}

ليليت

ديفيد فريشمان 28 مايو 2019
استعادات ليليت
(هيرونيموس بوش)
هنا الترجمة العربية لقصة "ليليت" لديفيد فريشمان التي أنجزتها نهلة راحيل (مصر).
وفريشمان (1859-1922)، مثلما سبق أن نوهت المترجمة، أديب يهودي من أصل بولندي، تنقل بين وودج ووارسو وموسكو، وزار فلسطين مرتين (1911- 1912) برفقة مجموعة من السائحين اليهود، وتوفي في أحد أحياء برلين التي رحل إليها قبل وفاته بعامين (1920) ربما للاستشفاء وربما هرباً من ملاحقة البلاشفة له بعد سيطرتهم على وارسو.
تلقى فريشمان تعليما علمانيا حديثا إلى جانب التعليم الديني السائد آنذاك، وتنوعت إبداعاته بين القصة والشعر والمقال والنقد الأدبي، بالعبرية والييديشية، وبين الترجمة الغزيرة عن الآداب العالمية، وبالأخص عن الروسية والألمانية. وتبرز في أعماله التوترات التي اتسم بها أدب ما بين الجيلين، جيل فترة الهسكالا (حركة التنوير اليهودية في القرن الثامن عشر) وجيل ما يُعرف بـ"فترة الإحياء الصهيوني" بأوروبا (في القرن التاسع عشر). وقد اتخذ موقفا معادياً للصهيونية ورافضاً للانصياع لأيديولوجيتها، بخلاف السائد حينها، حتى سماه المعاصرون له "الأديب الذي لا يشبهنا"، وعاش فترات طويلة وحيدا ومنعزلا لهذا السبب. وكان رفضه للصهيونية رفضا نفسيا أكثر من كونه موقفا أيديولوجيا؛ حيث أدى انفتاحه على الآداب العالمية وتبنيه لقيم النزعة الإنسانية إلى اعتبار الصهيونية فكرة محلية وخيالية عديمة الجدوى، كما دان سلطة رجال الدين اليهودي وانتقد منعهم ليهود أوروبا من الانطلاق نحو الحياة الغربية باتجاهاتها الثقافية المتنوعة (راجع مقال نهلة راحيل عنه المنشور يوم 24 مايو).

[المحرّر]

***

من قديم الزمان، في بتشيزوكا، إحدى بلدات بولندا، عاش أحد كتَبَة التوراة(1)؛ فتًى صغيرٌ ورقيقٌ للغاية، بسيطٌ وصالحٌ وتقي، كان يسكنُ غرفةً صغيرةً بأعلى إحدى البنايات، منعزلاً عن أباطيل هذ العالم، ومبتعداً عن إغراءاته، وكان يقضي كامل وقته في نسخ أسفار التوراة والتفيلين والمزوزا(2). كان هذا الفتى يُدعى السيد رؤوبين باحور؛ السيد حيث كان يبجِّله كل من حوله، وباحور (أي مختار) حيث أعلن يوماً ما: "تشتهي نفسي نسخ التوراة ولا تشتهي الزواج!"، خشية أن تلهيه المرأة عن العبادة.
أفَلَت الشمس مودِّعةً عنان السماء وبزغ القمر منيراً غيمتها، لكنه لم يعِ ولم يرَ، فكان كل ما يهمُّه أن يواصل- بطهارته المعهودة- نسْخَ الحروفِ المستديرةِ بزخارفِها الرائعة، وكأنه يريد أن يُسهِمَ بعملِه المتواضعِ هذا في مساعدةِ العظماء على تحقيق الخلاصِ لكل اليهود، ففي رأيه كل فردٍ من بني إسرائيل، مهما كان بسيطاً، عليه المحاولة ولو بالقليل في هذه المهمَّة الجليلة، وبين كل إصحاحٍ وآخر ينسخه، كان رؤوبين يغتسل كثيراً وكثيراً حرصاً على طهارته؛ فكانت تلك طريقته في تحمُّل المنفى. حقّاً! نير العبودية ثقيل والمنفى قاسٍ والخطايا تتزايد، فلم تعد هناك قوَّة لمزيدٍ من الاحتمال، ومن يدري! فربما تسهم محاولته البسيطة تلك في إنهاء كل هذا.
كانت عيناه ضيِّقتين للغاية، تلمعان أحياناً ببريق وهَّاج من النور، فتتبدَّل ملامح وجهه ويصبح وسيماً على غير عادته، وكان يظل جالساً يكتب لساعاتٍ طويلة، بجسده الهزيل النحيل، وبنيانه المجعَّد اليابس من كثرة الصيام والتقشُّف، وبوجهه النحيف الباهت الذي تبدو عليه آثار الشحوب.
كانت تُروى في بتشيزوكا حكايات عن الكرامات التي آتاها والمعجزات التي قام بها، فعندما كان رضيعاً لفَّه أبوه- خادم المعبد القديم- بالطاليت(3) وأحضره إلى الحاخام بونم، أشهر حاخامات حسيدية(4) بتشيزوكا، فتحسَّسه الحاخام الكفيف بأصابعه الناعمة فتهلَّل وجهه فرحاً، ثم قال: "وعاء رباني"(5)، وبعدها صمت ولم يُضِفْ شيئاً، وعندما بلغ السابعة من عمره وبدأ في إدراك شكل الحروف، صنع لأبيه المزوزا الأولى، وببلوغه سن الثانية عشرة وتسعة أشهر، صنع لنفسه التفيلين وكان فريداً من نوعه.
وذات يوم أحضر الأب للحاخام بونم ما نسخه ابنه من أسفار التوراة، لكنه لم يجده فترك له الكتب بحجرته ورحل، وعندما وصل بونم تحسَّس الحروف بأصابعه الرقيقة، كجزار يمرر أصابعه على نصل سكين حاد، وأدرك في التو من هو كاتب هذه الحروف، وتمتم لنفسه إن لهذه الحروف رائحةً خاصة، وبعد مرور سنوات، عندما بلغ الفتى الثامنة عشرة من عمره، كتب أول نسخة كاملة من التوراة، ولكنه بعد وفاة والده لم يجد من يرسلها إلى الحاخام بونم، فزاره الأخير بنفسه وطلب منه نسخة التوراة ودفع مقابلها دنانير من الذهب.
ومنذ ذلك الوقت ذاع صيته في الأنحاء وبدأ الجميع يرتادون حجرته طالبين ما يصنع من تفيلين ومزوزا وأسفار للتوراة، ومن يبتسم له الحظ منهم وينال مزوزا من صنع يد السيد رؤوبين باحور، كان يظن بأن خطاياه قد غُفِرَت، ومن يُقدَّر له الحصول على تفيلين منسوخ بخط يده، كان يتوهَّم بأنه سينال حظّاً من الآخرة، أما من ينجح في الحصول على نسخة من كتب التوراة التي نسخها رؤوبين، أعظم كتبة زمانه، فكان يتأكَّد من أنه قد بُنيَ له قصرٌ في الجنة، ورغم تزاحم الناس على بابه للحصول على مبتغاهم، لم يكن يتمكَّن إلا من تلبية الضئيل جدّاً من احتياجاتهم لانهماكه الدائم في الكتابة ليلاً ونهاراً.
ومع ذلك كله كان هناك من يرثون لحاله ويشفقون عليه سرّاً؛ لأنه يعيش بلا زوجة، وقد تجرَّأ بعضهم وجهر بما في نفسه أمام الحاخام بونم، الذي تبسَّم ضاحكاً وقال لهم: دعوه لشأنه، أيها

