}

أوجه الشبه بين الكولونيالية الصهيونية والكولونيالية الأوروبية (2-3)

10 أغسطس 2018

تقديم

تسبّب سنّ الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي، يوم 19 تموز/ يوليو 2018، لما يسمى "قانون القومية" باستئناف الجدل داخل مجتمع دولة الاحتلال بشأن الصهيونية وعقيدتها. ويُعرّف هذا القانون الأساس (دستوري) إسرائيل بأنها "الدولة القومية للشعب اليهودي"، ويمنح أفضلية للغة العبرية على اللغة العربية، وللاستيطان اليهودي، كما يمنح حصرية تقرير المصير في فلسطين لليهود فقط، ويعتبر القدس الموحّدة عاصمة أبدية لدولة الاحتلال.

وبرزت في خضم هذا الجدل أصوات كثيرة أبدت معارضتها للقانون من منطلق أنه يتضاد مع "أسس العقيدة الصهيونية"، بل وادعى بعضها أن القانون يحوّلها إلى عقيدة عنصرية، بما يوحي بوجود قناعة راسخة أنها ليست كذلك.

وربّما تستدعي هذه الطعون إعادة الالتفات إلى جوهر الحركة الصهيونية وعقيدتها. وهي مسألة تراكمت بشأنها دراسات كثيرة يجمعها قاسم مشترك هو تأكيد كون تلك العقيدة عنصرية بامتياز، بما في ذلك دراسات أنجزها باحثون يهود وإسرائيليون. ولا بُدّ من القول إن هذا التراكم جاء أيضًا على خلفية دراسات سابقة بهذا الصدد كان لها قصب السبق، على مستوى الدراسات التي وضعها باحثون يهود وإسرائيليون، لعل أبرزها ما وضعه غرشون شافير، وهو عالم اجتماع يهودي إسرائيلي وأستاذ في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو. ومنها مقالة ظهرت في كتاب "المجتمع الإسرائيلي: وجهات نظر انتقادية" (صدر بالعبرية عن منشورات "بريروت"، 1993)، من إعداد وتحرير أوري رام. وهي معتمدة، بالأساس، على كتاب للمؤلف صدر بالإنكليزية بعنوانLand, Labour and Origins on the Israel-Palestinian Conflict 1882-1914,

وظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1989 عن منشورات جامعة كمبريدج. ثم صدر في طبعة ثانية باللغة نفسها عام 1996.

وكما هو شأن كتاب شافير هذا، ثمة كتب عديدة لمؤرخين وعلماء اجتماع وباحثين إسرائيليين ما تزال، حتى الآن، تمارس حقها في البحث والسجالية بلغات أجنبية فقط. ودافعي للتنويه بهذا الأمر، الذي قد يتراءى لبعضهم عديم الأهمية، أنه يمثل على أحد جوانب المجابهة المباشرة، من طرف المؤسسة الإسرائيلية، مع الاجتهادات العلمية غير المفطورة على الإجماع الصهيوني بشأن الرواية التاريخية لقضية فلسطين. وهو جانب عدم الالتفات إلى وجود هذه الاجتهادات، جريًا على طريقة "القتل بالإهمال".

تتمثّل أهم خلاصة يتوصل إليها شافير في هذه المقالة، وفي كتابه عمومًا، في أن الحركة الصهيونية، ومنذ البدايات الأولى لمشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين، احتقنت بطابع استعماري- كولونيالي إزاء الفلسطينيين سكان البلد الأصليين. ومن الإثباتات المبكرة على هذا الاحتقان يستشهد المؤلف، من ضمن أشياء أخرى، بوقائع المواجهة التي حدثت بين آباء الهجرة اليهودية الأولى وبين آباء الهجرة اليهودية الثانية- وهما الهجرتان اللتان ترتب عليهما مشروع الحركة الصهيونية لاغتصاب فلسطين- حيال ما ينبغي أن تكون عليه المقاربات الصهيونية إزاء شعب فلسطين. وهو يتوصل إلى نتيجة مؤداها أن تلك الوقائع لم تكن، في جوهر الأمر، أكثر من مجرد اختلاف بين بدائل مختلفة للاستعمار الكولونيالي في سبيل اعتماد "البديل الأفضل" لإنجاز استعمار فلسطين، كولونياليا، من قبل الحركة الصهيونية وتيارها الرئيس المتمثل في "حركة العمل". واكتسبت هذه الخلاصة أهميتها في حينه، كما تكتسب أهميتها الآن، من مناخ سياسي عام يجتهد لإرجاع جذور قضية فلسطين إلى حرب حزيران/ يونيو 1967 فحسب، في محاولة للهروب إلى الأمام مما سبق ذلك العام من أحداث تعود في أصولها إلى سنوات تأسيس الحركة الصهيونية وإلى الطابع الكولونيالي لهذه الحركة.

