}

أوجه الشبه بين الكولونيالية الصهيونية والكولونيالية الأوروبية

5 أغسطس 2018

تقديم

تسبّب سنّ الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي، يوم 19 تموز/ يوليو 2018، لما يسمى "قانون القومية" باستئناف الجدل داخل مجتمع دولة الاحتلال بشأن الصهيونية وعقيدتها. ويُعرّف هذا القانون الأساس (دستوري) إسرائيل بأنها "الدولة القومية للشعب اليهودي"، ويمنح أفضلية للغة العبرية على اللغة العربية، وللاستيطان اليهودي، كما يمنح حصرية تقرير المصير في فلسطين لليهود فقط، ويعتبر القدس الموحّدة عاصمة أبدية لدولة الاحتلال.

وبرزت في خضم هذا الجدل أصوات كثيرة أبدت معارضتها للقانون من منطلق أنه يتضاد مع "أسس العقيدة الصهيونية"، بل وادعى بعضها أن القانون يحوّلها إلى عقيدة عنصرية، بما يوحي بوجود قناعة راسخة أنها ليست كذلك.

وربّما تستدعي هذه الطعون إعادة الالتفات إلى جوهر الحركة الصهيونية وعقيدتها. وهي مسألة تراكمت بشأنها دراسات كثيرة يجمعها قاسم مشترك هو تأكيد كون تلك العقيدة عنصرية بامتياز، بما في ذلك دراسات أنجزها باحثون يهود وإسرائيليون. ولا بُدّ من القول إن هذا التراكم جاء أيضًا على خلفية دراسات سابقة بهذا الصدد كان لها قصب السبق، على مستوى الدراسات التي وضعها باحثون يهود وإسرائيليون، لعل أبرزها ما وضعه غرشون شافير، وهو عالم اجتماع يهودي إسرائيلي وأستاذ في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو. ومنها مقالة ظهرت في كتاب "المجتمع الإسرائيلي: وجهات نظر انتقادية" (صدر بالعبرية عن منشورات "بريروت"، 1993)، من إعداد وتحرير أوري رام. وهي معتمدة، بالأساس، على كتاب للمؤلف صدر بالإنكليزية بعنوان Land, Labour and Origins on the Israel-Palestinian Conflict 1882-1914.

وظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1989 عن منشورات جامعة كمبريدج. ثم صدر في طبعة ثانية باللغة نفسها عام 1996.

وكما هو شأن كتاب شافير هذا، ثمة كتب عديدة لمؤرخين وعلماء اجتماع وباحثين إسرائيليين ما تزال، حتى الآن، تمارس حقها في البحث والسجالية بلغات أجنبية فقط. ودافعي للتنويه بهذا الأمر، الذي قد يتراءى للبعض عديم الأهمية، أنه يمثل على أحد جوانب المجابهة المباشرة، من طرف المؤسسة الإسرائيلية، مع الاجتهادات العلمية غير المفطورة على الإجماع الصهيوني بشأن الرواية التاريخية لقضية فلسطين. وهو جانب عدم الالتفات إلى وجود هذه الاجتهادات، جريًا على طريقة "القتل بالإهمال".

تتمثّل أهم خلاصة يتوصل إليها شافير في هذه المقالة، وفي كتابه عمومًا، في أن الحركة الصهيونية، ومنذ البدايات الأولى لمشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين، احتقنت بطابع استعماري- كولونيالي إزاء الفلسطينيين سكان البلد الأصليين. ومن الإثباتات المبكرة على هذا الاحتقان يستشهد المؤلف، من ضمن أشياء أخرى، بوقائع المواجهة التي حدثت بين آباء الهجرة اليهودية الأولى وبين آباء الهجرة اليهودية الثانية- وهما الهجرتان اللتان ترتب عليهما مشروع الحركة الصهيونية لاغتصاب فلسطين- حيال ما ينبغي أن تكون عليه المقاربات الصهيونية إزاء شعب فلسطين. وهو يتوصل إلى نتيجة مؤداها أن تلك الوقائع لم تكن، في جوهر الأمر، أكثر من مجرد اختلاف بين بدائل مختلفة للاستعمار الكولونيالي في سبيل اعتماد "البديل الأفضل" لإنجاز استعمار فلسطين، كولونياليا، من قبل الحركة الصهيونية وتيارها الرئيس المتمثل في "حركة العمل". واكتسبت هذه الخلاصة أهميتها في حينه، كما تكتسب أهميتها الآن، من مناخ سياسي عام يجتهد لإرجاع جذور قضية فلسطين إلى حرب حزيران/ يونيو 1967 فحسب، في محاولة للهروب إلى الأمام مما سبق ذلك العام من أحداث تعود في أصولها إلى سنوات تأسيس الحركة الصهيونية وإلى الطابع الكولونيالي لهذه الحركة.

