}

"الطريق إلى عين حارود": الصهيونيّة تقتل أبناءها؟

أنس إبراهيم 19 سبتمبر 2018

في التاريخ بين فالتر

بنيامين وعاموس كينان

لشخصيّة رواية "الطريق إلى عين حارود" (ترجمة أنطوان شلحت، مجلة "الكرمل"، 1984) تاريخان متوازيان: الأوّل، تاريخ الشخصيّة اليهوديّة السّحيق، منذ وجودها - النصيّ على الأقل - التوراتيّ التاريخيّ في فلسطين؛ الثاني، تاريخ "الشخصيّة الصهيونيّة" منذ تمّ إيجادها في فلسطين.

وفي التاريخين، هناك ما هو "ذاكرة" لها امتداداتها في الحاضر، وهناك ما هو "شبح الماضي" الذي يطارد الشخصيّة الصهيونيّة في الحاضر.

"الذي كنتهُ مات، والذي أردتهُ مات. والذاكرة أيضًا ماتت. أنت فقط حيّ. أنت فقط لا تزال حيًّا. صدى وذكرى. ظلّ وانعكاس آخر لأيّام ضاع أوّلها في طريق ليست بالقصيرة ولكنّها ليست طويلة كذلك".

يعتمدُ الروائيّ عاموس كينان، في روايته هذه، على الحوار الداخليّ لبَيَان تطوّر الشخصيّة النفسيّ في الرّواية.

وفي الاقتباس السالف، المأخوذ من الرّواية على لسان الشخصيّة الرئيسيّة، تُخبِرُ هذه الأخيرة عن زمنٍ ميّت بالنّسبة لها. في هذا الزّمن لا شيء سوى ماضٍ؛ أو بصيغة أخرى، زمن متوقّف في الحاضر، بكلمات فالتر بنيامين كما يقرأه فيصل درّاج.

هناك ثلاثة عناصر لهذا الزّمن: الزّمن اليهوديّ، أي تاريخ اليهود كجماعة تاريخيّة توراتيّة وهو الزّمن المكتوب، والثاني هو الزّمن الصهيونيّ منذ النّكبة وحتى اللحظة الكابوسيّة الرّوائيّة التي يبتدئ بها كينان روايته. وأمّا العنصر الثالث والأخير، فهو العنصر العربيّ في الزّمن الصهيونيّ – أو هو شبَحُ الماضي، أو شبَحُ الماضي الذي ينبعثُ ممّا تبقى من رمادِ هذا الشّبح، أو تلك الجماعة العرقيّة التي سعى الزّمن الصهيوني في بداياته إلى إبادتها وهذا ما تبقّى منها، أي العربيُّ الذي ظلّ حاضرًا متداخلًا متصارعًا مع الزّمن الصهيونيّ.

ستُشكِّل هذه العناصر الثلاثة مداميك أساسيّة في نصّ كينان، إلّا إنّ ما يجمعُها هو أنّها كلُّها في الدّاخل من التّاريخ، في الدّاخل المظلم القصيّ من مخيّلة كينان؛ ذاكرة ميّتة، والكينونة الإنسانيّة أيضًا ميّتة في الرواية، وما الشّخصيّات التي تعجُّ بها الرّواية إلّا انعكاس لشخصيّات كان يجب أن تكون بصورة مغايرة، في زمن آخر.

الرّواية تقع في لحظة زمنيّة متخيّلة، وهي لهذا تقع في تصنيف "الأدب الكابوسيّ/ أدب النهايات"، عن لحظة يقَع فيها كلّ من الصهيونيّ والعربيّ رهائن لكابوسيّة ما صنع الصهيونيّ في الأرض منذ البِداية. وهنا تشكّل "عين حارود"، وهي متخيّلة كذلك، البقعة الجغرافيّة الوحيدة التي تشكّل منفذًا إلى زمن مغاير. ففي اللّحظة التي تنقلب فيها "إسرائيل" رأسًا على عقب؛ انقلابٌ عسكريّ، محاكمات سريعة وإعدامات ميدانيّة، جنرالات عسكريون يحكمون كلّ شيء، يُطاردون كلّ صوت معارض، كلّ صوت – ربّما ليبراليّ، أو يساريّ؟ - ويسودُ حكمُ التطرّف في إسرائيل، تصرّح الشخصيّة الرئيسيّة في الرّواية: "سأذهب إلى عين حارود، وهناك، في عين حارود، سوف أبدأ كلّ شي مرّة أخرى من جديد، إنما بشكلٍ مغاير. في عين حارود سيربض النمر مع الجدي، وستولد الأرض من جديد، ويعود كلّ شيء يزهر ثانية". وهكذا، تكون الرّواية رواية قصّة هرب هذه الشخصيّة، برفقة العربيّ، الذي لا مفرّ من رفقته لأنّه الوحيد القادر على إيصال اليهوديّ إلى "عين حارود"، تلك التي ربّما يكفُّ فيها عن أن يكون يهوديًا، أو صهيونيًا. هي رواية محاولة الوصول إلى زمن أثيريّ، فيه ينتصر المغلوبون والغالبون، هؤلاء على هزيمتهم وهؤلاء على انتصارهم؛ في العودة إلى زمن البداية فيه يمكن صياغة كلّ شيء مرّة أخرى بصورةٍ مغايرة.

