}

محمود درويش: عودة الشعر الضالّ

خيري منصور 19 مارس 2019
استعادات محمود درويش: عودة الشعر الضالّ
محمود درويش
هنا مختارات من شعر محمود درويش اختارها الشاعر الراحل خيري منصور نستعيدها لمناسبة عيد ميلاده.

منذ بواكيره، نافس فيه الناثر الشاعر، وكان توأمه، واذا كان لكل فنان نبع يغذيه على امتداد العمر كما قال البير كامو وهو يمتدح تكرارات تشتسوف الأصيلة،

فإن نبع محمود درويش لم يكن كما أحبّ النقد بقسوة بالغة ان يختزله، مجرد موضوعة وطنية بالمعنى النشيدي الكلاسيكي، فهو لم يشاطر الفلسطينيين المنفيين

في صباه حنينهم الى الماضي والى العودة، لأنه عائد منذ الولادة، ومقيم في لحم الأرض كما قال في قصيدة مهداة الى الراحلة فدوى طوقان، انه بالفعل في حلّ من

التذكار، فالكرمل فيه وعلى أهدابه عشب الجليل....

نعرف ان صدور كتاب لشاعر مثل محمود درويش هو بحدّ ذاته مناسبة، وغالبا ما تستثمرها الصحافة الادبية في مقاربات أفقية، تمسّد ريش الطائر لكنها تكسر

البيض في العشّ، لأنها مسبوقة بطوية ينقصها الفضول المعرفي، وان كان حبرها يسيل كاللعاب على التغطية الفورية.

وعندما قرأت الكتاب للمرة الاولى، احسست بأن الشاعر قرر منذ السطر الأول بل منذ القنديل الذي علّقه على مدخل الكتاب، وهو قول لمالك بن الريب سليل

القطا الضاّل في سماء محتقنة بالزفير، وأصداء الاستغاثات الرسولية، أن يحتشد بكامل طاقته في نصٍ تلتبس هويته على هواة النمذجة والتنميط الذين فضّلوا أن

يصبوا البحر في زجاجات كي يسهل تدجينه ونزع تياره الراعف، الموت، في الصميم من هذا النص، لكن القيامة هاجس مناوىء للموت، بل هي الدرع السحري الذي

اتقى به الشاعر الغياب، وللعنوان الذي اصطفاه دلالة تتجاوز المفارقة، فالغياب يتلاشى تحت سطوة الحضور الساطع، والذاكرة المسلّحة بسيرة فذّة من الشعر لا

تشكم الخيال بقدر ما ترضعه وتغذيه وتحرضه على المزيد من الجموح ............

وكتاب درويش هذا، من عائلة لم تبلغ القبيلة لقلّة افرادها، يغري قارئه حتى لو قرر الاستقراء بالانتشاء، وبالتالي بمستوى من التصادي هو أقرب الى المشاركة في

الشهيق، ولا أدري كم سأخسر من انتشائي بهذا النص اذا جهرت بما تغلغل منه في داخلي، لأنني عندئذ سأبحث عن معادل موضوعي قد لا اعثر عليه بيسر لما هو

ذاتي وانطباعي ومعايشة عن كثب، والسؤال الذي يتشكل منه مبتدأ هذه القراءة أو الاستقراء هو: هل ضاق الشعر فاتسع النثر أم العكس ؟ وهل تجلّت ثنائية

النفّري التي اساء الكثيرون فهمها في صيغة اكثر اشكالية، واكثر عصيانا على الفهم!

هذه المرة... هذا النص انبثق الشعر من فائض النثر.. اذا صح لنا مثل هذا التقسيم الاجرائي لتضاريس الكتابة، بحيث تغدو كالخرائط ذات خطوط طول شعرية

وخطوط عرض نثرية...

وهنا سأعترف ولو على حساب انانية شخصية بأن نص محمود درويش في حضرة الغياب قدم لي مناسبة طالما بحثت عن مثيلاتها، للبوح بهاجس مزمن.. هو

ما اسميه الشعرية الضالة..

الشعرية الضالّة هي باختصار عقوق الشعر، ازاء الوالدين الصّارمين، وهما الوزن والقافية، اذا نحّينا نية النظم، وهي الاقنوم الثالث في ديوان العرب، فهي مبثوثة

في نصوص قد لا يجازف الناقد المدرسي بتصنيفها شعراً ...