تجدر الإشارة أيضًا إلى أن كتاب شافير صدر بموازاة صدور كتب أخرى لمؤرخين إسرائيليين أمثال بيني موريس وآفي شلايم وإيلان بابيه. وقد اعتبرت تلك الكتب الأربعة في عداد أول قطاف لموجة ما اصطلح على تسميته بـ "التأريخ الإسرائيلي الجديد".

ورأى البعض أن يرجع هذا "التأريخ الجديد" إلى عاملين رئيسيين:

(*) الأول، نشوء رعيل جديد من المؤرخين الإسرائيليين لديه قدر ما من الجهوزية للتسليم بجزء من الانتقادات الأخلاقية والسياسية، التي وجهت إلى إسرائيل في أعقاب 1967 (في إثر احتلالها وممارسات عسكرها في الأراضي الفلسطينية)، ما أدى بهذا الرعيل إلى إعادة فحص الفترة التي سبقت 1967.

(*) الثاني، إماطة اللثام عن وثائق من فترة 1948 كانت حتى ذلك التاريخ- أي النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين- في طيّ السرية التامة.

لكن ما ينبغي قوله هو أن شافير يفترق عن هؤلاء بعودته إلى فحص جذور الصراع الصهيوني- الفلسطيني، وهي عودة كانت حتى تأليفه لكتابه هذا لا تزال مقتصرة عليه وعلى قلائل من الباحثين أمثاله، وفي مقدمهم الباحث النفساني بنيامين بيت هلحمي، الذي سبق شافير في هذا المضمار.

يُضاف إلى ذلك أن المراجع الأرشيفية، التي يستعين بها شافير في هذه المقالة، شأنها شأن المراجع الأرشيفية في كتابه، لم تكن من بين تلك التي أميط عنها اللثام في الفترة المذكورة. وإنما كانت، قبلًا، مفتوحة أمام مرمى أبصار المؤرخين والباحثين. وعلى الرغم من كونها كذلك، فإن شافير يعترف بأنها تطلبت منه "قراءة جديدة للمواد القديمة"، في سيرورة يراد لها أن تعيد إلى هذه المراجع ما سبق أن غاب- أو جرى تغييبه عمدًا- عن أعين القراء السابقين.

وكل ذلك كان قبل أن ينكفئ الكثير من رموز هذا التيار على أنفسهم تحت تأثير عوامل عدة أبرزها، إن لم يكن العامل الأبرز، الانتفاضة الفلسطينية في أيلول/ سبتمبر 2000. غير أن هذا الموضوع مكانه ليس هنا.

هنا ترجمة القسم الثاني من مقالة شافير:

 

(أنطوان شلحـت)

 

قبل أن نتفحص، بشكل تفصيلي، نماذج الاستيطان الصهيوني يتعين علينا أن نستعرض الظروف والشروط، التي كانت سائدة في فلسطين بالمقارنة مع تلك التي كانت سائدة في مناطق استيطان مجتمعات كولونيالية أخرى، وكذلك الفوارق التي نجمت عن ذلك في طابع الحركات الكولونيالية. وكما سنبين، فإن فلسطين لم تعرض بشكل عام ظروف استيطان مريحة بشكل خاص، ولذا فإن البدائل التي مثلت أمام المستوطنين كانت محدودة للغاية، وقوة جذب الحركة الصهيونية للجماهير اليهودية بقيت بدورها محدودة أيضًا.

دعونا نتفحص هذا الأمر بإيجاز:

 1- إن المناطق الجغرافية المعدة للاستيطان الأوروبي اختيرت بموجب اعتبارات اقتصادية أو إستراتيجية. في مقابل هذا فإن المنطقة الجغرافية المعدة للاستيطان الصهيوني اختيرت بموجب اعتبارات عقائدية أو دينية.

