}

لقاء مع "جيل البيت" الأميركي في بلدة إيطالية

أمجد ناصر أمجد ناصر 28 أغسطس 2018
استعادات لقاء مع "جيل البيت" الأميركي في بلدة إيطالية
كاتدرائية أمالفي

 

 

وها نحن ندخل "أمالفي".

الوقت ظهراً.

رائحة البحر قوية ونفاذة.

كذلك روائح الأكل، السمك خصوصاً.

البلدة تفور بفتيان وفتيات بلباس البحر.

كان هذا المشهد المدني، المسترسل في حياة عادية، مفاجئاً في انبثاقه من الطبيعة الوعرة للمنطقة.

ليست "أمالفي" مدينة، إنها جبل. ليست جبلاً، بل صدره فقط. من صدر الجبل الضيق اجترحت هذه المدينة، شقّت طرقها وأقيمت بيوتها بين السماء والبحر. من نقطة معينة في الأسفل يخيّل إليك، وأنت تنظر إلى البيوت التي تتشبت بأي شيء في هذا الجبل، أن بإمكان سكان الصف الأخير من البيوت أن يلقوا أنفسهم، مباشرة، من شرفاتهم إلى البحر. فلا توسط بين الجبل والبحر سوى هذه المنعرجات التي تسمى طرقاً وهذه الاتكاءات التي تنهض عليها البيوت وتسمى أرضاً. تبدو "أمالفي" لمن ينظر إليها من بعيد (... وهذا ما لاحظته عندما غادرتها على متن عبّارة إلى ساليرنو) كأنها مجرد ديكور. بيوت مرسومة على جدارية كبيرة وليست بيوتاً مأهولة بأنفاس بشر يغسل المتوسط عيونهم كلّ صباح بأزرقه الشفاف.

زرت مدناً كثيرة، يتكشف معظمها على دفعات. ترى ضواحيها، أطرافها من بعيد، إلاّ "أمالفي" التي تطلع اليك، كلّها، من وراء آخر لفة في الطريق المتعرجة. إنها لا تُرى، بوجهها الأبيض، إلاّ إذا جئتها من البحر، أما القادم من منعرجات ومطاوي الجبل فعليه أن ينتظر المفاجأة التي يخبئها له الجبل.

يخطر للمرء أن يتساءل، بنزق، وهو يرى الى هذه المدينة المضغوطة بشدة، هل ضاقت الأرض بسكان "أمالفي" الأوائل حتى يقيموا مدينتهم على ما يشبه الصخرة؟ في صدر جبل ليس فيه منبسط من الأرض وصولاً الى شاطىء ذي صخر وحصى؟

إن هذا، تُفكرِّ، تدبير لا يليق إلاّ بالفارين أو الرهبان المنقطعين عن أرض لا تدركها أقدام البشر وآلاتهم بسهولة. وما إن تتلفظ بهذا التساؤل، المحمول على نزق يثيره ضيق المكان ووعورة طبيعته، حتى ترى البرهان الحاسم، العلامة المؤيدة لهذا الظن تلوح من بعيد: إنه دير معزول في قمة الجبل!

أوصلنا "بيترو" إلى فندق يسمى  البوصلة. الفندق مريح. أهلي الطابع. بينه وبين البحر عرض الشارع فقط. لكن غرفنا لم تكن، لسوء الحظ، تطل على البحر بل على صخرة وجرف. هو ظهر الفندق وليس صدره الذي كانت غرفه مجوزة مسبقاً.  كان المنظر مقبضاً بعض الشيء . فقد كنت أمنّي النفس بإطلالة على البحر. طلبت تغيير غرفتي بواحدة تطل على البحر. لم يكن ذلك ممكناً.  فكلّ غرف الفندق المطلة على البحر مشغولة ،ولا يتوَّقع،  حسب قول مدير الفندق،  أن تشغر واحدة قريباً. قال إن "أمالفي"، كما ترى، مدينة سياحية، والفنادق فيها محدودة لذلك لا تتوقع أن تجد غرفاً في فنادقها بسهولة. انتهى الأمر بأن غيروا غرفتي بواحدة، في الجهة نفسها، ولكنها تطل على منظر أقل جهامة. منظر سيكون أول شيء أراه كل صباح: جرف، فوقه طريق، فوقها كمشة بيوت، بينها وفي محيطها الأشجار والنباتات التي لا زالت تنمو في ذاكرتي.

