}

المسرح الإسرائيلي بدأ طريقه مستسلمًا للرقابة الحكومية الرسمية

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 2 سبتمبر 2018
استعادات المسرح الإسرائيلي بدأ طريقه مستسلمًا للرقابة الحكومية الرسمية
من مسرحية "في صحارى النقب"

من الاستنتاجات الرائجة في ما يتعلق بتاريخ المسرح الإسرائيلي أن المسرحية الغنائية "ملكة الحمّام" للكاتب الساخر حانوخ ليفين، التي عُرضت في عام 1970، وتم إسقاطها عن الخشبة بعد تسعة عشر عرضًا فقط، كانت بمثابة الضحية الأبرز للرقابة الصهيونية على المُصنّفات الفنيّة، غير أن معرضًا جديدًا يُقام هذه الأيام في قاعات "مسرح هبيما" في مدينة تل أبيب، في مناسبة مئوية هذا المسرح الذي تأسس في روسيا وهاجر إلى فلسطين، كشف النقاب عن مواد جديدة توضح أن أسس هذا الرقابة وُضعت عام 1949، فور تأسيس دولة الاحتلال، وأن من وقف وراء ذلك لم يكن سوى ديفيد بن غوريون، أول رئيس حكومة لدولة الاحتلال، والزعيم الصهيوني الأعلى سلطة ونفوذًا في ذلك الوقت.

وحدث ذلك بموازاة قيام المسرح المذكور بعرض مسرحية عنوانها "في صحارى النقب"، للكاتب المسرحي الشاب آنذاك يغئال موسينزون.

وقصة هذه المسرحية "بسيطة إجمالًا"، كما يؤكد أحد الممثلين الذين شاركوا فيها، لصحيفة هآرتس.

ووفقًا لما يقوله: تجري أحداثها خلال مجريات حرب 1948ـ التي كانت ما تزال مشتعلة وقت كتابة المسرحيةـ وتتركز في كيبوتس مُحاصَر في النقب، اسمه "بكعات يوآف". وتدور حول خلاف ينشب بين قادة الكيبوتس، وبينهم وبين قوات الجيش الإسرائيلي المرابطة هناك، حول السؤال ما إذا كان ينبغي الاستمرار في الدفاع عن الكيبوتس أم الانسحاب منه؟، بينما كان يتعيّن على رئيس الكيبوتس، على جبهة أخرى، أن يقرر بشأن إرسال ابنه في مهمة إنقاذ الجرحى، التي لن يعود منها حيًا، كما يبدو.

وتؤكد أمينة هذه المعرض "من الواضح أن اسم الكيبوتس كان مجرّد بدعة، لكن طبقًا لكل ما يحدث هناك، أيقن الجميع أن الحديث يدور حول كيبوتس حقيقي اسمه نغبـا. فالكثير مما ورد في المسرحية مُقتبَس من إجراءات عسكرية حقيقية حدثت في أثناء تلك الحرب".

أقيم العرض الأول لهذه المسرحية في بداية شباط/ فبراير 1949، في الأيام الأخيرة من الحرب، وبعد نحو تسعة أشهر من الأحداث التي ترمز إليها المسرحية. وبعد ذلك على الفور حدث أمران: أولًا، حصد العرض نجاحًا باهرًا، من الجمهور والنقاد على حد سواء؛ ثانيًا، تعرض إلى هجوم حادّ جدًا.

وتمحور الخلاف حول مشهد مركزي في المسرحية، يناقش خلاله قائدا الكيبوتس وضابط الجيش مسألة إبقاء قوة من الجيش لحماية الكيبوتس. وفي حوار مطول، يشرح الضابط ـ مندوب لواء غفعاتي الذي شارك في القتال في منطقة النقب ـ  سبب "عدم جدوى البقاء، من منظور عسكري".

وتقول أمينة المعرض إنه على ما يبدو لم يكن مقبولًا أن يقترح الجيش على الناس التخلّي عن الكيبوتس. ويستذكر بعض الممثلين أن أحد العروض الاحتفالية الأولى أقيم أمام جمهور من المدعوين ضم، بين من ضمّ، جنودًا من الجيش. وجلس ممثلو لواء غفعاتي في شرفة المسرح. وحين رأوا أن مندوبهم على خشبة المسرح يطلب الانسحاب من المكان ثم العودة إليه بعد تحقيق الانتصار، نهضوا وغادروا القاعة، وصعدوا إلى حافلة الباص، وسافروا في شوارع تل أبيب وهم يصرخون: "تبًا لمسرح هبيما، عاش لواء غفعاتي".