2- السكان المحليون الذين تواجه معهم المستوطنون الأوروبيون كانوا، في معظم الحالات، من الرحل أو الصيادين، أو من تشكيلات لم تكن تمتلك القوة للحدّ من تقدّم المستوطنين. في مقابل هذا فإن قسمًا ضئيلًا فقط من السكان المحليين في فلسطين كانوا من الرحل (قبائل البدو)، بينما كان معظمهم من المزارعين الذين كان تشبثهم بالأرض أكثر قوة ورسوخًا، وكانت حياتهم أكثر استقرارًا. وبدءًا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر أخذت مناطق الاستيطان الزراعية العربية تمتد وتتسع من منطقة الجبل نحو منطقتي السهل الساحلي والأغوار، من خلال تنافس قوي مع الاستيطان اليهودي.

3- المستوطنون في المجتمعات الكولونيالية نشطوا، بصورة عامة، برعاية وحماية القوة العسكرية لشركات استيطانية ولدول كولونيالية عظمى، أما المستوطنون اليهود في فلسطين فإنهم، في مقابل هذا، نشطوا في البداية من دون مثل هذه الرعاية والحماية. وفقط مع بدء الانتداب البريطاني نشأت ظروف مساعدة للاستيطان اليهودي، لكن هذه الفترة المريحة لم تدم طويلًا.

4- في معظم المستعمرات الأوروبية كانت الأرض موجودة بوفرة لكل طالب وبسعر رمزي- وهو ما يعنيه التعبير الأميركي (free land) - أما في فلسطين فإن وضع ملكية الأرض كان مختلفًا تمامًا. والإمكانيات التي كانت متيسرة أمام المستوطنين اليهود وصفها في عام 1903 مناحيم أوسيشكين، أحد قادة حركة "حوففي تسيون" (محبو أو هواة صهيون)، على النحو التالي:

"في سبيل تأسيس حياة/ جالية أوتونومية يهودية - أو على وجه الدقة دولة يهودية في أرض إسرائيل- هناك ضرورة بادئ ذي بدء لأن تكون كل مناطق أرض إسرائيل، أو معظمها على الأقل، مُلكًا لشعب إسرائيل... لكن بحسب المتبع في العالم، كيف يحققون امتلاك الأرض؟ فقط بواسطة واحدة من الطرق الثلاث التالية: بالقوة، عبر احتلالها في حرب، وبكلمات أخرى نهب الأرض من أيدي أصحابها، أو بالامتلاك من خلال الإجراءات القسرية أو الإكراهية، أي: مصادرة الأملاك بقوة الحكومة، أو بالامتلاك من خلال رغبة أصحاب الأرض [في بيعها]" (أوسيشكين، 1934: 105).

غير أن أوسيشكين أسقط من الحسبان الطريقة الأولى، لكونها "ليست من الرب بتاتًا"، على حدّ قوله، وربما لاعتبار أكثر واقعية مؤداه كوننا في هذا الشأن "ضعفاء أكثر من اللازم". وبخصوص الطريقة الثانية فإنه أثار قدرًا كبيرًا من الشك في إمكان الحصول على امتياز (Charter) يتيح للمهاجرين- المستوطنين اليهود إمكان مصادرة أراض من أصحابها الأصليين. وهكذا لم يتبق أمامه إلا الاستخلاص بأن الطريقة الوحيدة لتكديس الأراضي في أيدي المستوطنين اليهود هي امتلاكها بالأموال. وبحسب (عالم الاجتماع الإسرائيلي) باروخ كيمرلينغ فإن هذه الحالة القهرية- حالة الاضطرار إلى دفع الأموال في مقابل الأرض- قيدت القدرة التوسعية للمستوطنين، وقد تكون حدّت أيضًا من مستوى عنف عملية الاستيطان في المراحل الأولية (Kimmerling,1983:106,145-146).

5- في معظم المستعمرات الأوروبية استطاع المستوطنون تشغيل عمال مستعبدين مؤقتين أو حتى عبيد كانت كلفة عملهم منخفضة للغاية. وفي غياب حماية قوة خارجية لم تكن في حيازة المستوطنين اليهود في فلسطين إمكانية كهذه، واضطروا إلى الاعتماد على قوة عمل بأجرة.
6- قوة الجذب المحدودة لفلسطين أدت إلى إحجام يهود كثيرين عن القدوم إليها. وحتى في حالة هجرتهم من أماكن سكنهم فإنهم فضلوا التوجه إلى مستعمرات أوروبية أكثر جاذبية، مثل الولايات المتحدة. ولهذا السبب فإنه على الرغم من الزيادة العددية الواضحة لم ينجح المستوطنون اليهود، في أي مرحلة من المراحل الممتدة حتى حرب عام 1948، في أن يصبحوا مجموعة الأكثرية في البلد.

