}

ذكرى ميلاد والت ويتمان: "مثل آدم في الصباح الباكر"

نجيب مبارك 3 يونيو 2019
استعادات ذكرى ميلاد والت ويتمان: "مثل آدم في الصباح الباكر"
والت ويتمان
"إنّي أحتفي بنفسي، وأغنّي نفسي/ وما سآخذ به ستأخذون به/ وكلّ ذرّة فيّ، هي ذرّة فيكم"- هكذا يفتتح الشاعر الأميركي والت ويتمان قصيدته الشهيرة "أغنية نفسي"، واحدة من أجمل قصائد "أوراق العشب"، وكأنّه عن غير قصد يستبق الاحتفاء الأدبي الكبير الذي يشهده العالم هذه الأيام بمناسبة مرور 200 سنة على ميلاده (يوم 31 مايو 1819)، وهو فرصة أيضاً لاستعادة حياة وأعمال هذا الشاعر الإنساني الكونيّ، الذي نحن في أمسّ الحاجة إلى صوته الاستثنائي الفريد أكثر من أيّ وقت مضى.

مؤسس الحداثة الشعرية الأميركية
ولد والت ويتمان يوم 31 مايو 1819 من أسرة كثيرة العدد تنتمي إلى طبقة المزارعين. نشأ في بروكلين، بنيويورك، وحصل على تعليم محدود أثناء انضمامه إلى القوى العاملة لمساعدة أسرته وهو ما يزال في سنّ مبكرة. تعهّد تعليم نفسه بعصامية كبيرة، إذ نوّع قراءاته على نطاق واسع، وتعلّم تجارة الطابعات، ثمّ النجارة، وظلّ حتى ما يقرب من ثلاثين عاماً يعيش في نيويورك (مانهاتن) وبروكلين والمنطقة المحيطة بها. وبالتناوب مع العمل في الطابعة والنجارة والحقول، بدأ ممارسة مهنة الصحافة في سنّ الواحدة والعشرين، من خلال التعاون مع مختلف الصحف في نيويورك ونشر إحدى الصحف الأسبوعية.
من عام 1847 حتى عام 1848، قام برحلات كثيرة، أغلبها سيراً على الأقدام، عبر الولايات المتّحدة وكندا، وزار كلّ ولايات الجنوب والغرب تقريباً، واحدة تلو الأخرى، وكسب قوته من خلال ممارسة مختلف المهن الّتي تعلمها، خصوصاً التعاون مع الصحف. وفي عام 1855، توضّحت أمام عينيه مُثُله الشخصية، فاختار مهنة الأدب، ونشر كتابه الشعري الأوّل والوحيد "أوراق العشب"، وعلى الرغم من أنّ هذه المجموعة سوف تعرف مراجعات وطبعات كثيرة لاحقة، فقد أعاد نشرها ثماني مرّات طوال حياته، مضيفاً إليها ومنقحاً قصائد جديدة في

