}

في ذكرى السياب.. البدر الذي فقدناه

راسم المدهون 28 ديسمبر 2019
استعادات في ذكرى السياب.. البدر الذي فقدناه
"تظلُ حياته ورحيله الفصل الأكثر تراجيدية بمسيرة الشعر المعاصر"
تظلُ حياة ورحيل بدر شاكر السياب الفصل الأكثر تراجيدية في مسيرة الشعر العربي المعاصر والحديث. بدر شاكر السياب الذي عاش بين كانون الأول/ديسمبر 1926 وكانون الأول/ديسمبر 1964 عانى سنوات طويلة من عمره الزمني القصير من مرض أنهك جسده وأثقل روحه، وأصاب بمقتل تجربته الشعرية الكبرى التي توقفت في ذروة صعودها وعطائها.

منذ البدء كان واضحا لعشاق الشعر أن السياب بموهبته الكبرى كان صوتا مختلفا، لكنه فوق ذلك كان طموحا مختلفا يذهب لاستكشاف المجهول في التجدد والتحديث والانقلاب على تقليدية الشعر وسكونيته. هو ابن مكانه حيث العراق أبرز ساحات الشعر، وابن زمانه حيث النهوض بعد الحرب العالمية الثانية لتحقيق الذات وردم هوَة التخلف.

بدر شاكر السياب الفتى الناحل الجسد والريفي الفقير الذي ولد في قريته الصغيرة "جيكور" في منطقة "أبي الخصيب" قرب البصرة (وهي أيضا المكان الذي جاء منه سعدي يوسف) عاش فورة السعي للنهوض فاختار الشعر ميدانا وفنا ليكون أرض الصراع مع التقليدي خصوصا في سكونيته وثباته ومحرَماته التي رآها مجرَد "تابوهات" بائسة ليست أكثر من معاول هدم تساهم في تكريس الراهن وتأبيده.
قيل كلام كثير عن أن السياب و"ثورته" الشعرية كانت ترتبط بمساهمات مجموعة من الشعراء العراقيين أبرزهم عبد الوهاب البياتي، نازك الملائكة وبلند الحيدري وهو قول حق، لكن هذه الكوكبة من المبدعين كانت تقودها موهبته الفذة والاستثنائية حيث لا تكفي تجريبية التغيير في الشكل الفني للقصيدة إن لم ترفدها قصائد عظيمة كتلك التي اقتحم بها بدر عالم الشعر وساحاته والتي بقي معظمها يتردد حتى يومنا هذا.
ثقافة السياب نهلت من نبعين رئيسين، التراث أولا، ثم الثقافة الغربية الحديثة بعد ذلك وتحديدا منذ دراسته في "دار المعلمين العليا" رفقة الشاعرين العراقي عبد الوهاب البياتي والسوري سليمان العيسى، وهي الدراسة التي فتحت له أبواب التعرُف على الشعر الإنكليزي في صورة جديَة والاستفادة من فضاءاته الحيوية وتجارب مدارسه ما دفعه لارتياد موضوعات جديدة لا نبالغ حين نقول إن بعضها لم يكن مسبوقا في شعرنا العربي كما فعل في قصائد مثل "الأسلحة والأطفال" و"أنشودة المطر" و"غريب على الخليج" و"المومس العمياء" وغيرها.
ثمة وعي البداية الصائبة والمفتتح الباهر للتجربة، والسياب آنذاك صوت الجمالية الفنية العالية التي سعت بجدارة لامتلاك ناصية المزج الخلاق بين الموضوعات والمفاهيم وبين المشهد الشعري الباهر في اتكائه على الصور الشعرية المتفردة وجاذبية حضورها في بنائية القصيدة وقدرتها على "تأليف" حالة شعرية، أو بالأدق مناخ وفضاء يمنحان الشعر وهجا لم تعرفه قصيدة العرب في تلك المرحلة المبكرة من رحلة التحديث والتجدد:

"أصيح بالخليج

يا خليج

يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى

فيرجع الصدى

كأنه النشيج

يا واهب المحار والردى".

كان بدر يتعمد إسقاط اللؤلؤ في تكرار الصدى لجملته السابقة في مشهد تصويري حركي يباغت الشعر الساكن ويباغت سكونيته معا، وهو فعل ذلك بانتباه شغوف للعلاقة بين هذا كله وبين فكرة "تنغيم" القصيدة الشعرية وتحقيق علاقة جدلية بين تلك الصور والمشاهد وبين موسيقى الشعر، وأعتقد أنه حتى زمن قريب ظل السياب أمير هذه العلاقة ومبدعها. ما كتبه نقاد الشعر عن "غريب على الخليج" و"أنشودة المطر" كان شهادات كبرى على المدى الذي امتلكته شاعرية السياب لتحقيق إبهار قارئ الشعر وإنجاح فكرة "زجه" في معركة الحداثة بل ثورتها والتي لا يخفى أنها تؤثر عميقا في مجالات الحياة العربية جميعا.