وبقيت هذه المساحة مهملة ومسكوت عنها الى أن اقترب من تخومها كولومبوس قصيدة النثر، وهو الباحث عن جذر تراثي لشرعية الشعر غير الموزون والمحرر

من القافية، وأتاح لنا البحث عن جذور لشرعية شعر قصيدة النثر قراءة نصوص هي من صميم الشعر رغم انها لا تقع ضمن ملكوته الرسمي الذي وضع له الحدود

النقاد الاتباعيون، وقدر تعلق هذا بنصوص محمود درويش التي تتحدى الكسل النقدي والنحل الشغوف بالرحيق الداجن في حدائق البيوت، فإن شعريته تسربت

بقوة الى نثره منذ يوميات الحزن العادي لكنها مكثت بقوة في ذاكرة للنسيان، وهو عنوان يتجاوز المفارقة أيضا لصالح جدلية آسرة، تقطع المتواليات الرّتيبة، وتفسد

على الحاسوب النقدي الأصم جداوله وخاناته...

فالذاكرة مضادة للنسيان وفق منطق مألوف، لكنها تنقض على وظيفتها وتتحول الى خيال يتغذى من مساحة النسيان، فما من خيال عديم الجذور في الذاكرة

وترابها، انه يعيد انتاجها بعناصرها، وبالمرئي والمحسوس والمشموم والمسموع فيها،

مزيد من النسيان، يعني مزيداً من التخييل، والنسيان في هذا السّياق هو نقيض التناسي، لأنه يتم عفويا واستجابة لنزوع عنيف نحو اعادة الخلق، او ما يسمى

في المعاجم الجمالية تصحيح الخلق، ان المخاطب في هذا النص هو المؤلف ذاته، والمونولوج الطويل لا يتقطّع الا عند منعطفات ينبثق فيها الواقع بكل صلابته

ويضغط ع ى الأصابع، وقد تكون الصفحات التي ينبثق فيها الواقع في بعده الحدثي واحيانا بملامحه الجغرافية كما في الطريق الى غزة، مونولوج يفلت من المخيّلة

عائدا نحو الذاكرة، فالأمكنة، والمنتج السياسي الذي يلقي ظلاله على المشهد البشري هي بالتحديد معرفة وبالتالي فهي استدعاء قصدي لما يتطلّب من الشاعر

موقفا اخلاقيا... وهذا ما يتكثّف بعبارة واحدة... هي انه سيلقي بضميره الى القطط اذا لم يعبأ بما يرى، وبما يشهد عليه من شروط باهظة تحاصر الناس الذين

هو من صلبهم!

٭٭٭

العلامات الفارقة في النصّ بين موت وموت وأب وإبن، وشعر ونثر تصاعدت وغلت حتى بلغت ذروة الاعتراف بالطلاق بين الشاعر والانسان العاديّ الذي لا

يصدق بأن واحدا زائداً واحد... قد يساوي مليون...

أب الشاعر مات بضربة شمس في رحلة الحج، والإبن ليس لديه كل هذا التعلّق الفطري بالحياة... لهذا فهو يموت بضربة قمر... وأنا أعلم جيدا ان هناك بشرا

يتصبب العرق على اصداغهم تحت شعاع القمر، لكنه عرق آخر لا يرشحه الجسد، بل ترشحه مسامات الروح لفرط الشفافية...

ان الموت بضربة شمس لا قيامة عاجلة تعقبه، أما الموت بضربة قمر، فهو القيامة العاجلة ذاتها لأنه مجرد وعكة عابرة، ومحمود درويش عاد من الموت مرّتين...

أعرف إحداهما خارج الكتابة، وأعرف الثانية من خلال الجدارية التي خرج فيها الشاعر ليواجه موته موتا لموت.... ويندر أن نجد شاعرا ظلّ يطارد الموت كي يدجّنه

ويحوّله الى يوم ثامن في اسبوع الحياة كدرويش، فقد رأى البياض البكر ذات موت عابر، لكن منابع السواد تحتاج الى رحلة أخرى، لا يتقنها الا من امتطوا موتهم

كما لو كان دابة... ولكزوه بالقدم كي يعدو بهم عائدا الى المهد! أو جلدوه بالسوط كما كان يفعل محي الدين بن عربي عندما تنوء دابة الجسد بحمولة الروح!

ان جموح هذه النص نحو قطع المتواليات الأليفة والرّتيبة، يصل أقصاه عندما تحل الذاكرة في الرائحة وليس العكس، فمن المعروف ان الروائح هي قرائن الماضي،

وهي التي تستدعيه مثلما استدعت الكعكة المغموسة في الشاي لدى مارسيل بروست مليون كلمة، وامتياز ما اسميه قطع المتواليات الأليفة في هذا النص ولدى

محمود بشكل خاص هو ليس ما شاع في معاجم الحداثويين العرب الذين افتتنوا بالثلج الأسود، وما يماثل هذه المفارقة لان المسألة انتهت الى رتابة أخرى مضادة،

وأصبح الثلج بحاجة الى العودة نحو بياضه كي يصبح استخدامه شعريا، ولافتا وقاطعا للمتواليات....