الطائشون، أتظنون أنه يعيش بلا امرأة، هذا محال، فربما يعيش مع الشخينا(6) نفسها. ومنذ ذلك الحين لم ينبس أحدهم ببنت شفة.
مرَّت الأيام ومضت السنون.

***

وفي الثالثة ليلاً، بزغ نجم في عنان السماء، وحيداً ومنعزلاً ولامعاً، وهو النجم ذاته الذي بزغ ولمع في السماء ذاتها منذ آلاف السنين، وسيظل يبزغ ويلمع لآلاف أخرى من السنين، وفي تلك الأثناء، ومن داخل إحدى الحجرات يراقبه شخص ما من لحم ودم، يضحك أحياناً ويبكي أحياناً، يشعر أحياناً أن السماوات والأرض مطوياتٌ بيمينه، وأحياناً أخرى تضيق عليه الأرض بما رحبت، في وقتٍ ما يشعر أن قلبه على وشك الانفطار من فرط الوجد والرضى، وفي أوقات أخرى يشعر بأسى شديد يساوره، وذلك كله دون أن يعرف سبباً لسعادته أو لأساه.
وعلى كلٍّ سيواريه التراب في النهاية بعد أن يقبروه، بأتراحه وأفراحه على السواء، في حفرة رطبة بأعماق الأرض، حيث يتحلَّل ويصبح غباراً منثوراً، وحينها سيظل يبزغ في أعالي السماء النجم الوحيد ذاته ويلمع لآلاف أخرى من السنين، دون أن يعي أحد إلى الأبد ما عاناه هذا الإنسان وما آلمه، ودون أن يدرك أحد ما حمله بداخله من عبء، وما اعتمل في نفسه من صراع... يبزغ نجمٌ باردٌ في وسط السماء ليلاً ويلمع.

***

وذات يوم صيفيّ حارّ ومرهق، تشبه حرارته ذلك القيظ الرطب الثقيل الذي يشتد ليلة السبت ويستمر إلى اليوم التالي داخل حمامات الاغتسال العمومية، تلبَّدت الغيوم المكفهرَّة وتراكمت السحب المظلمة، وأخذت تمضي بسرعة ثابتة بطيَّات السماء وكأنها تتجه نحو هدف مُحدَّد تعرفه جيداً، فبدت السماء بفعل هذه السحب الغائمة، كامرأة حزينة ترتدي ثوب الحداد، لكن السيد رؤوبين باحور لم يلاحظها ولم يرَها، بل ظل جالساً كعادته، مُطرق الرأس ومنحني الظهر وملتحفاً بالطاليت، أمام طاولته، مُمسكاً الريشة بيده ومنهمكاً فيما ينسخ من حروف، غافلاً عن شهوات جسده.
وفي تلك اللحظة توالت طرقات خفيفة تدقُّ بابه على استحياء، لكنه لم يسمعها من فرط تجرُّده، وحينها انفتح الباب بتؤدة، وفاضت الحجرة بنورها الذي لم يره رؤوبين، بل شعر بتغيير يحدث حوله ويحوطه من الداخل ومن الخارج، لكنه لم يدرك كنهه. ارتبك قليلاً، وكأن ذبابة أزعجت صفوه فنجح في إبعادها عن محيطه بتلويحة حاسمة من يده، وسرعان ما تمالك نفسه وأبعد عن ذهنه شتات الفكر الذي انتابه للحظات، وعاود الانغماس في عمله؛ حيث كان عليه آنذاك الانتهاء من كتابة حروف الفقرة: "ولا تطوفوا وراء قلوبكم وأعينكم"(7)، ونسخ تيجانها.
فإذا بصوت بشري يباغته من الخلف، وبعد سعال خفيف استمرَّ لبرهة، تحدَّثَ أخيراً؛ فارتجف السيد رؤوبين بشدة، وأخذ يردِّد: "يا إلهي، إنه صوت امرأة، وصوت المرأة عورة"...
لم يلتفت السيد رؤوبين إلى الخلف، بل ظل جالساً في مكانه موجهاً السؤال إلى من تقف وراءه: "من؟"، وكان يقصد بسؤاله: "من هناك؟"، أو "من جاء؟"، لكنه فضَّل أن يختصره في كلمة واحدة فقط هي "من؟"، فعقيدته تأمره بألا يطيل الحديث مع امرأة، فوصله الرد: "أنا رفقة، ابنة الجزار"...
كان صوتها رخيماً للغاية، رناناً ومضطرباً، صوت فتاة رقيقة ومدلَّلة، تبدو في سن صغيرة، فاستشاط السيد رؤوبين غضباً واكتست ملامحه بالظلمة، وقال: "ماذا؟".
أجابته الفتاة: "أرسلتني أمي بهذا الريش، فقد ذبحنا إوزةً اليوم في بيتنا، وها هو ريشها، فربما يرغب فيه كاتبنا".
رد قائلاً: "اتركيه...".
واصلت قائلة: "وقد أمرتني ألا أسألك قطّ عن النقود، فأبي سيكون بالمعبد عصراً، وهناك سيأخذ النقود من الكاتب".
قال: "هناك..."، مشيراً إلى حافة النافذة دون أن ينظر إليها.
ذهبت الفتاة لتضع الريش على حافة النافذة، وحينما اقتربت منها سقط ظلُّها على ورقات التوراة الموجودة على الطاولة، وأخذ يتراقص بين حروف فقراتها، بينما كان السيد رؤوبين يجلس منحني الظهر مسنداً جبهته براحة يده، فهرعت الفتاة مغادرة.
تنفَّس رؤوبين الصعداء، وكأن همّاً قد أزيل من فوق كاهله، وللوهلة الأولى لم يعرف ما يجب عليه أن يفعله الآن، ولكن سرعان ما عرف، فقام وذهب للتطهُّر.
وبعد بضع ساعات نسي تماماً كل ما حدث، وعاد الصفاء إلى ذهنه مرة أخرى وحلَّت السكينة على نفسه، وأخذت سرائره تطرب وكأنها تشدو على نغم الكمان وقنْع البوق، ومن وراء الحقول المترامية والغابات البعيدة وصل إلى مسامعه نقر الدفوف، ولم يدرِ رؤوبين سر سعادته المفاجئة، وظنَّ أنها من فعل تطهُّره بالميكفيه(8)، فجلس بشوق عارم على طاولته وأخذ يكتب لساعات متواصلة. كانت نيته خالصة لله، فأضفى نور التوراة وحروفها على وجهه حُسناً فريداً، فأشرقت ملامحه الرقيقة ولمعت عيناه الضيقتان، وبدا الحدث كله كأنه لم يكن، فلم يراوده ثانيةً ولم يخطر حتى على باله.