تجدر الإشارة أيضًا إلى أن كتاب شافير صدر بموازاة صدور كتب أخرى لمؤرخين إسرائيليين أمثال بيني موريس وآفي شلايم وإيلان بابيه. وقد اعتبرت تلك الكتب الأربعة في عداد أول قطاف لموجة ما اصطلح على تسميته بـ "التأريخ الإسرائيلي الجديد".

ورأى البعض أن يرجع هذا "التأريخ الجديد" إلى عاملين رئيسيين:

(*) الأول، نشوء رعيل جديد من المؤرخين الإسرائيليين لديه قدر ما من الجهوزية للتسليم بجزء من الانتقادات الأخلاقية والسياسية، التي وجهت إلى إسرائيل في أعقاب 1967 (في إثر احتلالها وممارسات عسكرها في الأراضي الفلسطينية)، ما أدى بهذا الرعيل إلى إعادة فحص الفترة التي سبقت 1967.

(*) الثاني، إماطة اللثام عن وثائق من فترة 1948 كانت حتى ذلك التاريخ- أي النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين- في طيّ السرية التامة.

لكن ما ينبغي قوله هو أن شافير يفترق عن هؤلاء بعودته إلى فحص جذور الصراع الصهيوني- الفلسطيني، وهي عودة كانت حتى تأليفه لكتابه هذا لا تزال مقتصرة عليه وعلى قلائل من الباحثين أمثاله، وفي مقدمهم الباحث النفساني بنيامين بيت هلحمي، الذي سبق شافير في هذا المضمار.

يُضاف إلى ذلك أن المراجع الأرشيفية، التي يستعين بها شافير في هذه المقالة، شأنها شأن المراجع الأرشيفية في كتابه، لم تكن من بين تلك التي أميط عنها اللثام في الفترة المذكورة. وإنما كانت، قبلًا، مفتوحة أمام مرمى أبصار المؤرخين والباحثين. وعلى الرغم من كونها كذلك، فإن شافير يعترف بأنها تطلبت منه "قراءة جديدة للمواد القديمة"، في سيرورة يراد لها أن تعيد إلى هذه المراجع ما سبق أن غاب- أو جرى تغييبه عمدًا- عن أعين القراء السابقين.

وكل ذلك كان قبل أن ينكفئ الكثير من رموز هذا التيار على أنفسهم تحت تأثير عوامل عدة أبرزها، إن لم يكن العامل الأبرز، الانتفاضة الفلسطينية في أيلول/ سبتمبر 2000. غير أن هذا الموضوع مكانه ليس هنا.

هنا ترجمة القسم الأول من مقالة شافير:

(أنطوان شلحـت) 

توطئة

تروي الأبحاث التي تعالج تاريخ المجتمع الإسرائيلي، في المعتاد، واحدة من قصتين/ حبكتين: الأولى تدور حول الكيفية التي أقام بواسطتها المستوطنون الصهاينة مجتمعًا يهوديًا في "أرض إسرائيل" (فلسطين) وأحيانًا عبر خلافات داخلية فيما بينهم. والثانية تدور حول كيفية تطوّر الصراع بين اليهود وبين العرب، الذين كانوا بطبيعة الحال مُعادين للمشروع الصهيوني الذي يهدف إلى إقامة كيان يهودي على أرضهم.

وتتصالب القصتان مع بعضهما البعض في أحيان نادرة فقط.