يكتب محمود درويش ص 99 :

في ظنّك انك تخطّيت العتبة الفاصلة بين الأفق والهاوية، وتدرّبت على فتح الاستعارة لغياب يحضر وحضور يغيب بتلقائية تبدو مطيعة وتعرف ان المعنى في

الشعر يتكون من حركة المعنى، في ايقاع يتطلع فيه النثر الى رعوية الشعر، ويتطلع فيه الشعر الى ارستقراطية النثر في هذه الجملة الاخيرة يتجلى القصد، ويضاء المونولوج الذي يتخلله الغموض بشكل سخيّ، ارستقراطية النثر... مقابل رعوية الشعر، انه فهم جمالي يذكّرنا

بتعريف جورج لوكاتش للرواية باعتبارها ملحمة البرجوازية لكن في أوروبا وحدها... ولأنني أعرف شغف محمود درويش بالنثر، الذي يصفه احيانا بأنه رحلة برية

بالجينز وعلى جواد بلا لجام، فإن ما يسميه ارستقراطية النثر هو تاريخ هذا النوع، الذي لا يزدهر الا في أزمنة يصبح فيها الانسان أقرب الى نفسه، بل يصبح هو

نفسه كما يقول الوجوديون الذين شكّلت فلسفتهم مظاهرة صاخبة ضد الاستلاب، وضد ان يكون الانسان سواه!

٭٭٭

يضيق الشعر ايضا فيصبح ملاذا وليس منفى، وقد شعرت بهذا لأول مرة عند محمود درويش عندما قرأت قصيدة أحمد الزعتر قبل ثلاثين عاما، فقد اتسع الشعر في

ذلك النصّ للقادمين من الصناعات الخفيفة، وللحصان الذي ضاع في طريق المطار، ولعبارات ما كان لها ان تندمج في نص شعري لولا فائض الشعرية القادرة على هذه

الحمولة، وقد تبدو بعض قصائد محمود درويش بالنسبة لقارىء لا يعرف اوزان الشعر وموسيقاه قصائد نثر، لا بسبب غياب الايقاع بل بسبب القدرة على اخفائه،

وقد يكون هذا هو ما أبقى محمود درويش في نطاق قصيدة التفعيلة، لأنه قال فيها ما هو مرشح كمضمون لقصيدة النثر حسب التعريفات العربية الحديثة، والشاعر

الذي يسوس احصنة قصيدته واحيانا كلاب زلاقته التي تزيد عن الأربعين قد لا يحتاج الى الكتابة باليد الاخرى، بعكس الشاعر الذي تسوسه الايقاعات وتستدرجه نحو

افخاخ الغنائية الصوتية المطفأة، لهذا تبدو « أدلجة « شكل شعري واقتراحه نموذجا بمثابة نذير بالنهاية وليس بشيرا كما يتوهم البعض بالبداية، ونحن في غنى عن التذكير

بأمثولات في تاريخ أدلجة الشعر، والغلو المفرط في تطريز اكفانه وتوابيته، ويكفي ان نتذكر بأن اشد غلاة المستقبلية في الشعر التي ظهرت في بدايات القرن الماضي في

ايطاليا وروسيا كان بيريلوك الذي انتهى الى تأليف وصفات في فن الطبخ بخلاف زملائه الأقل تطرفا وغلوا مثل مارتيني الايطالي ومايكوفسكي الروسي!

ميدوزا الشعر وميداسه!!!

لأن الأساطير، خصوصا الاغريقية فاضت عن أزمنتها فهي تبدو احيانا مفاتيح سحرية تدار في اقفال الواقع، ميدوزا كانت تحوّل كل ما تنظر اليه الى حجر، ولو

كانت شاعرة لأدرجها النقد العربي الكسول في قائمة شعراء المقاومة، عندما تحول الحجر الى وثن شعري في الانتفاضة، وكأنه مكتفٍ بذاته كسلاح وليس مجرد رمز..

وثمة سلالة شعرية تفعل ما كانت تفعله ميدوزا بحيث تنظر الى العشبة فتحوّلها الى حجر والى الجسد البشري الراعف بالحياة فتحوّله الى تمثال، فالبعض ممن

ادركتهم هذه الحرفة، وربما هم الذين ادركوها، يفقرون العالم بدلا من اثرائه، ويتوهمون بأن الشعرية هي تعبير مباشر عن الذات وليست محاولة للهرب منها

كما أجمع على ذلك اثنان متباعدان في كل شيء، هما كيتس الرومانسي و ت . س . إليوت .