إن كل هذه الظروف، في اجتماعها معًا، كوّمت أمام المستوطنين اليهود في فلسطين العثمانية والانتدابية مصاعب خاصة، إما أنها لم تكن قائمة بتاتًا، أو أنها لم تكن في مثل هذا المستوى، في مستعمرات الاستيطان الأخرى. ويميل باحثون إسرائيليون كثيرون إلى أن يروا في هذه الفوارق قرائن على أنه لا ينبغي درس الاستيطان الصهيوني باعتباره استيطانًا كولونياليًا. وهذا خطأ. فإن التحدّي البحثي، على خلاف ذلك، هو أن نفهم كيف عملت الحركة الصهيونية في هذه الظروف الخاصة، وكيف أثّرت هذه الظروف في صبغتها الخاصة كحركة كولونيالية؟ وبصورة أكثر تفصيلية، فإن السؤال الذي نرغب في الإجابة عليه هو: كيف نجحت الحركة الصهيونية في بناء مجتمع ومن ثم دولة، على الرغم من أنه لم تكن في حيازتها تلك الوسائل الرأسمالية والعسكرية التي كانت في حيازة الدول الكولونيالية الأوروبية العظمى؟

ينبغي أن نبحث عن الجواب عن هذا السؤال في اتجاهين:

بداية، برغم النظرة من الخارج من الواضح أن الحركة الصهيونية استعانت هي أيضًا، وبصورة مكثفة، بموارد خارجية. هذه الموارد الخارجية شملت في الوقت نفسه دعمًا سياسيًا من طرف دول عظمى مختلفة، بالأساس بريطانيا، وكذلك دعمًا ماليًا كبيرًا من مصادر متعدّدة، بالأساس مصادر يهودية.

ثانيًا، احتاجت الحركة الصهيونية- وربما أكثر من الحركات الاستيطانية الأخرى- إلى ما يمكن اعتباره الحصافة والليونة.

وقد تمثلت براغماتيتها الإبداعية في جانبين كان لهما أثر كبير على شخصيتها:

الجانب الأول، هو تطوير أسلوب استيطان خاص بها- الاستيطان الكوموني والتعاوني- الذي استند إلى التعاون بين الحركة الصهيونية وبين حركة العمل. وهذا الأسلوب وفر تعويضًا عن ظروف البدء غير المريحة، سواء في سوق الأرض أو في سوق العمل. وأسلوب الاستيطان هذا كانت غايته، عمليًا، هي إنشاء مستعمرة استيطان طاهرة تكون، حسبما هو مُحدّد أعلاه، مستندة إلى السيطرة على سوق الأرض وسوق العمل، وإلى الهجرة المتعددة الأبعاد إلى المستعمرة.

أمّا الجانب الثاني فتمثل في جهوزية التيار المركزي في حركة العمل لتقييد طموحات الصهيونية الإقليمية (الجغرافية)، بقصد ملاءمتها مع القدرة الاحتمالية الديموغرافية والاقتصادية الضيقة لليهود، ودراسة التأييد والدعم اللذين يمكن تجنيدهما من طرف الدول العظمى في كل مرحلة من مراحل الاستيطان. لكن، وحسبما تشهد على ذلك المواجهة العسكرية المستمرة مع السكان الفلسطينيين، والتبعية التي لم تتوقف نتيجة الاعتماد على المساعدات الاقتصادية من الخارج، فإن إنجازات الاستيطان الصهيوني ظلت جزئية وضيقة. يعني هذا أن المستوطنين الصهاينة لم ينجحوا، في نهاية الأمر، في التغلب كليًا على المشكلات الخاصة التي وضعها الاستيطان في فلسطين أمامهم.

ننتقل الآن للبحث في التطور التاريخي للاستيطان الكولونيالي اليهودي في فلسطين.