في هذه المقالة بودي الادعاء أن القصة الأولى لا يمكن فهمها من دون تشبيكها مع القصة الثانية. فبناء المجتمع الإسرائيلي وإقامة إسرائيل لم يكونا شأنًا يهوديًا داخليًا فقط. والصراع الإسرائيلي-العربي ترك بصمات واضحة على المجتمع الإسرائيلي وعلى ثقافته ومؤسساته، بحيث يمكن بسهولة تشخيص هذه البصمات في العديد من خصائص هذا المجتمع حتى يومنا هذا. وفي إطار الجوانب، التي تبلورت عبر اللقاء اليهودي- العربي، تندرج، ضمن أشياء أخرى، الأمور التالية: موقع حركة العمل الصهيونية في سيرورة بناء المجتمع، والتطابق الواسع بين الاستيطان وبين الأمن، والدور المركزي الذي يضطلع به الهستدروت (اتحاد نقابات العمال العام) في المجتمع والاقتصاد، وحتى دور "الكيبوتس" (الاشتراكيّ) أيضًا.

وتنيط الأبحاث والدراسات، التي تتمحور حول القصة اليهودية الداخلية بشأن إقامة المجتمع الإسرائيلي، دورًا مركزيًا بالقيم والأفكار التي جلبها المهاجرون الصهاينة من بلدانهم الأصلية، وبالأساس الإيديولوجيات الاشتراكية- العالمية التي تم استجلابها من أقطار أوروبا الشرقية. وعلى الرغم من أن المألوف هو الاعتقاد بأن المُثل السامية تؤدي دورًا متميزًا في التاريخ اليهودي، فإن أهمية هذه المُثل في تاريخ المجتمع الإسرائيلي كانت أدنى من أهمية الظروف المادية، التي وجد المهاجرون- المستوطنون أنفسهم في خضمها لدى وصولهم إلى فلسطين. وداخل هذه الظروف كانت هناك أهمية حاسمة لثلاثة عوامل: سوق الأرض، وسوق العمل، والنسبة العددية بين المستوطنين وبين السكان المحليين (الأصليين).

وادعائي، الذي سيرد لاحقًا، هو أنه ضمن سياق التجربة والخطأ في سوقي الأرض والعمل تبنى المستوطنون اليهود- منذ الفترة العثمانية- أنماط نشاط كان لها تأثير حاسم في خصائص المجتمع والدولة العتيدين.

ويميل الباحثون الذين يفصلون بين القصتين- قصة بناء المجتمع اليهودي وقصة الصراع اليهودي العربي- حتى إلى التشديد على خصوصية الاستيطان الصهيوني، وعلى تلك الخصائص التي تجعل هذا الاستيطان، بصورة ظاهرية، مختلفًا عن حالات أخرى من الاستيطان الكولونيالي.
وهكذا، مثلًا، فهم يعرضون اختلاف الطابع والوتيرة بين تطور الييشوف (المجتمع اليهودي الاستيطاني في فلسطين قبل 1948) وبين تطور المجتمع الفلسطيني، باعتباره إحدى القرائن على كونهما مجتمعين منفردين، وعلى أنه لم يحدث هنا استغلال للمحليين (الأصليين) من طرف المستوطنين. أكثر من هذا، يجري عرض الإيديولوجيا الاشتراكية للجماعة المستحوذة في أوساط المهاجرين اليهود بوصفها عاملًا أدى بالحتم إلى تسكين أي لدغة كولونيالية يمكن أن تكون كامنة في عملية الاستيطان الصهيونية.

منذ سنوات السبعين المتقدمة (في القرن العشرين الفائت) بدأت تتبلور في أوساط الباحثين الإسرائيليين، وحتى في الجدل الجماهيري العام، مقاربة جديدة ونقدية إزاء كل ما تقدّم من مسائل. ومن منظور هذه المقاربة، من الصائب عقد مقارنة بين الاستيطان الإسرائيلي الراهن والتشكيل الاجتماعي الإسرائيلي الناشئ الآن، وبين مجتمعات كولونيالية أخرى مثل إيرلندا الشمالية والجزائر الفرنسية أو جنوب أفريقيا (أنظر مثلًا: Harkabi 1988، سيفان 1989). ومريدو هذه المقاربة هم من منتقدي الاستيطان اليهودي في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة بعد حرب حزيران/ يونيو 1967.