ان تحجير الكائنات ليس من صلب هذا النشاط البشري، ولا هو من عوالمه التي تؤبد العابر وتجوهره.. لكن على نحو مضاد لفقه التحجير والتوثين، ان حجر

محمود درويش حتى في نصوصه الشعرية ذات العناوين المكرسة للمقاومة سرعان ما ينبت له جناحان ويتحول الى حجل، والشاعر لا يبهظ الاخرين بشروط لا

يقوون على احتمالها لأنه يبشر بالعادي بديلا للبطل، فالعادي من لحم وعظم ، والبطل تجريد لا يقبل اللمس، ولا يترجل من النصّ او المعجم الى التراب، وفي هذا

النصّ، يصبح المجرد ملموسا بالأصابع، فالعشب عشب ولا شيء آخر، والغزالة غزالة ولا شيء آخر، أما الحب فهو محرر من رومانسيته التي أنتجها فائض المكبوت

الجسدي، فلا تضيع حتى حصة النمش على صدر إمرأة من نصٍ يتصبب منه العرق،

نقيض ميدوزا الشعر هو من يحوّل الحجر الى كائن حيّ ينبض، فيضيف الى الحياة بدلا من ان يفقرها، وهذا كله يعيدنا الى مفارقة الحضور والغياب، حيث

يتجلى الحضور في أقاصي الغياب، وحين جعل محمود درويش من الزمان مكانا هو بيروت ومن المكان زمانا هو يوم من أيام آب )اغسطس( 1982 ، لم تكن هذه

التبادلية مجانية اوتلبية لهوى شعري يضيق بالمنطق وثنائياته، ثمة تجربة أعادت الى الفوضى نسقها السري لكن عبر اداء شعري يتجاوز بلاغة الأذن ويتعمد كسر

القافية خشية أن تتحول الى فخّ يستدرج بطعمه الشهيّ الأذن الأمية وغير المدرّبة، ميداس الشعر من طراز آخر، فهو يلامس الحجر فيحوله الى ذهب، وكذلك

القصدير والتراب، لكنه يموت جوعا في النهاية غير السعيدة لهذه الاسطورة الباذخة، فالخبز يتمعدن وكذلك الطعام... وحتى الماء..

ميداس الشعر الصافي، على الأقل بالمعنى الذي أراده بول فاليري . لم يحوّل محمود درويش النثر شعرا بلمسة ميداسية ساحرة، بل خلق تبادلية موازية لتبادلية

الزمان والمكان والحضور والغياب، واخترق الحاجز الوهمي بين ارستقراطية النثر ورعوية الشعر، ما دامت اللغة بكل جمالياتها والوعي بتوظيف مفرداتها تستطيع

احيانا اجتراح تعبير عصيّ على التصنيف النقدي.

٭٭٭

كتب محمود درويش في هذا النص ص 76 يقول:

في القاهرة الساحرة الساهرة تحلم بأنك في الجنة، فتقوم في الليل وتفتح النافذة لتتأكد من صحة الأبدية كلما رأيت النيل، لماذا نزلت عن الكرمل؟ يغيب السؤال

عن الآخرين ويحضر فيك وحدك، سرّيا وخفيا كآلام الشبح التي يوقظها عضو مبتور فتقول كفى هذا وتنام؟

لم يفقد مؤلف النص عضوا من جسده كي يستشعر هذه الحالة التي توشك أن تكون حكرا على من يعانونها، فمن تبتر يده او ساقه، يعاني من شبح العضو

المبتور اكثر مما يعاني من ألم البتر..

هذه عبارات قابلة للتأويل، ويمكن قراءتها على نحو متعدد، فالوطن وبالتحديد مسقط الرأس له مثل هذه المراوحة الشبحية في ذاكرة المنفي . لكن ما يحول

دون هذا الاستطراد هو خروج النص عن ثنائية المنفى والملكوت فالمنفى تاريخ ايضا، والوطن له تجليات غير جغرافية تماما، انه احيانا لحظة افتراق معرفي، وقد

يكون مجرد نقيض لشيء آخر غير المكان، ولا أدري لماذا يختزل البعض من الشعراء ونقادهم المنفى الى اسم اشارة فقط هي... هناك مقابل هنا...، ودرويش الذي

قارب ذات نصٍ شعري بين ايثاكا والطريق اليها . لم يكن يب شّ بالاقامة الأبدية في المسافة، لكنه أدرك ان الحلم يبقى أهم من المحلوم به، وأن الانسان هو الكائن

الذي علّمه امتياز الضجر ان يبتكر ما هو أبعد دائما، يقول في هذا النص ص 92 :

ضع قمرا على كل صفصافة، وفتاة على كل نافذة، وغزالا على كل نبع، ودع القصيدة تبني الجهة الجنوبية من العدم... ان أوجعك المنفى ولم يقتلك.