ويقول الباحث مردخاي ناؤور، الذي درس الحادثة، إن جنودًا وزعوا منشورات احتجاجية خلال عروض المسرحية، وحاولوا التشويش عليها، وطالبوا بتشكيل لجنة تحقيق، بل وتوجهوا إلى وزير الدفاع ورئيس هيئة أركان الجيش. كما أن ضابط الثقافة في لواء غفعاتي إبان الحرب أصدر منشورًا خاصًا باسم اللواء دعا إلى إصلاح ما تشوّه. وسرعان ما أجريت جولة أولى من التعديلات على النص، جرى خلالها تلطيف كلام الضابط.

تدخّل بن غوريون

لكن هذا التعديل لم يكن كافيًا. ففي يوم 28 شباط/ فبراير 1949، بعد نحو ثلاثة أسابيع فقط من العرض الأول وبينما كانت الحرب ما تزال مستمرة رسميًا، تدخل رئيس الحكومة ديفيد بن غوريون شخصيًا في القضية.

واستدعى بن غوريون، في ساعات الظهيرة، كلًا من مخرج المسرحية وممثلين اثنين منها إلى لقاء خاص.

ويكشف محضر اللقاء، الذي يشتمل عليه المعرض، حوارًا أظهر رئيس الحكومة خلاله تبحرًا في نص المسرحية وحزمًا إيديولوجيا في الاحتجاج على ما وصفه بأنه "التشويه الكبير لصورة الجيش". وقال لهم بن غوريون: "(بحسب المسرحية) لم يقم الجنود بأي عمل في هذه الحرب، ولم يحاربوا. وهذا تشويه لصورة الجيش"!.

ثم انتقل الأربعة إلى تحليل شخصيات المسرحية، وتحدثوا عن الحرية الفنية، وناقشوا حدود الأجندة في المسرح. وفيما أكد المسرحيون أن المسرحية تخلو من أي تصريحات سياسية وتحكي قصة شخصية وإنسانية ليس إلا، أصرّ بن غوريون على أنها تشوّه "المبدأ الموجِّه للحرب وأن الجيش هو القوة المقررة"، وقال "إن التشويه فيها عميق جدًا". وفي النهاية، جرى إدخال تعديلات إضافية أخرى على النص، حتى تحوّل الضابط من مؤيد متحمس للانسحاب إلى معارض عنيد له.  

تعتقد أمينة المعرض أن هذه الحادثة انطوت على نقطة بداية تحوّل المسرح الإسرائيلي من جماعة مستقلة إلى مؤسسة خاضعة للرقابة الحكومية، وأنه في اللحظة التي قبل فيها المسرحيون بهذا الوضع، فقدوا استقلاليتهم المرجوّة. وتضيف أن الحادثة صاغت ما تسميه "الحساسية الإسرائيلية الفائقة تجاه مكانة الجيش"، وهي تؤكد "إننا ما نزال في نقطة نعتبر فيها المساس بمكانة الجيش مشكلة، وما يزال من الصعب على الجمهور الإسرائيلي تقبل محاولات القول إن الجيش لم يكن على ما يرام، وخصوصًا اللواءات التي تحظى بالتمجيد والإكبار، على غرار لواء غفعاتي!".

بالتوازي مع هذا شرعت المسارح في ممارسة رقابة ذاتية بدافع الخوف، واستسلم الفنانون المسرحيون أيضًا وتجنبوا تقديم نصوص متحديّة. 

"ملكة الحمّام"

بعد حادثة مسرحية "في صحارى النقب" بأكثر من عقدين قدّم مسرحي إسرائيلي آخر هو حانوخ ليفين (1943- 1999) مسرحية "ملكة الحمّام" على خشبة "مسرح الكاميري" في تل أبيب.

وبدأ ليفين الكتابة في نهاية ستينيات القرن العشرين. ويمكن أن نحدّد في كتابته عدة اتجاهات، مثل المسرحية السياسية الساخرة، والمسرحيات العائلية المكتوبة بأسلوب الكوميديا السوداء، وما عرف باسم "المسرحيات الميثولوجية" التي تستقرض موضوعات ودلالات من الميثولوجيا اليونانية أساسًا.

وبعد حرب حزيران/ يونيو 1967 كان ليفين مسرحيًا مبتدئًا لكن ما قدمه خلال عامي 1968- 1969 حمل أبرز السمات المميزة لأعماله المسرحية اللاحقة. وتعتبر مسرحيته "أنت وأنا والحرب القادمة" مسرحية ساخرة مناهضة للحرب مكتوبة بالأسلوب التقليدي للكباريه السياسي.

