قويا من نقاد الفن، باعتباره يهوديا في فرنسا، بسبب انتشار معاداة السامية التي كانت معروفة في أوروبا.
عانت باريس في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الأولى من غارات جوية، وازدادت صحة مودلياني سوءا، فانتقل إلى نيس، وأنجز عدداً كبيراً من اللوحات هناك، ويذكر أصدقاؤه أنه كان ينهي اللوحة في جلسة واحدة تستمر عدة ساعات، لكن في غياب الموديلز المحترفين في نيس، رسم مودلياني أصدقاءه وعائلاتهم، وجيرانه والأطفال المحليين وأسرهم بألوان البحر المتوسط الدافئة.
عاد مودلياني إلى باريس مجددا عام 1919، بعد أن انتهت الحرب، وتحسنت حالته الصحية وعثر على ستوديو جديد يغمره ضوء الشمس، وكان سعيدا جدا بمكان إقامته وعمله الجديد.
هنا نظرة على أهم أعمال مودلياني في مسيرته الفنية الطويلة رغم حياته القصيرة:

اليهودية (1908)
كانت هذه أول لوحة رسمها وباعها مودلياني بعد استقراره في باريس، وقد اشتراها صديقه بول ألكسندر، وتؤكد اللوحة على البياض الصارخ لوجه الموديل، والذي يتناقض بشدة مع ملابسها، وشعرها الداكن، ما يظهر التوتر الداخلي للموديل على ملامح وجهها، ويشير إلى المشاعر المتراكمة خلف وجهها الشاحب. تلك المقاربات الكئيبة باللوحة، دعت النقاد إلى مقارنتها بأعمال الفترة الزرقاء لبيكاسو، والتي كانت تتسم أيضا بالكآبة والحزن.

الرأس (1910- 1912)
يظهر في هذه المنحوتة تأثير الفنان الروماني برانكوزي بقوة، إلا إن منحوتة مودلياني ليست من الرخام كأعمال برانكوزي، لكنها من الحجر الجيري الذي يعتبر أكثر ليونة وسهولة في

التشكيل، وأقل تكلفة. تشير ملامح الوجه إلى سمات التجريدية، في حين أن النسب الطولية خاصة في الوجه والرقبة، تذكرنا بتماثيل الفن المصري القديم، الذي يعتبر أحد أهم الفنون غير الغربية، المؤثرة على مودلياني. تشبه طريقة تشكيل العنق والأنف والعيون، طريقة رسم مودلياني للبورتريهات، ما يوحي بوجود صلة وثيقة بين أعماله كنحات وأعماله كرسام.

بورتريه لبيكاسو (1915)
كانت مشاعر مودلياني مختلطة نحو بيكاسو، وبالرغم من أنه كان ينظر إليه كمنافس، ويغار من نجاحه، لكنه كان معجبا بشخصيته الجذابة الموهوبة. تظهر كل هذه المشاعر المتناقضة في الصورة في ذلك التناقض بين اللونين الأصفر والبرتقالي، مع تطبيقات الألوان غير المتساوية، وضربات الفرشاة المتسارعة. مع ذلك تشير كلمةsavoir  والتي تعني المعرفة باللغة الفرنسية، إلى احترام مودلياني لحكمة بيكاسو وتجربته.

بورتريه لجين هيبوتيرن (1918)
عندما بدأت علاقة مودلياني بدارسة الفنون الصغيرة جين هيبوتيرن التي كانت تبلغ من العمر 19 عاما، كان أصدقاؤه المقربون يأملون أن تساعده الفتاة في كبح نزواته الجنسية، وتعديل نمط حياته غير الصحي، وبالرغم من عدم حدوث هذا، وانعدام أي تغيرات جوهرية في مودلياني وسلوكه، إلا إن لوحة مودلياني لحبيبته الصغيرة تشير إلى شعوره بالهدوء والسلام الداخلي بعكس التناقضات اللونية الصارخة في اللوحات السابقة لها.

***

بالطبع لوحات مودلياني للنساء هي الأكثر شهرة حالياً، وغالبا ما جعل هذه اللوحات أكثر تأثيرا وبقاء هو الاغتراب والعزلة وعدم الارتياح الذي يلف عوالم رسومه ووجوههم. وكتبت الروائية الروسية إيلينا إرينبرغ التي عرفت مودلياني في باريس "جميع وجوهه تشبه وجوه الأطفال، رغم أن لبعض هؤلاء الأطفال لحى، أو شعراً رمادياً، أو جسداً أنثوياً".
في النهاية يبقى مودلياني حلقة مهمة في سلسلة الفن الإيطالي، الذي حملة كإرث مستمر طوال الوقت، حتى دون أن يصرح بذلك، فهو رسام إيطالي عميق، مهتم بوضوح بتصوير لغة الجسد، وهي لغة الفن الإيطالي، وبالرغم من تحرج الجماهير في البداية من فجاجة نسائه ووضعياتهن، إلا إنه الآن يبقى مؤثرا بشكل كبير في تحولات رسم الجسد العاري في الفن المعاصر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.