هنا، يتبدى الهاجس الوجودي لكن عبر غلالة من لغة بريّة، تليق بحنين وحشي الى ما يحوّل العدم الى شبه جزيرة، بحيث تبقى جهة ما مفتوحة على الأبدية،

أو على أي معنى يجعل الحياة جديرة بأن تعاش بدلا من أن تتحول الى أحجية، ان شجرة الصفصاف والنافذة والنبع هي عيّنات من واقع لا يكتفي بذاته، وأضافة

القمر الى الصفصافة والفتاة الى النافذة والغزال الى النّبع ليست مجرد استكمال لشرط شعري، بل هي الحياة ذاتها وقد أكسبت هذه الاشياء معنى انسانيا، ولو شئنا

المجازفة اكثر لقلنا ان الفن بعامة وليس الشعر فقط هو ما يضيف الى الشجرة قمرا والنافذة فتاة والنبع غزالا، وبالعودة الى موضوعة المنفى، فإن محمود درويش

يفهمه على نحو مغاير للشائع الشعري، تماما كما فهم الوطن ذاته على نحو أقل رومانسية وتجريدا من معظم الشعراء الذين تناولوه.

وطنه بسيط، وانساني، تتدلى من سقوف بيوته جدائل الثوم، والناس فيه عاديون، يحلمون بنهار حرّ، وظهيرة غير معتقلة، وهذا ما عبّ عنه في احدى قصائده

حين قال:

لنُصاب بالوطن البسيط، وباحتمال الياسمين

والشرط لتحقيق هذه الاصابة هو الذهاب بعيدا وعميقا في الدم والطحين، وهما العنصران الخالدان اللذان يمثلان طرفي معادلة الوجود: الحرية والضرورة، وكان

درويش قد قال في نص آخر:

انّا نحب الورد، لكنا نحب القمح أكثر.

وحين اقترب اكثر فأكثر من تعريف للوطن يحرره من التجريد، جعل لأحد دواوينه عنوانا بالغ الدلالة هو: ورد أقلّ

المنفى اذن هو ايضا مضياف الاختلاف والائتلاف، لكن شكر المنفى، ومديحه بشهامة يشترط عودة المنفي الى الملكوت، وهو ملكوت مزدوج لأن مثل هذا المديح

للمنفى لا يكون الا تحت الشجرة في مسقط الرأس، فالوطن زمان ايضا، وهو الصبّا المهدور الذي لا يستعاد الا بالابداع، تماما كما ان النهر لا يقطع مرّتين الا بسباحة

اخرى لا علاقة لها بالجسد ومهاراته في قطع الانهار...

ان القراءة البروكوستية المتعسّفة لمحمود درويش غالبا ما انتهت الى بتر ساقي الغزال والابقاء على صورته خارج الغابة، كنقش على اناء كما قال كيتس.

والتأويل الذي يركن الى معجم مقرر وسائد يعوق القراءة الحرة ، فالمنفى ليس واحدا للجميع... وكذلك الوطن.

ان ما سميته الشعرية الضالّة يتجلى في تعريفات آسرة لثمار وأشجار اختزلها العروضيون والنحاة الى نشارة خشب، ولنقرأ على التوالي هذه التعريفات التي

تعيد الحدائق الداجنة الى الغابة الأم:

التفاحة عض الشكل بلا عقوبة المعرفة .

الاجاصة نهد مثالي التكوين لا يزيد عن راحة اليد ولا ينقص.

العنب نداء الشكر ان اعتصرني في فمك او في الجرار.

التين انفراج الشفتين بإصبعين لتلقي المعنى الايروسي دفعة واحدة.

التين الشوكي .. دفاع العذراء عن كنزها .

الكرز اختصار المسافة بين شهوة العينين وصورة الشفتين.

السفرجل مشاكسة الانثى للذكر تترك غصة في حلق الخائب.

الرمان اختباء الياقوت في التورية.

ان هذه ليست فواكه الجنة، ولا هي قائمة يسيل لها لعاب الصحراء... انها أنْسَنَة لما هو معزول قسريا عن الانسان، وفي حذف الفاصل الوهمي بين وجود

ووجود، تكون الشعرية الضالة قد أمسكت طرف الطريق، لكن ليس من أجل السير عليه، بل لأداء رقصتها بجلال صلاة وثنية وشبقية ربيع ينبض فيه حتى الرّخام!