عاش بدر شاكر السياب حياة الفقر والعوز ولا يزال مؤلما لنا جميعا أن نقرأ رسالته الشهيرة للدكتور أحمد زكي، رئيس تحرير مجلة "العربي" الكويتية الأسبق، التي طالبه فيها السياب بنشر قصيدة له في المجلة ليتمكن من شراء الدواء حين كان المرض يفتك بجسده الناحل العليل، وهي المرحلة التي سبقت بقليل ذهابه للكويت ودخوله "المستشفى الأميري" وتقديمه تسجيلات لقصائده بصوته بمساعدة من الكاتب الفلسطيني الراحل ناجي علوش.
بدر شاكر السياب، الموهبة الكبرى والمتفجرة، هو إلى جانب مرضه الجسدي عاش قلق الحالة العراقية وتوترها في السياسة فعرف الالتزام الحزبي زمنا لا بأس به، ثم عاش خروجه العاصف منه ما عرَضه لحملات تجريح ظالمة لم تر فيه سوى الفرد الحزبي الذي "يخضع" للقوانين والعادات الرتيبة والمتعسفة. هو الفقير الذي جاور بساتين النخيل ومات في بيته الذي عجز عن تسديد أجرته شهورا طويلة ولم يشفع له موته الذي لم يكن كافيا لإقناع مالك البيت بالعدول عن تنفيذ حكم بإخلاء عائلة السياب من البيت، حتى قيل إن ذلك المالك لم ينتظر حتى تشييع جنازة الشاعر الراحل.
لست أعرف ما إذا كانت تلك الحادثة دقيقة، لكنها في الأحوال كلها تعكس حالة الشاعر وصورة ما عاناه من تنكر محيطه وزمنه معا وعلى نحو جعل تلك الحياة القصيرة التي عاشها مشهدا تراجيديا ذروة مأساويته أنه وقع فعلا وأمام نظر الجميع. لا أنسى يوم وقفت أمام تمثاله في البصرة أن الاحظ أن رصاصة من رصاصات الحرب تمكنت من ثقب جيبه، وهو الذي عاش عمره كله بجيب مثقوب أو بلا جيوب أصلا.

تأثير واسع وعميق
تجربة بدر شاكر السياب الشعرية التي انقطعت في ذروتها كان لها تأثير واسع وعميق في كل الأجيال الشعرية العربية التي جاءت بعده، ولا نبالغ إذ نشير إلى أنها جعلت الشعر العربي بعده شعرا مختلفا إلى حدود بعيدة، وهي حقيقة رأيناها عند الغالبية العظمى من شعراء الحداثة العرب في مشرق وطننا العربي ومغربه وبالذات في المراكز المدينية الكبرى لهذا الشعر، دمشق والقاهرة وبيروت وبالطبع بغداد. إنها ثورة ولع الشعر بالحياة، وولعه بالتعبير عنها في لغة مختلفة ووسائل تعبير مغايرة عصفت بالسكونية والجمود، ونقلت الشعر إلى رحابة أوسع، خصوصا بعد انتشار شعر السياب على نطاق واسع انطلاقا من بيروت الستينيات حيث كانت تدور حوارات وجدالات وأبحاث عاصفة أخرى شارك السياب في بعضها، وشارك شعره وإبداعه فيها كلها بما حمله من حيوية ومن ألق جديد.

بدر شاكر السياب هو شاعر وهو رمز أيضا ارتبطت باسمه كما بشعره موجات متلاحقة من تجارب التجديد والتحديث بعضها حافظ على سقف ما حققه السياب فيما تجاوز بعضها الآخر ذلك إلى "قصيدة النثر" التي انتشرت تجاربها وتعاظم حضورها في المشهد الشعري وصار لها شعراؤها وقراؤها على امتداد الساحة العربية.
ذكرى رحيل بدر شاكر السياب التي تمر هذه الأيام تدفعنا إلى العودة لمجموعاته الشعرية لاستعادة ما فيها من زخم شعري وجمالي، ومن أناقة اللغة والصورة وانفتاح القصيدة على حالات وموضوعات بكر ارتادها هذا الشاعر المبدع بكل ما في الشاعر الرائد من حمّى الريادة ومن عصفها في روحه وكيانه فاستحق أن نكافئه بما نستطيع، وما نستطيع هو ما قاله محمود درويش في رثائه: أن نحفظ شعره عن غيب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.