مرَّت الأيام ومضت الليالي.

وفي الهزيع الأخير من الليل بزغ نجمٌ وسط أعالي السماء، وأطلَّ على الحجرة الضيقة أعلى البناية، كان النجم وحيداً وبارداً ولامعاً.

مرَّت نحو ثلاثة أسابيع.

وبنهاية الأسبوع الثالث، في ليلة هادئة غريبة، بهتت سماؤها بين الظلمة والنور، كانت المدينة كلها تغطُّ في نومٍ عميق، بينما يعلو السماء قمرٌ شاحبٌ وواهن، وقد أعلنت دقات الساعة

بصوتها الأجش القادم من أحد المنازل المظلمة، الثالثة بعد منتصف الليل. استيقظ كلبٌ عجوز كان يرقد خلف أحد الجدران المتداعية وبدأ يحكُّ ظهرَه بمخالب قدميه الأماميتين اليمنى ثم اليسرى، ونفض جسده بقوة وأخذ ينبح نباحاً قصيراً، وفجأة افترش الأرض وعاد إلى وضعه السابق، بعد أن أخفى وجهه بين قدميه وعاود النوم مرة أخرى.
وفي تلك الأثناء كان السيد رؤوبين باحور يرقد هو الآخر في فراشه يغطُّ في نومٍ عميقٍ متواصلٍ لا تتخلَّله أحلام ولا تؤرِّقه وساوس، لكنَّه استيقظ على حين غرَّة، وكأن يداً قوية أطاحته بضربة منها وأيقظته من سباته، فظل جالساً في فراشه وقلبه يخفق خفقات عنيفة متلاحقة يعلو صوتها في أذنيه كدقَّات الجرس، ثم خفَّت الدقات رويداً رويداً حتى هدأت تماماً، حينئذٍ فاجأته فكرة غريبة عجيبة: أليس رائعاً أن يكون اسمها رفقة(9)، فحروفه تتضمَّن الراء والباء، وأن يكون اسمه رؤوبين، الذي يتضمَّن كذلك حرفي الراء والباء؟ أليس الأمر مُدهشاً؟ وبعد لحظات معدودة أراح رأسه على الفراش ووقع ثانيةً في سباتٍ عميق.
وبعد مرور ساعة واحدة استيقظ ثانيةً، وفي البداية لم يتذكَّر شيئاً مما حدث، ولكنه سرعان ما بدأ يتذكَّر بوضوح كل ما قد كان، فخيَّم عليه فزعٌ شديد وانتابه همٌّ ثقيل، حينئذٍ استجمع قوَّته وقفز من فراشه، ثم أصلح وضع اليارمولكا(10) التي يعتمرها وغسل يديه سريعاً، حتى ارتجفت أوصاله فجأة من شدة البرودة، ففكر مليّاً: أليس هذا هو ألم التفكير في الخطيئة؟ بلى، إنه حقّاً كذلك! كيف يمكن أن يحيا الإنسان بعد مثل هذه الوساوس؟!

وغداة اليوم التالي أصبح كالشبح وظلَّ كالأبكم لا يتحدَّث أبداً، شعر وكأن جسده هو بؤرة الرذيلة وتمنَّى لو كان بإمكانه أن يبصق على جسده من شدة الاشمئزاز حتى ترتاح نفسه وينفرج ضيقه، وفكَّر فيما يمكن أن يفعله الآن؟! فقام وتطهَّر لسبع مرات في اليوم ذاته، ثم تقشَّف تماماً وصام عن الطعام، وجاهد، قولاً وفعلاً، كي يبعد عن ذهنه التفكير في تلك الفتاة، ولكن شيئاً من هذا كله لم يفده.