القصيدة الناقصة

ما من نص مكتمل، وما من خبر يشبع المبتدأ تماما وينهي الجملة الى الأبد، يقول درويش في هذا النص )وتبقى القصيدة ناقصة(، ألهذا يتدفق النثر من الجهة

الأخرى، وقد استدعي كاحتياطي تعبيري؟ أيهما يستجير بتوأمه: الشعر أم النثر؟

تذكّرت عندما قرأت جملة )وتبقى القصيدة ناقصة( ما قاله اليوت في قصيدة اغنية حب للعاشق بروفروك ... فقد انتهى الى رأي حاسم في الشعر عندما قال:

انه لمن المستحيل أن أعبّ عمّ اريد.

نعرف ان الشعر ليس في النهاية تعبيرا عما يراد وقد يكون بعكس ذلك تماما، لأنه ينشأ أثناء الكتابة لا قبلها، لكن الضيق الذي يشعر به بعض الشعراء ممن

ضاعف التاريخ والوعي حمولاتهم هو ما يدفعهم الى القفز عن الحدود، وهي حدود وهمية على أية حال، ما دام النّظم قد يكون نقيض الشعر وليس صفته

الخالدة،

ان الذبابة الوهمية التي تلمحها العين الكليلة في النعاس، هي من ابتكار هذه العين، وكذلك الفأر الوهمي الذي يلوح ويختفي في النّص، وقد يكون للقصة جذر

واقعي، لكن الفأر يتحوّل الى شيء آخر تماما، لعلّه الترميز اللاواعي لوجود صدوع في سور البيت او سياج الذاكرة، انه لمن عانوا مثل هذا الهاجس حالة من تسرب

العدم عبر ثقوب الحياة لهذا تتصاعد وتيرة الاسئلة التي لا اجابة عنها على الاطلاق الى ان تصل ذروة الميتافيزيقا كأن يسأل المؤلف نفسه قبل قارئه لماذا خلق الله

الذباب؟ وكان الشاعر كرورانسوم قد اوشك أن يتوقف عن الكتابة عندما سأله عامل في مزرعته سؤالا مماثلا لهذا!

ان الاحتراز الذي غالبا ما يدفعني الى تغليب الانتشاء على النقد والتحويل وأنا أقرأ كتبا من هذه العائلة قد يكون سبباً في البحث عما يختبىء وراء الكلمات،

خصوصا اذا كان مؤلف النص شاعرا شغوفا بالايحاء، ونازعا على الدوام لاتاحة الفرصة أمام قارئه أن يكون شريكا في رقصة او قبلة لا يمكن للفرد أن ينفذها بمفرده

الا إذا اطبق شفتيه على المرايا...

ان نص محمود درويش في حضرة الغياب دفاع لا تنقصه البسالة عن نثرٍ مفترى عليه، واعادة اعتبار لشعرية عصية على التدجين في أ سّة او توابيت، فالشجرة

الحالمة بالريح والثلج والاعشاش لا تعيش في قارورة،

والحصان لا يعدو في غرفة..

ان هذا النص مناسبة تغري بفتح ملف نقدي طواه الكسل، وحوّلته الاتباعية الى مقدس مُتحفّي، وهو آفاق الشعرية وتجلياتها في الكتابة، فالشكل المقترح

للقصيدة سواء كانت عمودية أو تفعيلة او قصيدة نثر هو أشبه بالثكنات التي ينتهي عند مداخلها الشّعر ليدخل طورا آخر، وكأنه شعر لمجرد انه نقيض التعريف

المدرسي السكولائي للنثر، يقول درويش ص 38 من النصّ:

وتسأل ما معنى لاجىء، سيقولون هو من اقتلع من أرض الوطن، وتسأل ما معنى كلمة وطن ؟ سيقولون هو البيت وشجرة التوت وقنّ الدجاج وقفير النحل

ورائحة الخبز والسماء الاولى... وتسأل: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة احرف لكل هذه المحتويات... وتضيق بنا؟

تعيدنا هذه التساؤلات، بل المساءلات المعرفية لهواة الاختزال، الى زنزانة الشكل، وضيق اللغة، وبدورنا نتساءل هل تكفي كلمة شعر وأحرفها الثلاثة لكل هذا..

ولنا أيضا؟؟؟

وبالمقياس ذاته هل تتسع كلمتا حب وحرب لهذا التاريخ المفعم بالتراجيديا حتى اظافره؟؟

ان للصمت بلاغته ايضا، فهو يتقطر كالكلام من خبرة عميقة، لكنه ايضا له صفة الثرثرة ان كان مجرد موت او متاخمة للموت، لقد قال حمزاتوف في كتاب ينتمي

الى هذه العائلة التي أنجبت في حضرة الغياب، انه تعلم الكلام والنطق به في سن الثالثة، لكنه لم يتعلم الصمت ويتقنه الا بعد الستين من العمر...