والأمر الدارج لدى هؤلاء هو إجراء تمييز حادّ بين هذا الاستيطان الأخير، الذي يرفضونه كليًا، وبين الاستيطان في مناطق السهل الساحلي والأغوار (داخل خطوط 1948) الذي يرفعونه إلى مصاف المقدّس. وهو ما يضطرهم إلى أن يروا في الاستيطان المتأخر- المستوطنات أو المستعمرات- ظاهرة جديدة وانعطافًا مرهونًا، بهذا القدر أو ذاك، بحدوث تغيير راديكالي طرأ على الثقافة السياسية الإسرائيلية بعد عام 1967. وما يتبين من مقاربتهم هذه، مجازًا، أن أثينا الكولونيالية ولدت بالغة عندما قفزت من رأس والدها زيوس الاشتراكي. سوية مع هذا فإن التشابه الجليّ بين موجتي الاستيطان السالفتين يتيح لقسم واحد من حركة العمل (قسمها اليميني) إمكان التماهي مع الاستيطان الجديد، بينما يشعر القسم الآخر من هذه الحركة (قسمها اليساري) بأن خصوصيته التاريخية تتعرّض إلى السلب.

إن هذه النظرة، التي تبدأ بسرد التاريخ الإسرائيلي من جديد بالتزامن مع الاحتلال في عام 1967 أو مع "الانقلاب" في عام 1977 ("الانقلاب" هو التعبير السياسي الإسرائيلي عن مرحلة صعود حزب الليكود إلى سدة الحكم في إسرائيل بعد أن تربع عليها حزب العمل لمدة 29 عامًا متواصلة منذ عام 1948)، تتغاضى عن أوجه الشبه بين الاستيطان ما قبل 1948 وبين الاستيطان ما بعد 1967. وبذلك فإنها تفوّت على نفسها فرصة التعلم من الحاضر بشأن الماضي، والتعلم من الماضي بشأن الحاضر، واستخدام الإدراك المزدوج الناجز من أجل إخضاع المقاربات المألوفة في التحليل السوسيو- تاريخي للمجتمع الإسرائيلي إلى تقويم متجدد. من ناحيتي، وفي مقابل ذلك، يشكّل خلع بُعد كولونيالي على إسرائيل ما بعد 1967 فقط، دعوة مفتوحة إلى القيام بدرس مجدّد إزاء الإنكار الصارم لأي جانب كهذا في الاستيطان الصهيوني المُبكر. لذا يبدو لي أن هناك حاجة وضرورة إلى المقاربة النظرية، التي بمقدورها أن تفهم التواصل والاستمرارية بين فترة تأسيس المجتمع اليهودي- الإسرائيلي في "أرض إسرائيل" العثمانية والانتدابية، وبين فترة الدولة المستقلة، والفترة التي أعقبت "حرب الأيام الستة" (حرب حزيران/ يونيو 1967) وصعود حزب الليكود إلى الحكم.

بهذه الروح سأدعي بداية أن هناك شبهًا مبدئيًا، وإن كان هناك اختلاف مُعيّن، بين الاستيطان الصهيوني وبين سيرورات الاستيطان الكولونيالي الأوروبي فيما وراء البحار.

وسأدعي، ثانيًا، أن التغيّرات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي بعد عام 1967 ينبغي فهمها لا بوصفها انتقالًا من مجتمع صهيوني- اشتراكي إلى مجتمع يميني- كولونيالي، وإنما بوصفها استمرارًا طبيعيًا للمشروع الكولونيالي (الصهيونيّ)، عبر الانتقال من شكل استيطاني معين إلى شكل آخر.

وسأعرض هاتين الأطروحتين النظريتين في خمسة فصول:

الفصل الأول يقترح تصنيفًا لنماذج الكولونيالية الأوروبية، ويقارن بإيجاز بين الظروف التي سادت في فلسطين وإسقاطاتها على الاستيطان فيها، وبين كولونيات أخرى.

الفصل الثاني يحلل الكيفية التي بواسطتها لاءمت حركة العمل الصهيونية نموذج الاستيطان الأوروبي إلى احتياجاتها، وإلى الظروف المحلية التي واجهتها.

الفصل الثالث يشدد على السمات الخصوصية للاستيطان الصهيوني.

الفصل الرابع يعرض، بإيجاز شديد، خصائص الفترة بين عامي 1948 و1967.