وفي ذلك اليوم لم يتجرَّأ على الاقتراب من طاولته الطاهرة التى ترك عليها كتاب التوراة مفتوحاً على سفر التثنية؛ حيث كان عليه إتمام نَسْخ حروفه، ولكنه رأى أن نفسه لم تعد تصلح لتلك المهمة المقدسة، فقضى يومه كله في الصلاة بالمعبد الكبير، يتضرَّع إلى الله ويتطهَّر ثم يقوم إلى الصلاة، وبعدها يجلس ليقرأ في كتاب الزوهر(11)، أو ليتلو فقراتٍ من سفر المزامير، وفي الليل لم يذهب إلى النوم خشية أن يراوده التفكير بالفتاة ثانيةً، وحينها- لا سمح الله- لن يخلِّصه شفيعٌ ولن تنفعه توبة.
وعلى مدار الأيام التالية لم يقوَ على الاقتراب من الطاولة، بل كان يقف أمامها للحظات مُشوَّش الذهن، يفكِّر في شيء ما لا يدري كنهه.
وفقط في اليوم الخامس، وبعد أن أتمَّ قراءة التوراة حلَّت عليه السكينة، ولم يفهم كيف عادت إليه بغتةً مثلما لم يفهم كيف غادرته من قبل، فظلَّ واقفاً يفكِّر دون أن يعي على الإطلاق ما يشغل فكره، وعادت أنغام الكمان تطرب أذنيه من مسافة بعيدة، وشعر بسعادة مفاجئة تغمره، وكأنه قد دُعي إلى حفلة عُرس، فاطمأنَّ قلبه، وعاد ليقترب من طاولته للمرة الأولى منذ أيام طويلة، ثم كتب الحرف الأول، ففاضت مشاعرة بالبهجة وانمحت الواقعة من ذاكرته، وكأنما مرَّر عليها أحدهم إسفنجة مبللة، فأزال كل أثر لها.
واصل رؤوبين الكتابة وهو في كامل طهارته لعدة أيام، وفاضت عليه السكينة، فأصبح كالطفل الذي ولد من جديد، ولم يعد هناك ما يعكِّر صفوه أو يثقل كاهله، وفي تلك الأثناء طلب منه الحاخام بونم نسخة جديدة من كتاب التوراة، فأقبل على الكتابة من جديد بفرح وسرور.
ومرَّت الأيام والليالي.
لكن في النهاية، وبعد مرور أسبوعين، حدث تغيير مفاجئ، فقد توقَّف رؤوبين عن عمله وجلس متكاسلاً يحلِّق طويلاً في الغيوم، تداهمه أشواقٌ غامضةٌ ومبهمةٌ إلى شيء ما بعيدٍ وغائبٍ لا يعلمه، فأصبح سريع البكاء تسيل دموعه دون أسباب واضحة، ودون قصدٍ نظر باتجاه النافذة، فوقع بصره على الريش الموضوع على حافتها كما تركته ابنة الجزار من قبل، لكنه لم يتذكَّر على الإطلاق من أحضره إلى بيته، فقام بلا وعي وأخفاه داخل سقيفة الحجرة ولم يدرِ لماذا أقدم على هذا الفعل.
وفي اليوم التالي حلَّت ليلة عيد الغفران (12)، ووقع له حادثٌ غريب، حيث ذهب في الثانية عصراً إلى المعبد الكبير، وبينما هو راكعٌ يتلو صلاة الاعتراف متمتماً بخطاياه الكثيرة التي اقترفها: "ارتكبت الخطايا، ضاجعت آرامية ومصرية، ضاجعت جارية مملوكة، ضاجعت فتاة مخطوبة"، ودون أية مقدِّمات، تردَّد في ذهنه فجأة صوت امرأة ناعم للغاية، كان الصوت

مضطرباً ولكنه كان رنَّاناً ومدلَّلاً ورقيقاً، وقد بدا له الصوت حينها حقيقيّاً للغاية وكأنه يسمعه من جديد، فذكَّره الصوت الذي يدوِّي بمسامعه بصوت رنين الجرس الفضِّي الذي كان معلَّقاً بعجلات عربة أحد النبلاء حينما مرَّت من أمامه عندما كان طفلاً، وبعد لحظات ارتعد جسده لذةً وارتبك للغاية بعد أن أدرك فجور نفسه.
وفي يوم العيد نفسه لم يحس رؤوبين ببهجته، والغريب أن هذا الأمر لم يشعره بالذنب مثلما حدث بالمرة السابقة عندما استيقظ فزعاً من نومه، فقد كلَّ فجأة من الإحساس بالخطيئة وتكرار التوبة، وملَّ من كل تلك الوساوس التي تحاصره، فأصابته اللامبالاة حيال كل ما يؤرِّقه، ووقع في همٍّ ثقيل، وبعد أيام زال ما في صدره من ضيق ولم يعد يتذكَّر شيئاً مما حدث.
ثم وقع له حادث ثالث بعد ذلك، فقد خرج من بيته مع غروب الشمس ذاهباً إلى المعبد، يمشي الهوينى على جانب الطريق، ويسير مطأطئ الرأس خافض العينين، بخطوات محسوبة، وكل شيء يبدو أنه يسير كعادته، وفجأةً مرَّ به ظلّ ما لم يدرِ اتجاهه، أجاء عن يمينه أم عن يساره؟ أجاء من أمامه أم من خلفه؟ وحينها راوده شعور مفاجئ بأنه قد يكون ظل ابنة الجزار، وأنها ربما تكون هي من مرَّت أمامه الآن، رغم أنه لم يعد يتذكَّر حتى اسمها، وقد شغله هذا الهاجس لدقائق قليلة، وسرعان ما نسي كل شيء وواصل صلاته وتطهُّره، ثم عاد إلى بيته ليكمل الكتابة.
دائماً ما يسقط الثلج نقيّاً من السماء، فيتدحرج وتحمله الرياح العاتية، ثم تتناقله العواصف. كان الثلج نقيّاً وصافياً، ناصع البياض، طاهراً كجناح ملاك، لكن الرياح علقت به، وتسبَّبت في سقوطه، ليُداس بالأقدام ويصبح طيناً ممقوتاً. من يمكن أن يدينه؟ ومن يمكن أن يحاكمه على هذا التحوُّل؟ فالرياح العاتية هي ما حملته والعواصف هي ما تناقلته، ثم داسته أقدام الدواب والخيول وأطاحته أقدام البشر، فعكَّرت طهارته وجعلته كالقمامة المثيرة للاشمئزاز. كذلك الإنسان، يسقط ويتحوَّل، فمن يمكنه أن يحاكم الرياح والعواصف؟ لقد كان كالملاك المنزَّل من السماء نقيّاً وطاهراً.