كلّ طبعة. وخلال الحرب الأهلية من عام 1862 إلى عام 1865، تطوّع ممرّضاً لرعاية الجرحى والمرضى من كلّ الجيوش في كلّ المستشفيات وساحات المعارك، في ماريلاند وفيرجينيا، وخاصّة في واشنطن العاصمة. وقد ناله الإرهاق الشديد خلال هذه السنوات الثلاث، فتعرّض لنوبة شلل، شُفي منها تماماً بعد فترة، لكن صحّته رغم ذلك لم تتعاف أبداً.
من عام 1865 إلى 1874، عمل والت ويتمان محرّراً في المكاتب الحكومية المختلفة في واشنطن العاصمة، واستمرّ في نشر أعماله النثرية والشعرية. وفي عام 1873، أجبرته نوبة شلل جديدة على التخلّي عن وظيفته نهائياً، لكّن عقله ظلّ نشطاً ولم يتوقّف لسنوات عن إنجاز أعماله الأدبية. كان يقيم في الريف، ويعيش أحياناً كثيرة في منزل بسيط جداً في "كامدن"، بالقرب من فيلاديفيا، حيث زاره هناك الكثير من معجبيه الّذين توافدوا من مختلف أنحاء الولايات المتحدة وإنكلترا، وهناك أيضاً وافته المنية يوم 27 مارس 1892 عن عمر 72 عاماً.
نشر ويتمان في حياته ديواناً شعرياً وحيداً، هو "أوراق العشب"، يضمّ كلّ ما كتب من أشعار على مدى نصف قرن، وقد طُبع في حياته طبعات كثيرة، وبهذا العمل اليتيم دخل التاريخ الأدبي من أوسع الأبواب، باعتباره "مؤسّس الحداثة الشعرية الأميركية". ترك في النثر كتاباً آخر بعنوان "أيام العيّنات وجمعها" (1883)، يضمّ العديد من المقالات من جهة، وأهمّها "آفاق الديمقراطية"، ومن جهة أخرى، مذكراته وتأمّلاته عن الطبيعة، وملاحظاته ومشاهداته المختلفة خلال الحرب الأهلية الأميركية. أما في عام 1888، فقد نشر ويتمان مجلداً واحداً يضمّ أعماله النثرية والشعرية بعنوان "أغصان نوفمبر"، وقد ترجمت بعض أعماله إلى لغات عدّة وهو على قيد الحياة.

ثورة في الأشكال والمضامين
رفض ويتمان الأوزان التقليدية والقوافي الّتي كان يتشبّث بها معاصروه، واختار هيكلاً وشكلاً جديدين لقصيدته. لقد انحاز عموماً إلى الشعر الحرّ، المجّاني والمتحرّر من الوزن، الّذي يتخلّله إيقاع يصدر عن التّكرار والتّعداد، وهو إيقاع تشير إليه قوائم ولوائح كثيرة منحت شعره نبرة خطابية محبّبة. لقد كتب بضمير المتكلّم، بصدق وجرأة كبيرة، وعبّر بثقة عن مشاعر وحقائق جميلة وبغيضة على حدّ سواء. كما أنّه، مرّات عديدة، كتب عن تسامي الروح وقوّة الطبيعة المتجدّدة. وفي قصائد كثيرة، مثل "أغنية نفسي" السالف ذكرها، احتفل ويتمان بالترابط بين مختلف الكائنات، وتناول فيها مواضيع مثل الخصوبة، والحب، والموت، مع نبرة شهوانية

صدمت العديد من القراء آنذاك. لقد غيّر أسلوب ويتمان وجهة الشعر إلى الأبد، وألهم كثيرين جاؤوا بعده لإحداث ثورة حقيقية على الأشكال الشعرية التقليدية الموروثة عن القرون السابقة، وهو التغيير الكبير الذي سوف يتحقّق نهائياً خلال القرن العشرين.
لقيت أشعار ويتمان الكثير من الانتقادات بسبب مواضيعها الجريئة وأسلوبها غير التقليدي. وبالنسبة إليه، كانت هذه القطيعة وهذا الانتهاك للقواعد بمثابة انعكاس لروح أميركا الديمقراطية في القرن التاسع عشر. إذ تزامن شعر ويتمان مع امتداد الموجة الكبرى للهجرة إلى الغرب، ولهذا تحضر فيه بقوّة إشارات إلى التوسّع والمساواة. لقّبه البعض بـ"شاعر الديمقراطية" لأنّه تغنّى بجمال وتنوّع سكّان أميركا، مشيداً بجميع أصناف البشر من جميع الطبقات والحرف في قصيدته الشهيرة "أسمع أميركا تغنّي". كما تحضر في شعره الأحداث الرئيسة للحرب الأهلية الطاحنة وما واكبها من تضحيات وتلاها من مشاريع إعادة الإعمار، ملتقطاً برهافة نبض وإيقاع الحياة خلال هذه الفترة.
لقد تعرّضت قصائد ويتمان لهجوم شديد، واعتبره البعض لا أخلاقياً وقحاً، وأحياناً صعب الفهم، لغته مسطّحة من خلال تكراراتها اللّانهائية، ويكتب أشعاراً مشوَّهة الإيقاع، خارجة عن الأوزان التقليدية المعروفة، وغريبة تماماً عما ألفته الذّائقة من شعر سليم الوزن. ومع ذلك، استطاع ويتمان في حياته أن يكسب عدداً كبيراً من المعجبين، على مرّ السنين، من خلال قدرته الهائلة على الإيحاء والإثارة، وأصالته الإيقاعية، وصدقه العميق، وحيويته الشديدة، وحماسته المتّقدة، وفحولته المنغمسة في الحنان الإنساني، وأخيراً وليس آخراً، من خلال بساطته النبيلة التي تخترق كل أشعاره وتشع بين كل سطر من سطورها.