وأخيرًا يبحث الفصل الخامس في أنماط الاستيطان الكولونيالية في فترة ما بعد 1967، بالمقارنة مع تلك الأنماط من الفترتين العثمانية والانتدابية، ويبحث في إسقاطات هذه الأنماط الجديدة على طابع المجتمع الإسرائيلي.

شروط الاستيطان

ونماذج المستعمرات

إن رفض الاعتراف بأوجه الشبه بين الكولونيالية الأوروبية وبين الاستيطان الصهيوني ناجم ليس فقط عن الحرج الإيديولوجي المنوط بمقارنة من هذا القبيل، وإنما ناجم أيضًا عن افتقاد الوعي بشأن التشكيلة المتنوعة لنماذج المستعمرات الكولونيالية، التي أنشئت وتشكلت من طرف الدول الأوروبية العظمى بين القرن السادس عشر والقرن العشرين.

يجدر بنا أن نتذكر أن الاستيطان الكولونيالي الأوروبي أفرخ أكثر من نموذج واحد للمجتمع الكولونيالي.

ويميز الباحثان فيلدهاوس (fieldhouse,1966) وفريدريكسون  (fredrickson,1988) بين أربعة نماذج لمستعمرات كولونيالية مختلفة.

وهذه النماذج هي:

المستعمرة العسكرية -  (occupation colony).

المستعمرة المختلطة - (mixed colony) وهي خليط بين مجموعات إثنية مختلفة.

مستعمرة المزارع - (plantation colony).

مستعمرة الاستيطان الطاهرة - (pure settlement colony)، بمعنى أن جميع السكان، أو معظمهم، هم من الأصل الطاهر للمهاجرين - المستوطنين الأوروبيين.

وتمثّل هدف المستعمرة العسكرية (النموذج الأول) في تأمين سيطرة عسكرية وإدارية على إقليم جغرافي ذي أهمية إستراتيجية. وهذا الغرض تطلب الاحتفاظ بقوة عسكرية في المستعمرة، لا باستيطان مدنيّ واسع. ومثل هذه المستعمرات جرى تأسيسها، على سبيل المثال، في شواطئ آسيا وأفريقيا (يشار هنا إلى أن "أرض إسرائيل"- فلسطين- نفسها كانت مستعمرة من هذا الطراز بالنسبة إلى بريطانيا).

أمّا النماذج الثلاثة الأخرى فهي مستعمرات استيطانية (settlement  colonies) أي مستعمرات مرتكزة إلى استيطان سكان أوروبيين، وإلى سيطرتهم على الموارد الاقتصادية وفي طليعتها الأرض.

يكمن الاختلاف بين النماذج الثلاثة للمستعمرات الاستيطانية المذكورة أعلاه في أساليب استعمال الأرض. ففي المستعمرات المختلطة اضطر السكان المحليون إلى تزويد المستوطنين بقوة العمل المطلوبة، لكن من غير أن يسود فيها فصل عرقي تام، ولذا فإنه بمرور الوقت انطمست الحدود بين المستوطنين وبين السكان المحليين بواسطة عدة عوامل من بينها الزواج المختلط. وهذا الطراز من المستعمرات اتسمت به أميركا اللاتينية تحت الحكم الإسباني أو تحت الحكم البرتغالي. وفي ظروف انعدام قوة عمل محلية، رخيصة ومطيعة، استورد المستوطنون الأوروبيون قوة عمل مستعبدة للعمل في مزارعهم. وإن أكثر النماذج المعروفة لمستعمرة المزارع هذه هو نموذج مناطق زراعة القطن في جنوب الولايات المتحدة، التي كان العمل فيها يتم من طرف عمال زنوج استوردوا من أفريقيا خصيصًا لهذا الغرض.

هناك نموذج آخر لمستعمرة المزارع هو جنوب أفريقيا، التي جرى فيها استعباد قوة العمل الزنجية المحلية. وفي الحالتين فرضت على العمال مكانة شرعية دونية، بالإضافة إلى مكانة اقتصادية دونية.