 

V

على قمة ومنحدرات جبل "لاتري" تتربع بيوت المدينة العريقة التي يصعد إليها الأهلون من طرق ضيقة ومتعرجة، ذكرَّتني بالطرق التي تصل بين وسط عمّان وبعض الأحياء المقامة على التلال المحيطة به.

يبدو أن هذه المنطقة كانت مشهورة، في الأزمنة القديمة، بانتاج الحليب لكي تستحق تسمية: جبل الحليب. فـ  Latte  بالايطالية تعني الحليب، مع أن المرء يستغرب كيف يمكن تربية المواشي في منطقة وعرة كهذه اللهم إلاّ اذا كانت ماعزاً؟ فالماعز، الماكر، واسع الحيلة، هو سيد الوعر. على الأرض القليلة التي انتزعها الأهلون من الجبل أقاموا بيوتهم ومزارعهم، لذلك تراها مكومة فوق بعضها البعض. فمن الصعب أن تبني، هنا، حياً وفق خطة هندسية. فالجبل لك بالمرصاد. والجبل ليس سهلاً!

حتى اللحظة التي غادرنا فيها الفندق إلى المطعم الذي كان ينتظرنا فيه المشاركون في المهرجان الواصلون قبلنا إلى المدينة كانت اللمحات، التشابهات مع العالم العربي المتوسطي تطالعنا هنا وهناك. لمحات وأوجه شبه متوقعة في مكان "متوسطي" كهذا، ولكنني كنت خالي البال بما يتعدى ذلك.

فما إن وصلنا إلى "ساحة دومو" (بيازا دل دومو) حتى صرنا وجهاً لوجه أمام بناء مهيب ومحيِّر.

فلولا الصليب الذي يعلوه، لقلتُ إنه جامع، بل لحملني الظن على القول إن واجهته محاكاة لإحدى واجهات الجامع الأموي في دمشق. بالنسبة لي كان الشبه بين هذين الصرحين قوياً إلى هذا الحد. عزز ذلك، إلى الواجهة العريضة والنقوش والرسومات التي تحتويها، جدل الحجر الأسود والأبيض، الأعمدة المستدقة، الأقواس المتطامنة، المنارة المربعة التي صارت نموذجاً للمنارات في الغرب الإسلامي. نقلني هذا التشابه الى أمكنة أخرى. دمشق مرة،  الأندلس مرة ثانية، المغرب مرة ثالثة. ليس ذلك البناء المهيب، المهجَّن والمألوف سوى كاتدرائية "أمالفي" مفخرة المكان ونقطة ارتكازه.

 قليلة هي العمارة التي رأيتها تمزج خصائص معمارية ووظيفية مختلفة بهذا القدر من الأريحية، من التقبّل والادماج. فهناك، كما نعرف، كنائس تحولت مساجد ومساجد تحولت  كنائس وكاتدرائيات بقليلٍ أو كثيرٍ من التغيير والتعديل الوظيفيين. مثال ذلك جامع قرطبة الذي صار كاتدرائية بإضافة القليل من اللمسات والرموز المسيحية إلى المعمار،  ثم ان الجامع الأموي، نفسه، أقيم (في جزء منه) محل كنيسة بيزنطية واستفاد من بعض معمارها بل ومن أعمدتها وحجارتها أيضاً. ثم هناك كنيسة "آيا صوفيا" قلب العالم البيزنطي التي حوّلها العثمانيون إلى واحد من أشهر مساجد العالم!