شاعر الديمقراطية
ما أراد ويتمان التعبير عنه هو النموذج الأميركي، أي المثال الحديث والديمقراطي، الذي في نظره هو المثال الأكثر بساطة، والأكثر عمقاً، والأكثر إنسانية على الإطلاق. وما يتغنّى به دائماً هو التوسّع الحرّ للفردانية وسط حشود لا حصر لها من البشر، هو تضاعف إمكانات الفرد، والجسد، والروح بأكملها، في "عريها البطولي"، عندما تتخلّص من جميع التحيّزات الطبقية والاجتماعية، والأعراف الموروثة، ومن كلّ الحاجات الزائدة، والأوهام الخرافية، بحيث تتقبّل بلا تحفظ الحياة كلها، وتعشق بلا حدود الطبيعة برمّتها، وكلّ جوانب الكون المادي وكلّ أصناف العمل البشري. عندما تفيض بعشق الحياة، وتغمرها الشجاعة مهما خبّأ لها الوجود من مفاجآت، وتتوحّد مع أشباهها من خلال شعور بـ"رفقة" كونية.
إنّ الإيمان الديمقراطي لوالت ويتمان نابع من الإيمان بوحدة وجود متفائلة، وهو مستوحى من

فلسفة هيغل.  فإذا كانت كلّ شجرة هي شجرة إلهيّة حتى في أصغر وريقاتها، وإذا كان كل إنسان هو كائن إلهيّ حتى في أصغر أعضاء جسمه وجميع أصناف أعماله، فذلك لأنّ العالم كلّه إلهيّ، في شموليته وفي كلّ جزء من أجزائه. هذا المفهوم للحياة الّذي حدّده ويتمان في مقالاته، نجده يسعى إلى التلميح إليه بدلاً من طرحه مباشرة في نصوصه الشعرية، وكلّها نصوص تتشكّل من مقاطع غنائية لا تطمح إلى بلورة موضوع ما بقدر ما تريد أن تضع القارئ في جوّ معيّن من المشاعر والأفكار.
لقد عرف عن ويتمان نفوره الشديد من التوافقات المتعارف عليها في مجال الأشكال الأدبية، مثلما هو الحال بالنسبة لنفوره من المثل الأخلاقية، لهذا ابتكر قصيدة حرّة بلا قافية، مستقلّة عن جميع القواعد العروضية التقليدية، تلك الخاصة بالوزن والتسطير، وكلّ هذا من أجل أن يمنح تدفق مشاعره صدقاً أكبر وحرّية أكبر، في لغة أقرب إلى النفس "مثل آدم في الصباح الباكر"، كما في مطلع إحدى قصائده. فهي ليست قصيدة موزونة بالمفهوم الصارم للعروضيين، ولكنها وسيلة للتعبير حقيقية وصادقة، في مرتبة وسطى بين النثر والشعر، سوف نجد صداها يتردد أيضاً عبر المحيط الأطلسي، في تجارب شعراء فرنسيين كبار، مثل بودلير ورامبو، ومن بعدهم روّاد المدرسة الرمزية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.