وخلافًا لهذين الطرازين من المستعمرات الاستيطانية، فإنه في مستعمرة الاستيطان الطاهرة انتمى المشغلون والعمال إلى جماعة إثنية واحدة، أي كانوا جميعًا من المستوطنين الأوروبيين. وكان شرط نشوء هذا الوضع هو طرد السكان المحليين أو إبادتهم.

ويؤكد فريدريكسون أن هذا النموذج من المستعمرات أتاح للمستوطنين إمكان "أن يحظوا مرة أخرى بشعور التجانس الثقافي أو الإثني، المحسوب على مفهوم القومية الأوروبية" (Fredrickson 1988:218-221).

وتعتبر المناطق الشمالية للولايات المتحدة، وأستراليا، ونيوزيلندا، أمثلة على هذا النموذج الاستعماري.

إلى هذا التصنيف النمطي يجب أن نضيف طرازًا آخر، هجينًا، سأطلق عليه اسم "مستعمرة المزارع الإثنية". وهو طراز يدمج ما بين سيطرة المستوطنين الأوروبيين على الأرض وتشغيل عمال محليين، إنما من خلال الحفاظ على الحواجز والسدود الإثنية بين المجموعات السكانية. وتنمذج على هذا الطراز المستعمرة الفرنسية في الجزائر، والمستعمرة الإنكليزية في كينيا.

إذًا، يشكل طابع قوة العمل، التي تشتغل في الأرض التي يمتلكها المستوطنون الكولونياليون، علامة فارقة حاسمة بين أنواع المستعمرات التي أنشأها الأوروبيون خارج تخوم قارتهم. والنظرية العامة، التي تكشف عن الديناميكية الفاعلة في أسواق العمل التي يتم فيها تشغيل عمال من مجموعات إثنية مختلفة- والمستعدين للقيام بعمل مماثل في مقابل أجر مختلف-، يقترحها نموذج "سوق العمل المجزأة" الذي طورته عالمة الاجتماع عيدنا بوناتشيتش (Bonacich,1972).

يوضح هذا النموذج (الموديل) أن العمال أصحاب المدخولات العالية نسبيًا، وهم عادة عمال "بيض"، يردون على محاولات اختراق سوق العمل من طرف متنافسين ذوي أيدي عمل أكثر رخصًا، وعمومًا من بين مجموعات إثنية ليست أوروبية، بانتهاج واحدة من إستراتيجيات ثلاث. والإستراتيجيتان الأكثر شيوعًا بينها هما: إنشاء "كاستات" (Castes) - أي مجتمعات مغلقة متحجرة ومنغلقة على نفسها- أو بدلًا منها إستراتيجيا "الإقصاء" (exclusion).

إستراتيجيا "الكاستات" معناها تقييد العمال المتنافسين بالاشتغال في مهن منخفضة الأجور والمنزلة الاجتماعية. أما إستراتيجيا "الإقصاء" فمعناها الإبعاد المطلق والتام للعمال ذوي الأجور والمنزلة الاجتماعية المنخفضة من سوق العمل. وتؤدي هاتان الطريقتان إلى تجزئة سوق العمل بواسطة موضعة العمال من أصحاب الأيدي الرخيصة في أسفل سلم الشغل أو خارج سوق العمل. وبالرغم من الاختلاف فيما بين الطريقتين فإنهما تحققان نتيجة مماثلة واحدة هي: صيانة المكانة العالية نسبيًا وكذلك الأجر العالي نسبيًا للعمال من المجموعة الأولى. وهناك إمكانية ثالثة هي نشوء تضامن بين فرق العمال من المجموعات الإثنية المتعدّدة، بهدف مساواة أجور الجميع بالأجر الأعلى اللائق. لكن مثل هذه الإمكانية عادة ما تبوء بالفشل، ولو بسبب احتمال هروب الرأسمال نحو غايات أكثر رخصًا.