***

وفي ظهر عيد الشجرة (13)، ذهب إلى منزل السيد رؤوبين ذلك الفتى الذي يقوم بخدمته من وقت إلى آخر، ووضع على الطاولة أصنافاً عديدة من الفاكهة، ثم فرك يديه الحمراوين ليدفئهما من برودة الطقس بالخارج، وقال:
"سعر التمر ديناران، أما الزبيب والتين فدينار واحد لكل منهما، وظل معي ديناران أنفقتهما في شراء الخروب؛ إذن مجمل ما أنفقته في شراء الفواكه هو ستة دنانير عدّاً ونقداً، وبقي فقط أربعة دنانير سأتركها لك على الطاولة".
وقبل أن يغادره أضاف قائلاً: "لن أعود ثانية اليوم، سأذهب إلى العُرس، فالجزار سيزوِّج ابنته اليوم، سيزوِّج رفقة"، قال جملته سريعاً ثم همَّ بالانصراف.
سمع رؤوبين حديثه لكنه لم يعِ ما قاله، وحينما بدأ يدرك فحوى الكلام لم يتأثَّر على الإطلاق ولم يبدِ انطباعاً خاصّاً، حتى أنه نسي الحديث برمَّته بعد لحظات، وعاد مغتبطاً إلى طاولته، فرأى ما عليها من ثمار طازجة، فغسل يديه وجفَّفهما جيداً، وأصلح من وضع اليارمولكا وتلا دعاء تناول الفاكهة، وبدأ يأكل بنهم، فأشرقت عيناه وانفرجت أساريره.
لكن بحلول الليل شعر بأرق شديد، ولم يفهم ما أصابه، فكان نومه في تلك الليلة متقطِّعاً ومضطرباً وقلقاً، ينام ثم يستيقظ دون سبب، ويعاود النوم ثم يستيقظ ثانية.
وعندما استيقظ في الصباح كان منهك القوى ومرهق الجسد، ولكن سرعان ما زال تعبه بعد أن ذهب إلى التطهر بالميكفيه، فعاوده النشاط والهدوء، وصفت روحه من جديد، فجلس بسعادة وبهجة يكمل الكتابة، لكن هذا لم يدم طويلاً؛ ففي المساء هاجمه الإنهاك واشتدت أعراضه، وانقبض صدره بحزن مفاجئ، فشحذ ذهنه محاولاً أن يعرف ما يشغله، وجاهد نفسه محاولاً أن يفهم ما يحزنها، ولكنه لم يعِ شيئاً على الإطلاق.
هدأت نفسه بمرور الأيام، ولم يعد السخط يعتمل بداخله، لكن سرعان ما عاد الشرّ وكان أقوى من ذي قبل، فعاوده الأرق والحزن، لكنه لم يعرف لهما سبباً واضحاً، وتمنَّى فقط لو يعرف! فقد كان يضطر أحياناً إلى ترك ما يكتبه ويتوقَّف عن العمل لساعات طويلة، يبدو فيها وكأنه يحلم بشيء لا يعرفه، وكان يسير في غرفته الضيقة غادياً رائحاً حتى ينهكه التعب فيجلس على فراشه، وقد أخذ منه الإعياء مأخذاً. رويداً رويداً، شحب وجهه ووهن جسده وكأن مرضاً قد ألمَّ به، فاضطر إلى ترك عمله تماماً وتوقَّف عن الكتابة لأيام وأسابيع، وإذا سأله أحدهم عن أحواله، كان دائماً ما يردُّ بغضبٍ شديدٍ وبثورةٍ عارمة، دون أن يجيب عن تساؤلاته.
وفي يوم ما، مرَّ عليه كلمح البصر، فهم كل شيء وأدرك سبب ما حدث له، لكنه لم يفكِّر قط في التوبة، ولم يصُم أو يتقشَّف، ولم يحاول أن يجاهد نفسه أو يتغلَّب على شهواته.
وبعدها تغيَّرت حاله تماماً، فقد أصابه حزن جم، وكان يبكي كثيراً كالطفل نهاراً، وفي الليل كان يجلس أمام طاولته ويتلو متمايلاً فقراتٍ من المزامير، بصوت مرتفع وبترتيل منغَّم، فبدا ترتيله للمزامير كصيحات شخص شبَّت فيه النيران يستغيث طلباً للمساعدة وطمعاً في النجاة:

"لإمام المغنين مزمور لداود عندما جاء إليه ناثان النبي بعد ما دخل إليّ بتشبع. اغسلني كثيراً من إثمي ومن خطيَّتي.. طهِّرني. لأني عارفٌ بمعاصيَّ، وخطيتي أمامي دائماً. إليك وحدك أخطأت، والشر قدام عينيك صنعت... طهِّرني بالزوفا فأطَّهَّر، اغسلني فأَبيضُّ أكثر من الثلج. أسمِعني سروراً وفرحاً، فتبتهج عظامٌ سحقتها. استر وجهك عن خطاياي، وامح ُكل آثامي. قلباً نقيّاً اخلَق فيَّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدِّد في داخلي. لا تطرحني من قُدَّام وجهك- يا رب السماوات والأرض- وروحك القدوس لا تنزعه مني. رد لي بهجة خلاصك..."(14).
كان يرفع صوته ويصيح عالياً من حين إلى آخر حتى تجمهر الرجال والنساء والأطفال حول بيته، فذرفت أعينهم الدموع وهم يستمعون إلى ترتيله. كانت صيحاته أعلى من زئير حيوانات الغابة المفترسة التي يصيبها الصياد برصاصة مباغتة، وكان بكاؤه أقوى من نحيب إنسان يتمرَّغ في التراب من فرط الألم.
وفي تلك الأثناء، بزغت نجوم ساطعة وباردة في السماء الصافية، تتطلَّع بجمود في الثلج الأبيض، تومض وتلمع في صمت.
كان رؤوبين يشعر أحياناً بلامبالاة تامة حيال كل شيء، فيمكث في فراشه لأيام طويلة لا يتزحزح ولا يتحرَّك ولا يترك مكانه، يكتنفه هدوءٌ بائسٌ ومخيف. إلا أنه في أحد الأيام نهض فجأة، وهبَّت داخله روح التمرُّد والعناد، وتملَّكته روح العصيان والمقاومة، ورفض أن يتجاهل كل ما يحدث له.
وحينها جاءته مشاعر مبهمة وغامضة، وأحسَّ أنه قد سُلِب كل شيء، ولكنه لم يعرف بأيدي من؟ وفجأة عرف: جميعهم، بتشيزوكا، واليهود فيها، وفي جميع الأنحاء، وحتى الحاخام بونم نفسه، قد سلبوه كل شيء، وهنا صرخت دواخله: لتمُت نفسي مع الفلسطينيين (15)! لتمُت نفسي مع الفلسطينيين.
فانتابه شعور بالتشفي، وأخذ يردِّد: نير العبودية ثقيل إلى هذا الحد، فلتكن رجاءً أثقل من هذا، والمنفى قاسٍ، فلتتفضَّل وتقسو أكثر وأكثر، ولم يعد هناك قوَّة لمزيد من الاحتمال، إذن

فليحدث ما يحدث، وليعانوا طويلاً. الخطايا تتزايد، فما أطيب ذلك حقّاً!! علت الموسيقى بداخله فأصبح أكثر طرباً، وتملَّكته رغبة ملحَّة في تنفيذ انتقام غامض ومبهم.
أذنب الجميع في حقِّه؛ إله إسرائيل مذنب، والتوراة المقدسة مذنبة، الكل مذنبون، السماوات والأرض مذنبتان، الجميع مذنبون، وهكذا تشتَّت ذهنه وارتبكت أفكاره، وباغته الإعياء، فارتخت يداه ووهنت روحه وفقد كل عزيمته.
ومنذ ذلك الحين بدأت تتلوَّى على شفتيه ابتسامة غريبة وحادة، وأصبحت عيناه الضيقتان أدقَّ حجماً، وسكنتا في محجريهما تطلان بخبث شديد، وفي مقابل هذا التغيُّر الخارجي، استردَّت روحه سكينتها وعاد إلى كتابة أسفار التوراة والمزوزا والتفيلين ليلاً ونهاراً.
انقضى الشتاء وحلَّ الصيف، ثم توالت الأيام وانقضى الشتاء وحلَّ صيفٌ جديد، والسيد رؤوبين باحور يواصل كتابته وينسخ بنشاط وهمَّة أسفار التوراة وأشرطة التفيلين ورقوق المزوزا.
وفي أحد أيام عيد الحانوكا (16)، وقع حادث مخيف وغريب، أثار حفيظة المدينة كلها التي اهتاج أبناؤها غضباً عقب اكتشافه، فقد عثروا صدفة على إحدى المزوزات في منزل السيد موشيه كبلان ووجدوا أنها تحمل اسم ليليت بدلاً من اسم الرب، تقصَّوا الأمر إلى أن اكتشفوا أنها كانت من صنع السيد رؤوبين باحور، وحينها بدؤوا في فحص مزيد من المزوزات واتضح لهم أن كل المزوزات التي صنعها رؤوبين على مدار العام تحمل اسم ليليت بدلاً من اسم الرب، فقاموا بفحص الإصحاحات المنسوخة في أشرطة التفيلين ووجدوا الاسم المخيف ذاته، ثم بدؤوا في فحص أسفار التوراة المكتوبة حديثاً، والتي لم يفتحوها بعد للقراءة أو للتعلُّم، فاكتشفوا الشيء نفسه.
هلع كل أبناء الطائفة، ولم يجدوا ما يصفون به ذعرهم الشديد، فقد انحبست الكلمات على شفاههم قبل أن ينطقوها، وأحنى الجميع رؤوسهم وكأنهم يخشون النظر بعضهم إلى بعض، وفي بداية الأمر أصبحوا جميعاً في هرجٍ ومرج، وبعدها استولى عليهم الذعر مما قد يحلُّ عليهم من عقاب إلهي، وأخيراً باتوا في حزنٍ شديد.