بلغة فالتر بنيامين هذا يُسمّى خلاص الأحياء الأخير في مملكة الموت الواسعة؛ المملكة التي تحرِّرُ الأحياء من ظلم المنتصرين وتحفظ لهم حقّهم في الكلام وحقّهم في الانتقام؛ وفي هذه المملكة وفي هذا الخلاص، لا بدّ من أن يتحوّل الحاضر إلى ماضٍ وأن يذوب فيه. بكلمات أخرى، السّبيل الوحيد إلى الخلاص هو الرّحيل عن أرض "التقدّم الفاسدة"؛ وفي الرّواية، هو الرّحيل عن دولة إسرائيل الصهيونيّة، كما هي في لحظة كتابة كينان لروايته، والقفز خارج الزمن الصهيونيّ إلى زمن سابق على بدء هذا الزّمن الفاسد.  ولكن ليس الرّحيل عن الأرض، بل الرّحيل عن الدّولة إلى الأرض.

"عين حارود" هي الفردوس المفقود في مقابل جهنّم الصهيونيّة الكابوسيّ التي هي الدّولة بما صارت إليه. هنا يصبح البحث عن بقعة جغرافية تقع خارج الزّمن مسعى ضروريًا لا بدّ منه للخلاص. ولا بدّ لهذه البقعة أن تكون من هذه الأرض، ولمّا كانت من هذه الأرض، كان لا بدّ أن يكون العربيّ – الذي يعرفُ الأرض أكثر من العابرين – هو الشّخص المسؤول عن إيصال اليهوديّ إلى "عين حارود". ومهمّة هذا الفردوس - عين حارود- هي طرد الزّمن الفاسد المليء بالصهيونيّة، الزمن التقدمي الفارغ، ليتشكّل بدلًا منه زمن آخر، زمن روحانيّ مقدّس، فيه، كما يصفُ الروائيّ "سيربض النّمر مع الجدي، وستولد الأرض من جديد ويعود كل شيء يزهر ثانية".

العربي موضوع للإسقاط

النفسي الصهيوني

وحينما يتعيّن على الرّاوي أن يجد عربيًا، كما يصف، لأنّه من دونه لن يستطيع الوصول إلى وادي عارة ومن ثمّ إلى عين حارود، يصرّح بوضوح: "كلّ خطّتي للهرب مبنيّة على العرب". يتبع هذا التّصريح انكشاف بسيط في الذّاكرة الصهيونيّة عن نفسها لدى كينان بقوله: "وبدأت أفكّر أني أنا هو الذي طرد العرب من هنا..". عبر هاتين العبارتين، واقتباسات أخرى في الرّواية، يمكن القول إنّ اللاوعيّ الصهيونيّ في الرّواية بنفسه وبيهوديّته يبدأ بالانسلاخ؛ ففي مواضع تشير الرّواية إلى هويّة يهود، لا هويّة صهيونيّة، وفي أخرى تشير إلى إسرائيل والصهيونيّة نفسها كهويّة، هي كابوس اليهود، أو هي فصل كارثيّ آخر في تاريخ اليهود.

في اللقاء الثاني بين اليهوديّ الرّاوي والعربيّ المفترض بأنّه سيوصله إلى عين حارود، يخبر العربيّ اليهوديّ عن فتاة يهوديّة ينكحُها من مؤخرتها ويُسمّي نفسه معها "رافي"، فيقول له الرّاوي اليهوديّ: "سأقول لك من أنت، أنت لست محمود، أنت مجرّد غائط. قطعة غائط نتنة. هذا أنت، لأنّه إذا كان في العالم شيء منتن فهو الشخص الذي ليس هو نفسه، الذي هو شخص آخر". فيردّ عليه محمود، الشخصيّة العربيّة، باكيًا: "أنظر ماذا فعلتم بنا.. أنظر ماذا فعلتم بنا. جعلتمونا غائطًا. هل تعتقد بأنّني فخور لأنّني أولج لها من الخلف؟ فأنا أشعر بأنّهم يولجون لي من الخلف. هذا ما أشعر به".