تعلمنا النماذج التاريخية أن المُشغلين الكولونياليين الأوروبيين يميلون إلى إيثار الأيدي العاملة الأكثر رخصًا، من غير اعتبار الأصل الإثني للعمال. ونتيجة لذلك فإن الشغيلة من مجموعة المشغلين الإثنية بالذات- المعتادين على أجور أعلى من أجور منافسيهم غير الأوروبيين- هم الذين يتم إخراجهم من السوق. وتبطل هذه الديناميكية الاقتصادية فقط عندما يفلح العمال الأوروبيون في الالتفاف على ميكانيزم سوق العمل، وفي تطبيق شروطهم المفضلة بواسطة تجزئة السوق، أي: تقييد منافسيهم أو إبعادهم. ويفهم من هذا أن العمال الأوروبيين، الأبهظ ثمنا، يستطيعون صيانة أماكن عملهم وأجرهم العالي نسبيًا فقط عندما يخوضون نضالهم المهني على أساس إثني أو قومي ويجندون من أجل ذلك، قدر الممكن، تأييد جهاز الدولة. فالدولة فقط بمقدورها تقديم مخصصات دعم لأجور العمال الأوروبيين العالية (بواسطة فرض ضرائب على عموم السكان) وعبر استخدام شرعية الوحدة الإثنية، القومية أو العرقية.

بالاستناد إلى نظرية الأنماط، وفقًا لـ فيلدهاوس وفريدريكسون، وعلى أساس موديل بوناتشيتش، يمكن إيجاز الفوارق البارزة بين أنواع المستعمرات الأوروبية. والمعيار المميز الأساسي هو ما أبداه المستوطنون، في كل حالة، من اهتمام بالأرض والعمل المحليين. فمستوطنو المستعمرة العسكرية لم يكن لديهم شأن لا بالأرض ولا بالعمل المحلي، وإنما فقط بالمكان نفسه باعتباره ذخرًا استراتيجيًا. أما مستوطنو المستعمرات المختلطة، فقد كان لهم شأن بالأرض وبقوة العمل المحلية على حد سواء. والمستوطنون في الصنفين الآخرين من المستعمرات كان لهم شأن فقط بالأرض المحلية، وتمثل الاختلاف فيما بينهم في أن مستعمرات المزارع استوردت عمالًا مستعبدين أجانب (ليسوا أوروبيين)، بينما استخدمت مستعمرات الاستيطان الطاهرة فقط عمالًا من أبناء جماعات المستوطنين أنفسهم. وثمة تمايز إضافي يتعلق بما أسميه المصلحة الديموغرافية لأنواع المستعمرات المختلفة، أي: التعامل المفضل فيها بين مجموعات السكان وبين الأرض. فالمستعمرة العسكرية تتسّم بكثافة منخفضة للسكان المستوطنين على الأرض، بينما تتسم المستعمرة الطاهرة بكثافة عالية للسكان المستوطنين على الأرض. والمستعمرات من النموذج الأخير نجحت، بشكل عام، في ترسيخ نفسها وتأمين استقرارها لمدة أطول من مدة نماذج المستعمرات الأخرى.

إن ما يهم موضوع بحثنا هو نوعان من مستعمرات الاستيطان:

النوع الأول: مستعمرات المزارع، على نسق المستعمرات في جنوب الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا. فهذه المستعمرات اعتمدت على العمل الرخيص وأقامت "حاجزا لونيًا" (color bar) من أجل جعل منزلة المستوطنين البيض أعلى من منزلة غير البيض.

النوع الثاني: مستعمرات الاستيطان الطاهرة، على نسق مستعمرات شمال الولايات المتحدة ونيوزيلندا وأستراليا، التي آثرت أن تقصي غير البيض من داخلها، وأن تبلور مجتمعًا متجانسًا من ذوي الأصل الطاهر للمستوطنين البيض.

وحسبما سنبدي في سياق لاحق فإن المهاجرين الصهاينة في "أرض إسرائيل" توجب عليهم أن يقرروا الطريق، التي سينتهجونها في صراعهم مع العرب المحليين على العمل والأجور، وكذلك أن يقرروا ماهية مصلحتهم الديموغرافية. والسؤال الذي كان ماثلًا أمامهم (وإن لم تتم صياغته بهذه التعابير) هو: هل يتم إنشاء مجتمع على نسق مستعمرات المزارع- وعندها يؤدي ذلك إلى جعل العرب المحليين "كاسته" منغلقة منعزلة ودونية؟ أم هل يتم، بدلا من ذلك، إنشاء مجتمع على نسق مستعمرات الاستيطان الطاهرة- وعندها يؤدي الأمر إلى إقصاء العرب المحليين من سوق العمل ومن المجتمع بصورة عامة؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.