***

وعندما مثُل رؤوبين باحور أمام الحاخام بونم كان هادئاً للغاية وصامتاً تماماً، يتصرَّف كشخص فعل ما ينبغي عليه أن يفعل، ولا يفهم مطلقاً سبب غضب الآخرين عليه، حتى أخذ يردِّد داخله "لن ترضى عنك الناس أبداً مهما فعلت". صار وجهه أكثر سمنة وأشد غلظة من ذي قبل، كما تشعَّث شعره الذهبي وأصبحت لحيته غير مشذبة. ضاقت عيناه وفقدت لمعانها، وصار بصره ضعيفاً، وارتسمت على شفتيه الدقيقتين ابتسامة غريبة وفرحة لم تفارقهما أبداً، بينما سكنت على وجهه إشراقة نابعة من انشراح صدره وطيب نفسه، وعندما رآه حاخام المدينة والقضاة الربانيون ورؤساء الطائفة وسدنة المعبد وعامة الشعب ممن شهدوا هذا الموقف الجليل، لاحظوا جميعاً كيف أصبح رؤوبين شخصاً غليظاً ضخم الجثة، فتملَّكهم الفزع الشديد.
صوَّب الحاخام بونم نظراته العمياء تجاهه، وبدأ يستجوبه، وسأله بصوت خنقته الدموع: "لماذا فعلت هذا؟"، فأجابه رؤوبين بهدوء، وردَّ بكلمات متقطِّعة كمن يكابد العناء ليجد التعبير المناسب، ومع ذلك لم تفارق الابتسامة الصفراء شفتيه أثناء الكلام، فقال:
"انظر سيدي، الأمر بسيط، سأحكي لك كل شيء. جاءتْ من حيث لا أدري ودخلت إلى بيتي وتركت الريش ثم خرجتْ، أليس الأمر بسيطاً، أتفهم سيدي! ثم سقط الثلج على الأرض، أليس الأمر بسيطاً للغاية، أتفهم سيدي! كنت أنسخ التوراة وأسير على الصراط المستقيم، وفجأة لاحظت أن الحروف الأولى من اسم «ليليت» تعني «دائماً ما تمتلك المرأة ناصية الأمور»(17)، أليس الأمر بسيطاً، أتفهم سيدي! فكتبتُ الاسم وسأظل أكتبه...".
"منْ تلك التي جاءتْ إليك؟ وعن أي ريش تتحدَّث؟".

استمع إليه رؤوبين بهدوء تام، وقطب جبينه للحظات كمن يجاهد ليجد كلماتٍ تعبِّر عما يريد قوله، ثم أجابه بتريُّث والابتسامة الشعواء لم تترك بعد شفتيه، فقال متلعثماً:
"انظر سيدي، الأمر بسيط، سأحكي لك كل شيء، جاءتْ من حيث لا أدري ودخلت إليَّ ثم خرجت ثانيةً، أليس الأمر بسيطاً، أتفهمني سيدي! وسمعتُ أنها قد تزوَّجت بعد أن تركت لي الريش، فماذا يمكنني أن أفعل؟ فلم أمتلك سوى الريش، فأخذته وكتبت به. أواضحٌ كلامي، أتفهمني سيدي! ثم سقط الثلج صباح أحد الأيام، أليس الأمر بسيطاً، وحروف الاسم «ليليت» شكَّلت الجملة «دائماً ما..»".
"ولكن، ألم تخشَ الله قط؟".
فأجابه بعد لحظات: "بلى سيدي. ألم أفعل ذلك كله بسبب مخافة الله وحده! فالأمر بسيط، جاءت من حيث لا أدري ودخلتْ إلى بيتي، ثم تزوَّجت، فلم يبقَ لديَّ خيارٌ آخر سوى كتابة اسمها «ليليت» وحروفه التي تعني «دائماً ما تمتلك المرأة ناصية الأمور»".
"يا إلهي! ماذا تقول؟!".
"ألا تفهم كلامي! الأمر بسيط للغاية، دخلتْ وخرجت ثم تزوجت. أحضرت إليَّ الريش، الأمر بسيط كما ترى، وكنت أمامها قليل الحيلة. كان اسمها «ليليت» وحروفه تعني «دائماً ما تمتلك المرأة ناصية الأمور»".
غادره الجميع في النهاية، بعد أن لاحظوا لوثة عقله، فظلَّ يضحك ضحكة غريبة، وأشرقت عيناه ببريق لامع وكست ملامحه لذة شديدة.
وفي اليوم الثالث ذهب الجميع، وكأنَّهم في جنازة مهيبة، ليقوموا بدفن تلك الأوراق الباطلة. شارك كل أبناء المدينة، صغيراً وكبيراً، في مراسم تلك الجنازة، وتلا سادن المعبد قدَّاس الترحُّم(18)، بينما سقط الثلج وغطَّى سطح الأرض، وكان نقيّاً ناصع البياض يتلألأ كالبلور.
ولم يعد أحد يلتفت إلى رؤوبين باحور، الذي ظل طوال الوقت تائهاً يجلس أمام طاولته يكتب ويكتب، ورغم أنه لم تعد بحوزته أية رقاقة أو ورقة، فإنه كان يستغلُّ كل فراغ بكل قصاصة تقع في يده فيسرع بالكتابة على كل زاوية منها: ليليت.. ليليت.. ليليت.

***

وفي الثالثة ليلاً بزغ نجمٌ في عنان السماء، وحيداً ومنعزلاً ولامعاً، فمنذ آلاف السنين كان قد بزغ النجم ذاته ولمع في السماء ذاتها، وسيظلُّ يبزغ ويلمع لآلاف أخرى من السنين، وخلال تلك السنين يعيش الإنسان ويموت، يضحك ويبكي، يتمتَّع ويعاني، يُغوى ويقاوِم، ولا يدرك أبداً حقيقة نفسه، ومن سيعي إلى أبد الآبدين ذلك الألم الذي كان يشعر به؟ يبزغ نجمٌ في عنان السماء ليلاً ويلمع!

هوامش المترجمة:

1. الكاتب: ناسخ الكتب الدينية، وهو الشخص الذي ينسخ التوراة والتفيلين والمزوزا، ويكون متشدِّداً في كل ما يخصُّ الدين، ومبتعداً عن رفاهية العيش التي قد تمنعه من الكتابة، ويسمَّى بالعبرية (سوفير ستام)، وهي اختصار الحروف الأولى من الكلمات العبرية (سفري توراة، تفيلين، مزوزوت).

2. المزوزا: تميمة الباب، وهي صندوق صغير مستطيل الشكل يعلق في زاوية دار كل يهودي، ويحتوي على رقٍّ من الجلد مكتوب داخله إصحاحات من سفر التثنية. التفيلين: تميمة الصلاة، وهي شريطان من الجلد أحدهما يوضع على الرأس والآخر حول اليد اليسرى مكتوب فيهما فقرتان من سفر الخروج وفقرتان من سفر التثنية.