لكن كاتدرائية "أمالفي" لم تكن جامعاًً. بل شيدت، أساساً، ككاتدرائية تنهل من أشهر عمارة يومذاك: العمارة العربية الاسلامية.

ليس الأثر العربي في معمار الكاتدرائية، التي تطلع إليها بأدراجٍ حجريةٍ عريضةٍ،  الوحيد الذي يرنو نحو الجهة الأخرى من المتوسط بل التأثيرات البيزنطية كذلك. فـ "أمالفي" تدين لبيزنطة بأشياء كثيرة، فقد دخلت في أملاكها مرة ووقعت تحت حمايتها مرة أخرى.

وعندما دلفنا، لاحقاً، الكاتدرائية وتجولنا فيها، ثم في الأروقة التابعة لها، تكشفت لنا المؤثرات العربية في معمارها أكثر مما بدا ظاهراً.

(.. أتذكر وقوف محمد بنيس  أمام الزليج في قاعة ملحقة بالكنيسة، هي أشبه بمتحف يضم بقايا آثار تعرضت للدمار بسبب الأمواج العاتية التي دمرت، على ما يبدو، قسماً كبيراً من المدينة،  بنوعٍ من التأمل الخاص الذي أعاده الى أماكن عديدة في بلاده المغرب، ربما).

خطر لي لحظتها التساؤل التالي: هل يتوقف السائح الإيطالي أمام الآثار الرومانية المنتشرة في طول العالم العربي  وعرضه  بنفس الطريقة التي يقف فيها العربي أمام آثار أسلافه أو مؤثرات حضارته في الأقوام والحضارات الأخرى؟ هل يشعر أن هذه الآثار تعنيه، تخصه، مثلما نشعر نحن؟

تذكرت، وأنا اتساءل، أن كثيراً من السياح الذين رأيتهم في المواقع السياحية الأردنية، كانوا إيطاليين في سن متقدمة. معروف أن القسم الأكبر من آثار ما قبل الإسلام في بلادنا  رومانية سواء تعلق الأمر بروما نفسها أم ببيزنطة جناحها الشرقي. فإذا كان الإيطاليون يقفون أمام الآثار الرومانية وقفتنا أمام الآثار العربية أو التأثيرات العربية في حضارات الأمم الأخرى فهذا يعني أن العودة الى "الأصول" ليست تقليداً عربياً.

 هذا يعني أننا لسنا وحدنا من يقف أمام "الأطلال"، لكن مع فارق واحد، ربما،  أننا الوحيدون الذين نبكي عليها!

حتى هذه اللحظة لا أعرف من هم الذين يشاركوننا في هذا المهرجان الشعري الذي دعيت اليه عبر صديقي الفنان التشكيلي العراقي والمترجم فوزي الدليمي، الذي يقيم في ايطاليا منذ أربعة عقود. هو "منظم" الجانب العربي في المهرجان. لكن ماذا عن الآخرين؟
هذا ما سنعرفه بعد قليل.
علينا أن نتوجه الى المطعم. إنهم هناك.

كان وقت الغداء.

 ما إن دخلنا المطعم الصغير حتى هبَّ الحاضرون، الذين لعبت ابنة الكرمة في رؤوسهم، إلى التسليم علينا بحرارة أربكتنا. فقد أبدوا لنا لهفة من ينتظر أصدقاء قدماء بفارغ الصبر. كنا فعلاً آخر الواصلين الى هذه المدينة – القرية. هذا الكارت بوستال السياحي المتوهج بالذهبي والأزرق. ولمّا لم أكن معتاداً، بعد سنين طويلة من الإقامة في الغرب، على هذه الحميمية الفاقعة من الأوروبيين، الذين نادراً ما تتلامس أجسادهم، فقد تضاعف ارتباكي. فانكمشت. احتجت وقتاً كي ألمّ بأطراف المشهد الصاخب، المترنح، وأشارك بقسط من قصفه. كانت الإنكليزية باللهجة الامريكية تتطاير في أرجاء المطعم الحميم. كان الندل الصغار في السن يتحركون بحماسة بين الطاولات يلبون الطلب المتزايد للشعراء على النبيذ ، وانعقاد الألسن، والخفة الداخلية التي تضرب صفحاً عن ثقل الأجساد. ويبدو أنهم كانوا سعداء بأداء هذه المهمة "الباخوسية". فهم لم يروا، على الأغلب، شيئاً كهذا من قبل، خصوصا من لدن شعراء.