يعرض ليفين الحرب عامة، وحروب إسرائيل على وجه التحديد، من وجهة نظر مناهضة للعسكرة بصورة جليّة. فالحرب، في قراءته، هي إلغاء لإنسانية الإنسان ولا تحمل سمات البطولة، وما من حضور فيها للشعب والوطن والتاريخ وإنما فقط للقتل والموت والثكل. وإنّ أي مظهر قوميّ أو وطنيّ هو مظهر عسكريّ قبل أي شيء، علاوة على كونه تعبيرا واضحا عن إسقاط إنسانية الإنسان باسم شعارات فارغة وأساطير فاقدة لأي معنى أو دلالة. وبذا فإنّ ليفين، وخلافا لجميع المسرحيين الإسرائيليين الذين سبقوه أو عاصروه، أعلن القطيعة التامة مع الإجماع، الذي كان مهيمنًا آنذاك. فلقد ظهرت قبل ليفين مسرحيات إسرائيلية حاولت، بكيفية ما، أن تعرض الحرب من زاوية اللابطولة سوية مع طرح بعض الشكوك وعلامات الاستفهام (مثل بعض مسرحيات الكاتب نسيم ألوني) لكنها لم تتعد ذلك إلى التصادم مع الإجماع. ولذا قدّم ليفين أنماطًا جديدة من المسرح الإسرائيلي الآنيّ، وجدت انعكاسًا لها في المسرحيات التي كتبها في السبعينيات والثمانينيات مثل "ملكة الحمّام" و"الوطنيّ" و"شيتس" وغيرها. كما تأثر به كتاب مسرحيون آخرون.

حتى النقد الإسرائيلي المؤسساتيّ يرى أن ليفين مثّل مؤشرًا مهمًا إلى "اتجاه جديد وانعطاف شديد الأهمية، سواء من ناحية التطرّق إلى الإجماع الإسرائيلي التقليدي، أو من ناحية الأسلوب المسرحي الخصوصي والإيديولوجيا النظرية- السياسية".

ويرى عدة دارسين أنّ ليفين ابتكر في أعماله الأولى "أنت وأنا والحرب القادمة" و"كتشوب" و"ملكة الحمّام" أداة للنقد السياسيّ. وبرأيهم يتمثل جوهر هذا النقد في تعرية الخداع الذاتيّ لدى المجتمع الإسرائيلي، من منطلق الفرضية الذاهبة إلى إمكان اتخاذ مواقف تفتقر إلى الخداع الذاتي وهي المواقف التي يتميّز بها ليفين نفسه. كما يتمثل في تعرية المعاناة التي يتسبب المجتمع الإسرائيلي بها من منطلق الفرضية القائلة إنّ في وسع هذا المجتمع- إن أراد- عدم التسبب بها. وعندما كتبت هذه الأعمال الساخرة في أعقاب حرب حزيران/ يونيو 1967 كانت كذبة "اللاخيار" واحدة من المصادر الرئيسية لخداع الذات والمعاناة في المجتمع الإسرائيلي. ولذا نصادف أنّ ليفين قد وجّه إليها الكثير من سهام نقده.

وعندما عرض عليه "مسرح الكاميري" في تل أبيب تقديم "ملكة الحمّام"، جوبه هذا العرض بمعارضة شديدة بين الأوساط المتنفذة في المسرح، من إدارة وممثلين. ففي مقابلة مع ملحق "حوتام" (كان يصدر عن صحيفة "عل همشمار" التابعة لحزب مبام)، نشرت في مطلع كانون الثاني/ يناير 1970، قال ليفين: "إنهم (في مسرح الكاميري) يماطلون ويماطلون. ولست متأكدًا فيما إذا كانوا ينوون تقديم المسرحية في النهاية". واشتكى أيضا من أنه يتعرض لضغوط من أجل تلطيف النص. وفي النهاية قرر مدير المسرح تقديم المسرحية. وتزامن القرار مع قيام الإدارة بالتفاوض مع بلدية تل أبيب من أجل تبني المسرح وتحويله إلى مسرح بلدي خاضع لإشراف البلدية المباشر ومدعوم من جانبها.

وفجّر هذا القرار زوبعة من السخط على النص قبل أن يجري تقديمه على الخشبة. وكان محرر صحيفة "معاريف"، وهو أحد أعضاء "مجلس الرقابة على الأفلام والمسرحيات"، قد سرّب مقتطفات من النص إلى صحيفته، فقامت بنشرها كاملة.

قالوا في البداية إن كلامها بذيء، وإنها غير أخلاقية. وكان من أغرب الحجج ما كتبه المحرر المذكور نفسه حيث قال: "صحيح أن الرقابة سمحت، بعد جدل طويل، بعرض المسرحية. لكن هذا كان في سبيل المحافظة على الديمقراطية. وكانت الرقابة متأكدة من أن أي مسرح سيمتنع عن عرض المسرحية من تلقاء نفسه. وهكذا نحافظ على الديمقراطية ونمنع عرض المسرحية".