3. الطاليت: شال الصلاة، وهو قطعة قماش مستطيلة الشكل منسوجة من القطن أو الصوف أو الحرير، وفي كل طرف منها عقدة من ثمانية أهداب، أربعة باللون الأبيض وأربعة باللون الأزرق.

4. الحسيدية: حركة دينية اجتماعية نشأت بين يهود جنوب بولندا في القرن الثامن عشر بزعامة (بعل شيم طوف)، ثم انتشرت مراكزها في بلدان مختلفة من أوروبا الشرقية، وقد قام الفكر الحسيدي على الأفكار الصوفية القبّالية، وعلى الاهتمام بالخلاص الذاتي عن طريق تخلُّص الفرد اليهودي من أزماته، لذلك تعلي من قيم المحبة والمعروف والسعادة. والكلمة مشتقة من المفردة العبرية (حسيد) بمعنى (تقي وورع). 

5. وعاء أو إناء: كلمة كانت تشير في البداية إلى الآنية التي تُستخدَم في الطقوس الدينية بالمعبد، ثم أصبحت تشير في فترة متأخرة، كما ورد بمرويات عدة بالفولكلور اليهودي، إلى الأشخاص ذوي المكانة الدينية العالية، مثل الربانيين والجاؤونيم وعلماء القبالا وكتبة التوراة، وكذلك سدنة المعابد وجباة الكنيس.

6. الشخينا: كلمة عبرية تعني (السكينة)، وتشير في المرويات الدينية اليهودية إلى التجلي الإلهي أو حلول الإله في الإنسان والعالم، ويقال إنها كانت في الأصل إلهة كنعانية قديمة عبدها اليهود في مملكة يهوذا الجنوبية. ويروي التلمود أنها تتلبَّس اليهودي حينما ينفِّذ التعاليم الدينية، وأنها قد تتجسَّد في الأشخاص المتديِّنين والأماكن المقدسة، ويرمز لها آنذاك بالضوء الذي يعم المكان، وقد ورد عنها في عدة أساطير يهودية أنها تتجوَّل في الأرض وتضاجع اليهود من دارسي الشريعة والمحافظين على تعاليم التوراة، خاصة عندما يبتعدون- من أجل دراستهم الدينية- عن زوجاتهم، وبذلك يحظى دارس الشريعة اليهودية بالعيش مع امرأتين، ولكنها تترك مضجعهم إلى ليليت، التي تظهر لهم في صورة نار متأجِّجة، إذا ما انصرفوا عن العبادة أو أساؤوا إلى زوجاتهم.

7. سفر العدد (15: 39).

8. الميكفيه: المغطس، بركة من الماء يغطس فيها اليهودي من أجل التطهُّر من الدنس، وهو من موجبات الطهارة في الديانة اليهودية.

9. حرف الفاء في الاسم رفقة يقابل حرف الباء الذي يُنطق v في وسط الاسم بالعبرية.

10. اليارمولكا: غطاء رأس صغير دائري الشكل يرتديه اليهود المتدينون أثناء الصلاة، وهي كلمة ييديشية يقابلها بالعبرية الكيبّا.
11. الزوهر: من أهم كتب التراث القبّالي، يُنسب إلى الحاخام شمعون بن يوحاي في القرن الثاني الميلادي، ويتضمَّن شروحاً وتعليقاتٍ صوفية مكتوبة بالآرامية حول عدة قضايا بالعهد القديم مثل أسرار الخلق وبداية الكون وطبيعة الإله ومفهوم الخلاص، وقد احتلَّ الكتاب مكانة بارزة وسط يهود أوروبا أثناء ازدهار القبّالا في القرن السادس عشر، وهي كلمة عبرية تعني (الإشراق) أو (الضياء).
12. عيد الغفران: هو اليوم الأخير من أيام التوبة التي تبدأ بعيد رأس السنة العبرية وتنتهي بيوم الغفران، وهو يوم صيام تحرُم فيه خمسة أشياء: الأكل والشرب والاستحمام والانتعال والجماع، ويصلي اليهودي فيه خمس صلوات ويعترف بالذنوب عدة مرات من مساء يوم الغفران حتى نهايته. وحسب التراث الحاخامي فإن يوم الغفران هو اليوم الذي نزل فيه موسى من جبل سيناء للمرة الثانية ومعه لوحا الشريعة؛ حيث أعلن أن الرب غفر لهم خطيئتهم في عبادة العجل الذهبي.
13. عيد الشجرة: يحل في الخامس عشر من شهر شباط العبري، لذلك يسمى (طو بشباط)، وهو عيد خاص في ذاته، لأنه لا يُحتفل به خارج إسرائيل، وهو يوم تكثر فيه زراعة الأشجار وتناول ثمار الفاكهة.
14. يسمى الإصحاح 51 من سفر المزامير بمزمور التوبة، يتلوه اليهودي حتى يتطهَّر من خطيئته وينال التوبة.
15. الجملة التي ردَّدها شمشون في سفر القضاة (16: 30)، والتي صارت مقولة شهيرة في التراث الشعبي تأخذ الصيغة "عليَّ وعلى أعدائي".
16. عيد الحانوكا: يستمر طيلة ثمانية أيام، ويسمَّى كذلك عيد "الأنوار" أو "التدشين"، وفيه يُحرم على اليهودي الحداد والصيام؛ بينما تتلى فيه التسابيح والصلوات وتُقاد فيه الشموع، وهو ذكرى انتصار الحشمونائيم على اليونانيين وتدشين هيكل سليمان من جديد، 164 ق.م.
17. لأن الحروف الأولى من الجملة العبرية (لعولام يش لإيشّا يد تكيفا) تُكوِّن الاسم "ليليت".
18. قُداس الترحم أو القَديش: إحدى الصلوات اليهودية التي كانت تُتلى قديماً بالآرامية بعد انتهاء اليهودي من دراسة الأغادا (القصص الدينية)، ثم أصبحت تتلى مؤخراً أثناء الحداد على الميت.

ترجمة: نهلة راحيل.

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
28 مايو 2019

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.