الوطن اذن، فائض عن حاصل اي جمع للعناصر سواء كانت التراب والماء.. ورائحة الخبز وقن الدجاج، او المعابد والمدارس والبيوت والذكريات، تماما كما ان

رائحة الوردة ليست جزءا عضويا من نسيجها في التشريح، وهذا الوعي لدى درويش بمفهوم الوطن مفارق بامتياز لمفهوم يأسر التاريخ كله في ثلاثة احرف، فالوطن

ليس ذكريات او نوستالجيا تخص الفردوس المفقود، انه ايضا حنين الى المستقبل، واحيانا استذكار لهذا المستقبل فهو فردوس قادم لكن عبر تجليات انسانية وأرضية،

وقد يتبدد العجب اذا قرأنا آلاف النصوص المدججة بكلمات كالحجارة الكريمة، تعزل الوطن عن الناس والزنبقة عن الدودة، والحمامة عن الغراب ثم انتهينا الى

انها تفقر الوطن وتقترض منه بدلاً من أن تسلّفه وتثريه وتضاعف كائناته ومحتوياته فنيا!

ان الوعي بمختلف ابعاده، حتى الاقتصادي منها ينقذ النّص من الرّخاوة والهلامية، ويحرره من الأفقية، لهذا لا يمكن لوعي مطابق للسائد ان يجترح نصاً مفارقا

له.

٭٭٭

ما الذي يستطيع الشاعر ان يفعله امام جرّافة التاريخ غير ان يحرس شجر الطرقات القديمة؟ ونبع الماء المرئي وغير المرئي وأن يحمي اللغة من ركاكة التراجع

عن خصوصيّتها المجازية!

هذه الكل ات التي يقدمها درويش كجملة معترضة في كتاب تضع النقاط الضالة او المحذوفة على الحروف، فهو يذكّرنا بعبارة اثيرة لدى مالارميه، وهي )ان

مقاومة الشاعر تبدأ من خندق اللغة حين يقاوم الصدأ الذي يتراكم عليها، وكانت وصية مالارميه هي على الشاعر ان يمحّص لغة القبيلة، يوحي درويش للمرسل

اليه بأن الركاكة التي تسوّغها أطروحات النقد المداجي والداجن الذي ينافق الواقع بدلاً من الاشتباك معه هي في النهاية انحياز لجرافة التاريخ، وليس لمحراثه

ومعوَله، فالنص الرديء يسيء الى القضية التي يحتجّ لها، فيصبح كما لو أنه يحتجّ عليها، لكن هذا لا بد له من معيار آخر غير الذي رسّخه المدرسيون، والذين

صدقوا ان الطبشورة بيضاء لأن اللوح أسود!

وثمة على ما يبدو مقتربان لفهم ظاهرة مزمنه في الشعرية العربية، أحدهما يتعهّد التضييق والاختزال والقضم، والآخر يتولى التوسيع والتعميق والعافية،

ان وطنا صغيرا يتشكل من حانوت وزقاق وذكريات شاحبة قد لا يصلح وطنا شعريا الا اذا مهرته الأصابع النازفة بما يجعله بسعة كوكب او مجرّة

وقد يبدو هذا تعويما لتعريف الأوطان كما حددتها أدبيات المنفى الكلاسيكية، لكنه في حقيقة الأمر اعتاق للوطن من النشيد الضيّق، ومن طابور الصباح

المدرسي ليصبح مرادفا للحرية، ان لم يكن الحريّة ذاتها...

ومن يدري لعلّ المفاهيم القاصرة للوطن، هي ما أدت الى تحويله الى منفى، على الأقل في هذه المنطقة العربية التي تسقط فيها العواصم العريقة خلال ايام

فقط!

ان محمود درويش ينكأ جرحا غير قابل للإندمال في ثقافتنا، ولديه من الشكوك ما يكفي لتحصينه من اليقين الببغاوي، فالاجابات عن اسئلته قد تقع في جهة

خامسة،

لو صدّق الشاعر ما قاله الدبلوماسي العربي في السيارة التي هرّبته من بيروت الى دمشق عام الاجتياح لكفر باللغة العربية... لكنه كما قال شَِقَ بحروف العلّة

وكانت المرة التي لم يستطع فيها البكاء، رغم جدارة الواقعة بالنواح ذلك لأن النار والدمع لم يجتمعا في عينيّ محمود درويش، وهو الخارج للتو من بيروت ليعلن

للملأ ان صبرا وشاتيلا هما فضيحة عصرنا حتى الأبد...