حتى  فوزي الدليمي دليلنا الى هذا المنتجع السياحي (الذي يجعل المرء يفكر، للوهلة الأولى، أن آخر ما يهم أهله هو الشعر)، لم يكن يعرف شيئاً عن  المشاركين في المهرجان، سوانا، نحن العرب. كل ما أخبرنا به أن شعراء من بلدان أوروبية وأمريكا سيشاركون فيه. لذلك استغربت، وأنا اتخذ لي مجلساً بجانب شاعر أمريكي ضخم الجثة، يرتدي زياً شبه أفريقي، كثرة المتحدثين بالانكليزية الأمريكية. حتى محمد بنيس الجالس بجانب شاعر أصلع الرأس أبيض اللحية هادىء القسمات كان "يترغل"، هو أيضاً، بالانكليزية، مع أن لغته الثانية فرنسية. كان بنيس قد وصل قبلنا بليلة عن طريق روما، وأصبح واحداً من هذا الرهط البوهيمي العجيب، فكدنا لا نعرفه.

VI

لم يطل الوقت حتى علمت أن القسم الأكبر من المدعوين أمريكيون. غير أنهم أمريكيون غريبو الأطوار، لمعظمهم لحى وشعور طويلة، يرتدون ثياباً أكثر غرابة من لحاهم وشعورهم مطلقة السراح. مرحون وصاخبون وحميمون. لقد بدوا كأنهم طالعون مباشرة من صخب الستينات. عرفت بعد ذلك أن بعضهم ينتمي إلى "جيل البيت" وبعضهم الآخر قريب، زمنياً وفنياً، من هذا الجيل الذي لعله يكون الأكثر شهرة، عالمياً،  في سلسلة الأجيال والحركات الأدبية والفنية بعد السرياليين. إنهم جيل ألن غينسبرغ، تشارلز بوكوفسكي، لورنس فيرلنغيتي، جاك كرواك، وغيرهم.

سنأكل ونشرب و"نتبين" تحت غمرٍ من تفجرات الضحك و"الهيصة" الامريكية منظميّ المهرجان (رافايلا مارزانو وسيرجيو لاقولي) وهما زوجان سبق أن نظما أكثر من مهرجان شعري ويشرفان على دار نشر تدعى "مالتي ميديا". كان سيرجيو ورافايلا ضائعين وسط صخب الشعراء الأمريكيين الذين  فرضوا  حضورهم الصداقي الثقيل على المكان وتصرفوا كأنهم أصحاب البيت. فهم الذين هبوا لملاقاتنا وتعريفنا إلى أنفسهم والآخرين.. لا سيرجيو وزوجته!

بعد أن أمتلأت البطون بنوعين، في الأقل، من المعكرونة الايطالية المطهية "على أصولها" ودارت الرؤوس بابنة الكرمة الأمالفية انطلق ركبنا في الشوارع الضيقة التي تصادت فيها الضحكات الصاخبة. بدت المدينة الصغيرة الطالعة بأجساد أهلها والمصطافين فيها من البحر تحت "رحمتنا". فبيننا شعراء  يزن بعضهم   مئة وعشرون، ربما مئة وخمسون، كيلوغراماً على الأقل!

يظن الشعراء، دائما ، أنهم مركز العالم.