 

استيطان حركة العمل:

مستعمرة الاستيطان الطاهرة، 1882- 1948

لم يتطور الاستيطان الصهيوني في فلسطين طبقًا لبرنامج مُجهّز مسبقًا. ولقد تطور برأيي عبر طريق التجربة والخطأ، والتي قادته من مرحلة إلى أخرى حتى تبلور في النهاية- منذ الفترة السابقة للحرب العالمية الأولى- نموذج استيطاني فاعل تناسب، سواء بسواء، مع ظروف سوق الأرض وسوق العمل التي سادت في البلد، ومع النسبة العددية بين السكان وبين خصائص المستوطنين اليهود. ويمكن، في الاستيطان الصهيوني، أن نميز بين ست مراحل للتطور، قابلة لأن تتوزع إلى فترتين رئيسيتين. والمراحل الثلاث الأولى تتوازى مع فترة الهجرة الأولى، 1882- 1903، التي وصل فيها إلى فلسطين نحو أربعين ألف مهاجر يهودي. والمراحل الثلاث اللاحقة تتوازى مع فترة الهجرة الثانية، 1904- 1914، التي وصل فيها إلى فلسطين نحو ثلاثين ألف مهاجر يهودي. وفي هذه الفترة عاش في فلسطين حوالي نصف مليون عربي.

وبدأت المرحلة الأولى من الاستيطان الصهيوني في عام 1882 بمحاولة المستوطنين تأسيس مستعمرة استيطان طاهرة لمزارعين يهود أصحاب قسائم صغيرة من الأرض. وسعى أفراد موشافات الهجرة الأولى إلى توفير رزقهم بواسطة محاكاة الأسلوب الزراعي الذي كان مألوفًا في فلسطين وفي سائر مناطق الشرق الأوسط، أي أسلوب الزراعة البعلية للمنتوجات الحقلية ("موشافاه" هي ترجمة لكلمة Colony). لكن سرعان ما اكتشف هؤلاء نواقص هذا الأسلوب بالنسبة لهم والمتمثلة بأوضح شكل في كون الدخل منخفضًا ولا يتيح الإمكانية إلا لمستوى معيشة منخفض حتى عن مستوى المعيشة، الذي كان المهاجرون اليهود الفقراء من أوروبا الشرقية معتادين عليه. وبدا واضحًا أنه إذا لم يستطع المهاجرون- المستوطنون اليهود أن يؤمنوا لأنفسهم مستوى معيشة أوروبيًا فإنهم سيغادرون فلسطين. وعندما ضاقت الحال عليهم، توجّه المستوطنون بطلب مساعدة عاجلة إلى البارون إدموند دي روتشيلد في باريس. وخلال أقل من عام، منذ بدء الهجرة الأولى، مدّ البارون جهاز حماية إدارية فوق معظم الموشافات اليهودية.

وفي ظل السلطة الإدارية لروتشيلد، دارت المرحلة الثانية من تاريخ الاستيطان الصهيوني. وبين الأعوام 1882- 1900 تحول الييشوف اليهودي إلى مستعمرة مزارع إثنية، بهدف أن تؤمن لسكانها مستوى معيشة أوروبيًا. وقد استأجر البارون خبراء في الزراعة اكتسبوا تجربتهم في المستعمرات الفرنسية في شمال أفريقيا، وهؤلاء نظموا من جديد زراعة الموشافات. ومنتوجات الحقل جرى استبدالها بمزارع وخصوصًا بكروم العنب للنبيذ(schama,1978:63,68,79-80, غلعادي وناؤور، 1982 39-38). هذا الاستيطان كان مستندًا إلى ملكية فردية للمزارع، وإلى تشغيل قوة عمل عربية موسمية غير مدربة، مطعمة بعدد قليل من العمال اليهود. وأدى تشغيل العرب، من أصحاب الأيدي العاملة الرخيصة، إلى تقييد قدرة النمو الديموغرافي اليهودي في فلسطين بصورة كبيرة، إذ إنه من دون أماكن عمل بأجر معقول لم يكن بالإمكان جذب هجرة يهودية.

يرى الباحثون الإسرائيليون، الذين يعتقدون أن الاستيطان اليهودي في فلسطين كان في جوهر الأمر مختلفًا عن الكولونيالية الأوروبية الكلاسيكية، أن تصفية هذا النموذج من الاستيطان، الذي يستند إلى تراتبية إثنية - عرقية صارمة، تعتبر دليلًا على ادعائهم. وكان عدد من الباحثين الفلسطينيين، أنصار منظمة التحرير الفلسطينية، هم أول من لفتوا الأنظار إلى أوجه الشبه بين الاستيطان الصهيوني وبين الاستيطان الفرنسي في شمال أفريقيا. لكن ما ينبغي التشديد عليه، كما بيّنا أعلاه، هو أن هذا الطراز من الاستيطان في "أرض إسرائيل" بدأ بالانحسار منذ العقد الثاني من القرن العشرين.