في إثر هذا النشر المغرض، هددت الكتل الدينية بالانسحاب من الائتلاف البلدي إذا قدّم المسرح "ملكة الحمّام". وكان تنفيذ هذا التهديد معناه، عمليا، تفكك الائتلاف البلدي بزعامة حزب العمل، الذي لم يأل جهدا من جانبه في الضغط على المسرح من أجل إسقاط المسرحية.

وحدث كل هذا وغيره قبل أن تبدأ عروض المسرحية.

وفي مطلع نيسان/ أبريل 1970، الموعد المقرر لبدء العروض، انفلتت حملة الملاحقة من كل عقال. وبدأت الحملات التأديبية.

يقول أحد الذين أشرفوا إداريًا على المسرحية:

"منذ العرض الأول جاءت إلى القاعة فرقة أشخاص بهدف تفجير العرض، بغض النظر عما سينطوي عليه. ففي النشر المسبق، وبصفة خاصة في صحيفة معاريف، قيل إن المسرحية تمس الأرامل والآباء الثكالى والطيارين والجيش. واجهنا جمهورا مغررا به كان ينفجر صراخا وصفيرا وشتما بمجرد سماعه كلمة أرملة أو طيار، بغض النظر عن المضمون. وفيما بعد ألقيت على خشبة المسرح قنابل تنبعث منها روائح منتنة، وانهالت المكالمات الهاتفية التي تهدّد بوضع قنابل في القاعة، وجرى اقتلاع مكبرات الأصوات وتقطيع خيوط الكهرباء. واضح أن كل الموضوع كان معدا سلفا. فمن المستبعد أن يقدم إنسان ما على إلقاء قنبلة منتنة بشكل تلقائي. فمثل هذه الأمور ينبغي تحضيرها سلفا، ولدينا إثباتات عينية على أن ثمة من أذكى لهيب هذه الزوبعة. وليس أدل على ذلك من حقيقة أنه عندما نشر على الملأ أمر إسقاط المسرحية عن الخشبة توقفت حملة التشويش مرة واحدة".

ويقول أحد ممثلي المسرحية:

"... قدمنا عرضًا في حرم الجامعة العبرية في القدس. فجأة بدأت تتطاير حجارة على المسرح. وكاد حجر واحد، بدا لي أشبه بصخرة، أن يصيبني. كان حجرا مدببا لو أصابني لنال مني مقتلًا. وبعد هذا الحجر في القدس، أبلغت مدير المسرح بأني غير مستعد للموت بسبب المسرحية. لقد تملكني خوف شديد لازمني طول مدة العروض. تلقيت عدة تهديدات بالقتل كان أبرزها تهديد شخص تكلم بلغة عبرية فصيحة واقترح عليّ، ببرود أعصاب، أن أكف عن التمثيل وإلا فسيقضي عليّ قضاءً مبرمًا. وقمت على الفور بإبلاغ الشرطة التي أخذت تتنصت على هاتفي، وانبرت تنقلني من المسرح إلى البيت في سيارة الدورية. كنت آنذاك مقيما لوحدي. فصرت أخاف من دخول غرفة الدرج بمفردي. كان الناس يبصقون عليّ في الشارع. وأكثر من مرة أوقفني سائق سيارة ونزل من سيارته ليبصق عليّ".

ورافقت كل ذلك حملة تحريض قادت لواءها الصحافة الرسمية، المكتوبة والمذاعة.

وعندما لم تجد هذه الحملات التأديبية نفعًا، جاء الجنرال موشيه دايان بنفسه لمشاهدة العرض. وعقب ذلك أدلى بتصريح للإذاعة الإسرائيلية جاء فيه: "هل فكرتم بما يمكن أن يحدث لو أخذوا هذه المسرحية كما هي عليه، وعرضوها أمام الجنود المصريين في الطرف الثاني، الطرف الغربي من القنال؟. أي متعة كبرى كانت ستغمر الجيش المصري لو أنهم أطلعوه كيف أن المسرح الكاميري التابع لإسرائيل يعرض وزير الخارجية ورئيسة الحكومة ممسكة بعضوه التناسلي، ويعرض أبا يودّ أن يذبح ابنه كي يحظى بمكانة أب ثاكل في إسرائيل؟".

وتصاعدت حملات التشويش المنظمة بين العرض والآخر، حتى رضخت إدارة المسرح، وقررت إسقاط المسرحية عن الخشبة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.