 لكن للعالم، على ما يبدو، مراكز أخرى.

فحتى هذه البلدة الصغيرة التي انتشر ملصق مهرجاننا الشعري في  أرجائها، كان لها ما تفعله غير أن تحبس أنفاسها بانتظار الشعراء الفاتحين!

كانت "أمالفي" تصنع، هي أيضاً، شعريتها الخاصة: هبوب نسيم البحر، صفحة المتوسط الزرقاء مثل تعويذة عين الحسود، البيوت المطلة باسترخاء أهليٍّ على البحر، الأجساد الفتية الموعودة بمطارحات الأشواق لا تزال في ثياب البحر، عقود الليمون والفلفل الأحمر المعلقة أمام محال الخضر والفاكهة، الشوارع الصغيرة المرصوفة بحجارة بحجم الكف، الحنيات والأقواس التي مرت من تحتها القرون، أسماء القديسين والأبطال وتماثيلهم، الألفة وطيبة الأهلين التي تكسر الصورة السياحية المؤطرة للمكان.. إلخ إلخ.

إن لم تكن هذه شعرية أيضاً فما الشعر إذن؟

إنها شعرية الواقع والطبيعة لا شعرية الكلمات، وكان لها أربابها ومتلقوها وسادرون في أنحائها ومنغمورن فيها. ليست الكلمات أرض الشعر الوحيدة. هناك أرض أخرى، بل قل أولى، للشعر. ولعل الكلمات لا تفعل شيئاً سوى محاكاتها. ألم يكن هذا هو أصل الفن؟


 

VII

ليست المؤثرات العربية القديمة في معمار كاتدرائية "أمالفي"، وبعض معالمها السياحية، هي الشيء الوحيد الذي يُذكِّر بالعرب.. سكان الضفة الأخرى من هذا البحر المشترك (... أو تعبير لا يحضرني، الآن، اسم منشئه: البيت المشترك) بل ان المدينة تفخر، وهي تعدد أمجادها أنها تمكنت من دحر "الساراسيين" مرتين، مرة في عام 920 م عندما كانوا يعدون العدة لغزو روما، ومرة في عام 1544. الهزيمة الأخيرة، تحولت ذكراها عيداً دينياً أصبح مع مرور الأيام كرنفالاً سنوياً حلّ موعده قبل أيام من مجيئنا.

يرد ذكر هؤلاء "الساراسيين" والهزيمة التي ألحقتها بهم "أمالفي" في الكتيبات السياحية التي تجدها في الفنادق أو عند محال الهدايات والتذكارات، وإذا سألت من يتحدث الإنكليزية في هذه المحال (.. وهم، في الواقع، قلة قليلة) عن كثرة المرافق التي تحمل اسم "القديس أندريا" ستعرف أنه حامي المدينة وملاكها الحارس، وأنه هو الذي أنقذ "أمالفي" من قبضة "الساراسيين" في غزوتهم الأخيرة لها. كثيرة هي المرافق المسماة باسم "القديس أندريا" ولكن أشهرها (غير الكاتدرائية المكرسة له أيضاً)  النبع الذي يتوسط  "بيازا دل دومو" التي تتوسط، بدورها، الحي التجاري للبلدة .. وكل من يمر بالساحة يغريه الماء، خصوصاً في ظهيرات الصيف الحامية، الذي يتدفق من ثديي تمثال رخامي لفتاة أو من قربة رجل عجوز... بينما "القديس أندريا" شفيع البلدة البحرية، يشخص بهالة رأسه النورانية، جهة البحر الذي حملت رياحه، ذات يوم، سفن "الساراسيين" الغزاة.

"الساراسيون" الغامضون حتى اللحظـة (بالنسبة لي على الأقل) موجودون في هواء المدينة ومائها!

يا لهؤلاء "الساراسيين" الذي يسرون، على نحو غير مُفكَّر فيه، في عصب المدينة، يقبعون كذكرى مزعجة في خلفيتها!