بدأت المرحلة الثالثة من تاريخ الاستيطان الصهيوني بأزمة جديدة. ففي عام 1900 توقف البارون روتشيلد عن تقديم مخصصات دعم للكروم والمعاصر، وطلب تحويلها إلى مرافق ربحية. وفي إطار سياسة التنجيع الصارمة التي انتهجها اقتلعت الكروم وتم تخفيض أجور العمال اليهود. ونتيجة لذلك اختار كثيرون منهم مغادرة البلد، وبذلك تحقق الخطر الحائم فوق رؤوس العمال أصحاب الدخل العالي نسبيًا في سوق العمل، التي توجد فيها قوة عمل بديلة ذات أيد رخيصة، طبقًا لما ينبع عن نموذج سوق العمل المجزأة. في موازاة ذلك حصلت أزمة إضافية، تمثلت في حدوث فترة انقطاع في عملية امتلاك الأرض وتكديسها في الأيدي اليهودية. ونجم هذا الانقطاع عن انسحاب روتشيلد من عمليات امتلاك الأراضي، وعن استمرار امتناع الهستدروت الصهيونية العالمية (التي أنشأها ثيودور هرتسل في عام 1897) من امتلاك الأراضي، قبل تلقي الامتياز من الدول العظمى للاستيطان الصهيوني. وقد ألفى مهاجرو الهجرة الثانية لدى قدومهم أنفسهم في خضم هذه الأزمة المزدوجة في سوق العمل وسوق الأرض. وكان من نتائج الجمود في سوق الأرض انتقال مركز الثقل في النشاط الاستيطاني إلى سوق العمل. ومع انطلاق الهجرة الثانية، في عام 1904، بدأت مرحلة جديدة في محاولة السيطرة الصهيونية على فلسطين، هي المرحلة الرابعة في إحصائنا. وكانت هذه مرحلة قصيرة ومحبطة حاول فيها المهاجرون الجدد أن يشتغلوا كعمال زراعيين، من خلال اكتفائهم بمستوى الأجور المدفوعة للعمال العرب، ومحاولة ملاءمة مستوى معيشتهم مع مستوى معيشة هؤلاء الأخيرين.

يتبين إذًا أن هؤلاء المهاجرين الجدد حاولوا، خلال فترة وجودهم الأولى في البلد، كما حاول الذين سبقوهم من الهجرة الأولى، أن يتبنوا نمط الحياة المحلي. فالهجرة الأولى حاولت تبني أسلوب زراعة الأرض الذي اتبعه الفلاح العربي، وحاولت الهجرة الثانية تبني مستوى معيشة العامل العربي. وفي الحالتين جرى التخلي عن هذه المحاولات بعد أشهر معدودة (بالرغم من أن عمال الهجرة الثانية نجحوا في الاحتفاظ بصورة "المزارع المثالي" الذي يكتفي بالقليل، وأصبح لاحقًا نموذج "الطلائعي").

وكما رأينا فإن فشل الزراعة البعلية في الهجرة الأولى أدى إلى الانتقال نحو أساليب زراعة رأسمالية ونحو تطوير نموذج مستعمرة مزارع إثنية. أما إحباط الهجرة الثانية من جراء ضائقة الأجور المتفاقمة فقد أدى، مقابل ذلك، إلى الانتقال نحو أساليب استيطان جماعية - قومية أو اشتراكية - قومية، بهدف تأسيس مستعمرات استيطان طاهرة، يمكن فيها فقط توفير شغل بأجر معقول - أوروبي- لعشرات آلاف المهاجرين اليهود المعدمين.

مع بداية المرحلة الخامسة اتخذت خطوة حاسمة على طريق إنشاء نموذج استيطاني ثابت وناجح في ظروف فلسطين، عندما قرر العمال اليهود تغيير الإستراتيجيا في صراعهم داخل سوق العمل.
وبدلًا من تخفيض أجورهم إلى مستوى الأجور المدفوعة للعمال العرب، قرروا أن يطردوا العمال العرب من سوق العمل. وعنى هذا القرار - بتعابير نظرية السوق المجزأة - انتهاج إستراتيجيا "الإقصاء". واستأنست هذه الإستراتيجيا باسم "احتلال العمل". وكان المُسوّغ المركزي في هذا الصراع هو أن توفير أماكن عمل (بأجر معقول) للعمال اليهود يُعدّ شرطًا لنجاح مشروع الاستيطان الصهيوني. وكانت دلالة الاحتكار اليهودي للعمل الأسود والعمل الحرفي تعني إقصاء العمال العرب من سوق العمل.