لا بدّ من القول هنا إنّ العربيّ الحاضر في الرّواية الصهيونيّة عمومًا، ورواية عين حارود هنا، حاضر كموضع لإسقاطات نفسيّة صهيونيّة مباشرة ومشكَّلة من قبل الأنا الصهيونيّة دائمًا وأبدًا. فلسانه، أي العربيّ، لسان مقطوع، يتكلّم كما يُرادُ له من قِبَلِ الأنا الصهيونيّة. وبالطّبع، فهذا يعود أوّلًا إلى انعدام القدرة على الكتابة خارج الأنا في حالات كثير من الروائيين، ومن ثم، إلى مركزيّة الأنا الصهيونيّة في الرّواية الصهيونيّة وانعدام قدرتها على تصوير الآخر إلَّا كمفعول بهِ وموضوع للعقد النفسيّة الخاصّة بالأنا الصهيونيّة. وبكلمات أخرى؛ يبقى الصهيونيّ في الرّواية الصهيونيّة الفاعل الوحيد، إن كان مجرمًا أم نادمًا، ويبقى الفلسطينيّ، ضحيّة أو غير ضحيّة، موضوعًا لإسقاطات الأنا الصهيونيّة النفسيّة وعقدها، من عقدة الضحيّة الوحيدة صاحبة الامتياز وإلى عقد الذنب وعذابات الإسرائيلي الأخلاقيّة. وكذلك الأمر في "الطّريق إلى عين حارود"، فالتشوّه في تمثيل الفلسطينيّ واضح بصورة مباشرة، وعندما يقول كينان على لسان شخصيّته أنّه إذا كان في العالم شيء منتن فلن يكون أكثر من الشّخص الذي ليس هو نفسه، إنّما هو يعيد إسقاط هذه التّهمة على العربيّ بعد أن أشبَعَ نفسهُ بها.

مأزق تاريخيّ أم

دمية فالتر بنيامين؟  

في كثير من مواضع الرّواية تحيل الرّواية، وعلى لسان العربيّ واليهوديّ في آن، إلى المأزق التاريخيّ الذي تعيشه الصهيونيّة وإسرائيل، بوصفه مأزقًا فيه يتضادّ التّاريخ مع الحركة. والحركة هنا، هي الحركة الماديّة الصهيونيّة لليهوديّ في داخل التّاريخ. بكلمات أخرى؛ وعدت الحركة الصهيونيّة بإنهاء التاريخ المأساويّ لليهود في أوروبا وفي العالم عن طريق "العودة" إلى إسرائيل، إلى الأرض التي نُفِوا منها. وقد أسطَرَت الحركة الصهيونيّة هذه العودة بالعديد من الأساطير التي أسَّست للاستعمار الصهيونيّ في فلسطين. إلّا أنّ ما اتضح لاحقًا، أنّ إسرائيل أصبحت فصلًا جديدًا في التّاريخ الكارثيّ لليهود، وسط حرب بلا نهاية ومستقبل مسدود.

ولمعرفة رمزيّة "عين حارود"، في الرّواية، يجب تتبع تاريخ الرّاوي الشخصيّ.

ينتمي عاموس كينان إلى ما يعرف في إسرائيل بحقبة المباي، أو حقبة الإسرائيليين الأوائل الذين شيَّدوا إسرائيل؛ هو الصهيونيّ اليساريّ الذي آمنَ أنّه يُشيِّدُ فردوسه المفقود حقًا، حلمهُ الأخلاقيّ، ويُنهي تاريخًا طويلًا من الاضطهاد والمأساة.

وحتى عام 1967 كان ذلك الحلُمُ في نظر اليسار الإسرائيليّ واقعًا حقًّا، إلّا إنّ حرب 1967 قلَبَت كلّ شيء رأسًا على عقب. تضاعفت مساحة إسرائيل خمس مرّات، وظنّ اليمين الإسرائيليّ أنّ الحرب مُباركة من الربّ فتمسّك نظريًا وعمليًا وسياسيًا بالأراضي المحتلّة، ودفعت الحرب بالأحزاب الدينيّة التي كانت اعتزلت السياسة إلًّا قليلًا حتى ذلك الوقت إلى معترك السياسة فيما عرف بالأحزاب الدينيّة الصهيونيّة، وبكلمات عزمي بشارة، فقد تمّ تديين الصهيونيّة وصهينة الدّين بدءًا من ذلك التّاريخ بشكلٍ فعالٍ أكثر من ذي قبل. لم تتبدَّ معالمُ ذلك الانقلاب حتى عام 1977، أي العام الذي تولّى فيه اليمين الصهيوني المتطرّف الحكم في إسرائيل وأزيح المباي/ حزب العمل واليسار الإسرائيليّ عن الحكم إلى غير رجعة، فيما عدا سنوات قلائل هنا وهناك لم تحدث أيّ أثر حقيقيّ في موازين السياسة في إسرائيل.