ان الذاكرة في هذا النص ليست للنسيان، بقدر ما هي لتقطير أحداث لم يشأ الشاعر سردها على نحو روائي مألوف، فالجراحة الجسدية ومراوغة القلب بين سرير

ممغنط بطاقة هائلة من الاقبال على الحياة... وطبيب يوشك ان يسدل الستار، والبياض البكر الذي يندف في الذاكرة، وصورة الأم وهي تلوح وتختفي، وحوار

المطارات في زمن تساقطت فيه الاجنحة كلها وتسلحف حتى صقر الاعالي، لفرط ما فاض من جاذبية الأرض .. كل هذه الوقائع تتخلى عن برودة ال سّد والنثرية

الوظيفية، كي تلتئم في نسقٍ هو شعري بامتياز، بالمعنى الذي أشرت اليه من قبل وهو عودة الشعرية الضالّة الى الغابة الأم والى براري ما قبل رسم التضاريس

وخطوط الطول والعرض، في الطريق الى رام الله... يتوثب القلب كما يقول صاحبه ككلب الصّيد، وتسري قشعريرة الشاعر في انساغ قارئه غير المحايد، الذي يستشعر

نباحا جريحا في صدره..

هناك، على الجسر الذي لا نهر تحته كما يقول لأن مياهه تعرّضت للنهب،

لا يكون الفلسطيني في هذه اللحظة هو نفسه، وقد لا يكون المرء على الاطلاق ما كانه قبل قليل... لأن غزاة الماء واليابسة والهواء يفتشون حتى المسامات

بحثا عن عرق مهرّب.

اخلع حذاءك، واخلع ساعتك، فك حزامك، وانزع نظارتك، وادخل في الجهاز...

لكأن درويش يوحي للمرسل اليه، بأن خلع الحذاء هو خلع القدمين، ونزع الساعة هو نزع التاريخ، وفك الحزام هو استباحة الجسد ونزع النظارة هو خلع

عيني أزرق اليمامة لا زرقاءها هذه المرة....

اما الدخول في الجهاز فهو الدخول الى كوكب ضاق مثل زنزانة، ولا يرنّ في الجهاز غير القلم الفاخر، لهذا يقرر صاحبه الذي كتب به تراجيديا الاغريق الجدد أن

لا يحمله... وحقيقة الأمر ان رنينا آخر كان سيدفع الضابط الاسرائيلي لاعادة تفتيش جسد محمود درويش، وهو رنين القلب الذي شهد أربعة عقود على الاقل...

ونبض بأضعاف طاقته، وحين غضب منه صاحبه ناداه ذات منفى ساحلي قائلا: ايها القلب الكلب فكفّ عن الدلال واستجاب، لأن الرحلة طالت وقد تطول.. في

زمن ندر فيه الشهود والشعراء، يقول درويش ص 152 من هذا النص:

وان سألوك عن قوة الشعر قل ليس العشب هشاً كما نرى، ولا ينكسر منذ اخفى ظلّه المتواضع في سر الأرض، وفي العشب على الصخر اعجاز الكلام النازل من

غيب، بلا ضجيج وأجراس، العشب نبوءة عفوية لا نبيّ لها الا لونها المض 11 اد لليباب، والعشب نجاة المسافر من بشاعة المنظر، ومن جيش يطوّق الطريق الى

الممكن، والعشب شعر البديهة السّلس الممتنع السهل والسّهل الممتنع، ودنوّ اللغة من المعنى واقتران المعنى بضيافة الأمل...

هذه عيّنة من حبر مصفى، ومن رهان الفراشة على البقاء على قيد اللهب رغم انقراض سادة الغاب حيث ما من قفص للفراشات في حدائق الحيوان رغم ان

الضواري تعض القضبان حنينا الى براريها، ان رهان محمود درويش الشّعري، لا يعتريه ندم، رغم القبح واللزوجة اللذين يتسللان الى الشعر كما تطن البعوضة

على كفل الحصان...

لهذا قطع درويش العمر شعرا، وسيقطع الباقي منه وهو لا يقاس بالتقاويم الصمّء شعرا أيضا، غير عابىء بالحدّ الفاصل بين غزال أبيض وغزالة بلون الحنّاء

أيهما فاض عن الآخر؟؟ شعر رمى سرجه وقطع اللجام وصهل حتى أيقظ الجبل من سباته الكرملي، ام نثر يحاول التحرر من التسمية التي حاولت نزع شعريته

من محارات ظنّها البحارة المبتدئون حصى؟

الاجابة عن هذا السؤال ممتدة من الفاتحة حتى الختام في نصٍّ ضاق عليه قميص النوع الأدبي، فخلعه، وحين قرر ان يعدو خلع الحذاء المدرسي الذي قرره

النقد الداجن صفةً للصبي المهذّب، الذي لا يقترب من الخط المرسوم بغبار الطباشير بين شعر وشعر.. كي لا نقول بين شعر ونثر. وبين غزالة درويشية بيضاء واخرى

بلون الحنّاء! !!

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.