ماذا كانت نتائج الصراع من أجل احتلال سوق العمل في موشافات المزارع من الهجرة الأولى؟ كان نجاح عمال الهجرة الثانية في إقناع أصحاب المزارع بإيثارهم على العمال العرب المطيعين وأصحاب أيدي الشغل الرخيصة محدودًا جدًا، ومحاولتهم الرامية إلى احتلال سوق العمل لم تتكلل بالنجاح. لكن سوية مع ذلك، كان لصراعهم هذا تأثير حاسم على مسار تطور الاستيطان الصهيوني. فالصراع من أجل "احتلال العمل" حدّد الوعي القومي للعمال وبلورهم كجماعة قومية مقاتلة في الجالية اليهودية. وبينما قال مزارعو الموشافات بوجوب إقامة مستعمرات مزارع يهودية تستند إلى عمل عربي، رفع العمال راية الاستيطان اليهودي والعمل اليهودي المنعزلين كطريق للتجسيد القومي. وقد اصطبغ المُركب الاشتراكي في تفكيرهم بلون المفارقة الساخرة. فهم الذين كانوا يعارضون استغلال العمال العرب، حلّوا المشكلة بطريق النضال لمنع تشغيل عمال عرب.

ولم يكن في مقدور برنامج العمال اليهود القاضي بإقامة مستعمرة استيطان طاهرة، أي بنقاء تام للمستوطنين اليهود، أن يتحقق من دون دعم ومساعدة من طرف الهيئات الصهيونية الاستيطانية. وقد وجد العمال "روتشيلدهم" في شخص الهستدروت الصهيونية العالمية. فبينما حاول البارون روتشيلد أن يحاكي في فلسطين نموذج الاستيطان الفرنسي من شمال أفريقيا، حاولت الهستدروت الصهيونية أن تحاكي نموذج الاستيطان البروسي من شرق ألمانيا.

وهكذا مع انطلاق النشاط الاستيطاني للهستدروت الصهيونية في عام 1909 بدأت المرحلة السادسة من مراحل تطور الاستيطان الصهيوني في أرض إسرائيل.

وتمت صياغة النموذج الاستيطاني الجديد من طرف رئيسي "شركة تأهيل الييشوف" (هحفراه لهخشرات هييشوف)، أوتو فاربورغ وأرثور روبين، عبر محاكاة واعية ومعلنة لنموذج "الاستيطان الكولونيالي الداخلي" الذي طورته حكومة بروسيا من أجل إنشاء أكثرية ألمانية في مناطق الحدود الشرقية لبروسيا (Reichman&Hasson,1984)وهذه المناطق جرى ضمها إلى بروسيا في أعقاب تقسيم بولندا بين روسيا والنمسا وبروسيا، في نهاية القرن الثامن عشر، وكان يقطنها سكان بولنديون. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر استُنفرت الحكومة البروسية وعدد من القوميين الألمان، بينهم عالم الاجتماع الشاب ماكس فيبر، بعد أن أدت الأزمة الزراعية في شرق ألمانيا إلى هجرة جماعية للعمال الزراعيين الألمان نحو المدن في ألمانيا، وكذلك نحو الخارج (إلى الولايات المتحدة)، وإلى استبدالهم بعمال بولنديين. ورأت الأوساط المذكورة بقلق أن هذه العملية معناها "إلغاء تأميم" هذه المناطق. ومن أجل مواجهة ذلك أقام المستشار بيسمارك مصلحة استيطان حكومية امتلكت ضياعًا لنبلاء بروسيين هاجروا منها وباعتها بشروط مريحة، بعد أن تم تقسيمها إلى وحدات صغيرة، لمزارعين ألمان انتقلوا إلى المنطقة. بهذه الطريقة بلورت الدولة البروسية خطة طوارئ قومية لتوطين المناطق المختلف عليها والتي خافت أن تفرغ من السكان الألمان. وكانت هذه مبادرة اقتصادية سياسية- قومية للالتفاف على ديناميكية السوق الاقتصادية.