لم تكن معالم الكارثة حتى بعد 67 و77 قد اتّضحت بعد، وتجلّت بكامل وضوحها لبعض المتمسّكين باليوتوبيا الصهيونيّة عن اليهوديّ الجديد وطهارة سلاحه وأخلاقيّة بنيانه النفسيّ في عام 1987 مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى.

تسبّبت هذه التغيُّرات في إسرائيل بتأزيم بنية الحلم الصهيونيّ في عقل كينان وغيره من الكُتّاب الإسرائيليين، وليس فقط الاحتلال الإسرائيلي وممارساته اللاأخلاقيّة القمعيّة في حقّ الفلسطينيين، ما شكّل صدمة أخلاقيّة للمثقّفين الإسرائيليين ومنهم الفيلسوف الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش الذي وصل به الأمر حدّ وصف هذه السياسات التي تمأسست في بنية الدّولة بتعاملها مع الفلسطينيين بأنّها إرهاصات لولادة مجتمع نازي – يهوديّ؛ بل كانت مقاومة السكّان الأصلانيين نفسها قد شكّلت صدمة في الوعي الصهيونيّ نفسه.

وقد ترافقت تلك الحقبة مع ظهور العديد من المؤرّخين الجدد في إسرائيل، الذين أعادوا كتابة السرديّة الصهيونيّة عن النّكبة، وعن دولة قامت على الخرائب القوميّة لشعب آخر. وجاءت الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى لتخبر المجتمع الإسرائيلي أنّ الاحتلال لا يمكن أن يتوقّف عند كونه مسألة أخلاقيّة أم لا، كما كان الحال في جدالات المثقّفين اليساريين بعد احتلال 1967 للأراضي الفلسطينيّة، بل يتعدّى ذلك إلى أن يكون نقيضًا للأمن الإسرائيليّ بشكلٍ يوميّ، وبصيغة فلسطينيّة: "لا سلام مع الاحتلال، ولا أمن مع الاحتلال". والأمر الثاني أنّ السكان الأصلانيين لا يزالون حاضرين في الأرض وهم قادرون على التّعبير عن رفضهم للاحتلال والاستعمار بفعل ثوريّ غير متباك.

غير أنّ الإسرائيليين كانوا قد أحسُّوا بهذا من قبل، وما جاءت الانتفاضة إلَّا لتُشكّل صدمة عبر انتفاض الفلسطينيين في الأرض المحتلّة؛ فقد سبقت انتفاضتهم هذه مقاومتهم الخارجيّة من المنفى، أي في لبنان والأردن، والتي صُنِّفت حتى ذلك الحين بالإرهاب لا أكثر، ولم تكن تعبّر عن حقّ شعب بالعودة إلى أرضه والخلاص من الاحتلال في نظر الإسرائيليين. ويمكن القول إن حرب لبنان عام 1982 كانت بدايات الصّدمة الإسرائيليّة واهتزاز الثقة بالحلم الإسرائيليّ، كما يشير أنطوان شلحت، وبرأيه يمكن مثلًا قراءة ملامح تلك الصدمة فيما كتبه الصحافيّ الإسرائيليّ أهارون بخار في عام 1982: "إذا كانت الصهيونيّة تعني ضمّ المناطق والاستيطان فيها وترسيخ الكراهية الأبديّة بين إسرائيل والعالم العربي، فأعتقد أنّه يتعيّن عليّ أن أتخلى عن هذه الحركة... لقد جئنا إلى البلاد كي نبنيها ونبني أنفسنا، لا لتشريد شعب آخر والعيش على خرائبه القوميّة. وأسسنا القوة الدفاعية العبريّة حتى لا نعيش على أسنّة الحراب.. عندما أتفحّص حياتنا أجدني متسائلًا، بالأساس بيني وبين نفسي، هل ما زلت صهيونيًا؟ وماذا تعني الصهيونيّة؟ وما هي ماهيّتها في الربع الأخير من القرن العشرين؟"

إن ما يعبّر عنه هذا الصحافيّ من هواجس خفيّة في الوعي الصهيونيّ العام والخاصّ معًا، هي ذاتها الهواجس التي تعبّر عنها رواية "الطريق إلى عين حارود" عبر رسم تلك الصّورة الكابوسيّة عن مسقبل الدّولة تحت الحكم العسكريّ والإعدامات الميدانيّة. وهي هواجس ترافقت مع حدوث تصدّع في الأسطورة الصهيونيّة حول "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وصار جليًّا وواضحًا لمن يريد أن يرى بعينين مفتوحتين أنّ الوجود الإسرائيلي قد قام على الخرائب القوميّة لشعب آخر، وأنّ هذا الوجود لم يتوقّف على الطّرد فحسب، بل لا يزال قائمًا على احتلال وقمع هذا الشعب بصورة يوميّة ومستمرّة.

وبالنّظر إلى الواقع الإسرائيلي في الثمانينيات، وهي الأعوام التي كتبت خلالها هذه الرّواية، فقد أحدثت الانتفاضة الفلسطينيّة أعمق الصدمات في الوعي الصهيوني الإسرائيلي حول الفلسطينيّ، فلم يعد الفلسطينيّ مجرّد إزعاج، بل صار إلى ما هو أكثر من إزعاج: لقد أفسد الحلم الصهيونيّ إلى غير رجعة؛ عندما لم ينسحب في غبار التّاريخ، ونشأت جدليّة بين الوعي واللاوعي تعبّر عنها الرواية في أكثر من موضع. في الوعي الإسرائيليّ، تشكل المأساة الفلسطينيّة ثمنًا لا بدّ منه في رحلة العودة الصهيونيّة – اليهودية إلى التاريخ. ويشكّل الفلسطينيّ في الحاضر، وعبر كونه موضوعًا لفعل الاحتلال الإسرائيليّ، عبئًا وعارًا على الإسرائيليّ؛ إلّا أنّه عبء وعار لا بدّ من تحمله في سبيل الأمن.

هكذا يبني الوعي الصهيوني نفسه ويكيّفه في واقع كابوسيّ، سواء بالنّسبة للأجيال المؤسسة للدولة، أو الأجيال التي ولدت وترعرعت في الدّولة. ومنذ أن كان الاحتلال عبئًا وعارًا أخلاقيًا على إسرائيل، ومنذ أن وجد كينان نفسه هو والعربيّ في هذا المأزق التاريخيّ، كان لا بدّ من العودة إلى منظور التاريخ وتضادّه مع الزمن الصهيونيّ: "إنّ التاريخ الصهيونيّ انحرف بقوّة عن المسار الذي كان إلى نقطة معينة قصة نجاح وأمل، ثم أصبح كابوسًا لا مخرج منه".

وبالتوازي مع هذا المأزق الأخلاقي الناجم عن الاحتلال، يتكشّف للإسرائيليّ أمر آخر هو ليس على استعداد أيضًا لمواجهته لكونه معبّأ بالأساطير المؤسِّسة لقصّة النجاح تلك التي يتخيّلها عن نشوء إسرائيل. فليس المأزق التاريخيّ بناجم عن الاحتلال وحسب، بل هو كان هناك، في أواليّات الدّولة الأولى، في لبِناتها النّظريّة الأساسيّة، منتظرًا أن يخرج إلى الظّاهر، كما في مثال فالتر بنيامين الشّهير عن تلك الدّمية في داخل الآليّ، تنتظر هناك إلى حين تخرج فيظهر الآليُّ على صورته الحقيقيّة، قبيحًا وبشعًا. كذلك فإنّ ما يتخيّله كينان ورفاقه من المباي، الذين لا يطيقون رؤية الاحتلال وممارساته يمينًا متطرّفًا الآن في إسرائيل، ليس إلَّا ما كان في داخلهم، وبجانبهم، ومن خلفهم، ومن أمامهم، منتظرًا، مترقّبًا، تحوّلات دولية ربّما، أو قوّة قاهرة، حتّى يظهر كما هو ظاهر اليوم، غير مبالٍ بأيّة أحلام صهيونيّة يساريّة مراهقة، ليجرّ اليسار الإسرائيليّ من عنقه ويلوي رقبته ويدخِلهُ فيما يعرَّفه هو على أنّه تاريخ صهيونيّ يهوديّ، غير مكترث بأيّ تصوّرات سابقة عليه.  

*كاتب فلسطيني- رام الله

ملاحظة: المقالة من دراسة مطوّلة بعنوان "التاريخ اليهودي المقدّس والتّاريخ الصهيونيّ المدنّس في الطريق إلى عين حارود"، ظهرت في المجلة الفصلية "قضايا إسرائيلية"، الصادرة عن مركز الأبحاث مدار برام الله مؤخرًا. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.