في نهاية العقد الأول من القرن العشرين تبنت حركة الاستيطان الصهيونية هذا النموذج البروسي، بعد أن أضافت عليه مداميك أخرى مستقرضة من حركات التعاونيات والإصلاح الزراعي في ألمانيا. وكانت نتيجة ذلك نظرية "التعاونية الاستيطانية" التي صاغها وبلورها عالم الاجتماع الألماني اليهودي الصهيوني فرانتس أوبنهايمر. هذه النظرية، في صيغتها التي تشدد على المركب "الكوموني"، أرست مبادئ إحدى أكثر مؤسسات الاستيطان الصهيوني خصوصية، وهي مؤسسة "الكيبوتس".

لقد شكل "الكيبوتس" حجر الزاوية في تطوير قطاع اقتصادي تعاوني واسع يضم نشاطًا اقتصاديًا شاملًا ومركبًا يشمل بدوره إنتاجًا وتسويقًا واستهلاكًا وتمويلًا ومواصلات وغير ذلك.

و"الكيبوتس" هو التعبير الأكثر وضوحًا عن إستراتيجيا احتلال الأرض واحتلال العمل، التي انتهجها المستوطنون- العمال اليهود في فلسطين. وكانت أراضي الكيبوتس "قومية"، أي بملكية "الكيرن كاييمت" (الصندوق القومي لإسرائيل)، وقد تم إيداعها في أيدي اليهود من أجل خدمة غاية قومية، وبهذا فقد جرى إخراجها من إطار سوق الأرض الرأسمالية. و"الكيبوتس" بدوره أخرج شغل أعضائه من إطار سوق العمل الرأسمالية، وبهذا فقد وفر لهم سوق عمل مغلقًا لليهود فقط.

وهكذا أدى فشل العمال اليهود في محاولتهم الأولية لتجزئة سوق العمل في الموشافات اليهودية، في المحصلة، إلى إستراتيجيا تجزئة أصلية للسوق، سواء في سوق الأرض أو في سوق العمل. و"الاستيطان العامل"، وهي التسمية التي كان يطلقها على نفسه القطاع الزراعي الكوموني والتعاوني لحركة العمل، صار عمليًا يشكل "جزءًا من سوق"، منفردًا ومنعزلًا، يقف في صلب النشاط الاقتصادي اليهودي بكليته، وفيه جرى حل المشكلة الأساسية التي نعالجها- مشكلة توفير شغل ومستوى معيشة عال نسبيًا (أوروبيّ) للعمال من أبناء المجموعة الكولونيالية، عبر إقصاء فعلي أو بالقوة للمتنافسين المحليين من سوقي الأرض والعمل.

 

وقد تصدى مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين لوضع خليط خاص من الحلول في سبيل التغلب على العقبات التي تعترض في العادة طريق مجتمعات من هذا القبيل، والتغلب على العقبات التي اعتبرت خصوصية بسبب الظروف المحلية، سواء بسواء.

في واقع الأمر فإن الكثير من المشكلات، التي انتصبت أمام مستعمرات الاستيطان الطاهرة، كانت مماثلة، وكذلك كانت حال كثير من الحلول التي أوجدوها لها. غير أن النتيجة النهائية كانت بطبيعة الحال خصوصية لكل حالة.

في الحالة التي أمامنا، اعتمد الاستيطان الصهيوني في فلسطين على ركنين أساسيين: "الكيرن كاييمت" التابعة للهستدروت الصهيونية العالمية، وهستدروت (نقابة) العمال العبريين. وتمثلت مهمة "الكيرن كاييمت" في إخراج الأرض من إطار السوق التنافسية ونقلها إلى ملكية يهودية، عبر منع انقلاب العملية على جهتها النقيضة (أي: امتلاك الأرض مرة أخرى من طرف العرب). وعلى النسق نفسه كان هدف هستدروت العمال العبريين إيجاد أماكن عمل ومصادر رزق خارج سوق العمل، التي اضطر العمال اليهود في إطارها إلى التنافس مع الأيدي العاملة الرخيصة للسكان العرب.

على هذا الأساس يمكن القول إذًا إن المنظمتين- "الكيرن كاييمت" وهستدروت العمال- أدتا معًا دورًا مماثلًا في الاستيطان الصهيوني: دور تحييد جهاز السوق ونقل الأرض والعمل إلى السيطرة اليهودية فقط. وكل ذلك بهدف زيادة عدد السكان اليهود لجعلهم أكثرية في فلسطين.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.