من يكون هؤلاء "الساراسيون" الذين هزمتهم أمالفي "ملكة" البحر الأبيض المتوسط بهمّة قديسها أندريا؟

إنهم العرب المسلمون!

لم أجد في المصادر العربية التي تؤرخ للغزوات على إيطاليا ذكراً للهجوم على "أمالفي" ولا في عهد أي دولة وقع. وإن كان حدث ذلك، على الأغلب، في عهد الدولة الفاطمية. دعونا نتذكر أن وجود هؤلاء "الساراسيين" (العرب) في إيطاليا قد بدأ قبل ذلك بكثير. فالمصادر العربية ترجع أول وجود عربي في صقلية إلى العام 728 م، لكن ذلك لم يؤمن وجوداً مستقراً إلا بعد عدة غزوات تتابعت في عهدي "الأغالبة" و"الفاطميين". ويبدو أن أول قاعدة مهمة للعرب في إيطاليا كانت في "باليرمو" التي يسميها الإخباريون العرب "بلرم"، فمن هذه المدينة انطلقت معظم الغزوات اللاحقة حتى وصلت الى روما وفينسيا.

ولعل الأقدار وحدها هي التي حالت دون احتلال "الساراسيين" لروما عاصمة الامبراطورية الرومانية الآفلة، وقلب العالم الذي لم يكن يكف عن النبض. فإحدى الروايات التاريخية تقول إن العرب تمكنوا من إنزال فيالقهم في مرفأ المدينة لكنهم لم يتمكنوا من اختراق أسوارها الحصينة فاكتفوا "بنهب" كنوز كاتدرائيات القديس بطرس والفاتيكان والقديس بولص التي تقع خارج الأسوار، ويقال إنهم عبثوا أيضاً بقبور البابوات، ولكن ذلك لم يفت في عضد هم فبعد ثلاث سنين حملت إحدى الليالي العاصفة اسطولهم إلى مرفأ "أوسيتا" التابع لروما لكن الاسطول الإيطالي بـ"التحالف" مع عاصفة بحرية هوجاء تمكن من دحر الاسطول العربي.. وانتهت بذلك آخر محاولة عربية لاحتلال روما. ويبدو أن رسام عصر النهضة العظيم رفائيل قد استلهم تلك المعركة في رسم إحدى لوحاته. لكن "الساراسيين"، مع ذلك، كانوا يحومون في الجوار. فقد حكموا  أقاليم إيطاليا الجنوبية  لنحو مئتي عام. ولم تكن "أمالفي" بعيدة عنهم، فهم كانوا في "كالابريا" التي سماها العرب  "قلورية" وكذلك في "نابل" (نابولي) وفي "باري". والحال فإن "أمالفي" كانت، بصورة أو أخرى، في قبضة "الساراسيين".

لكن تلك دورة من دورات الزمن. ففي دورة أخرى تمكنت "أمالفي" من الانتقام من "الساراسيين" في ثاني أقدس بقعة عندهم: القدس.

فقد انشأ التجار الأمالفيون نظام رهبنة حربياً سموه "فرسان مستشفى  القديس يوحنا" حوالى العام 1048، شكل مع "فرسان المعبد" أقوى نظامي رهبنة  حربيين عرفتهما فلسطين أيام الحروب الصليبية، ما لبث أن امتد تأثيرهما حتى شمل معظم بلاد الشام. كانت الأموال تتدفق من التجار الاوروبيين "المؤمنين" لدحر "الساراسيين" بعيداً عن "بيت المقدس". شهدت القدس أهوالاً بعد سقوطها بيد الصليبيين. كان اللاجئون الذين فروا من المدينة  قد وصلت وفودهم الى بغداد لحث الخليفة العباسي على  تحرير القدس ولكنه كان أضعف من أن يحرك ساكناً، فشخصت العيون والافئدة الى أمير آخر يحكم الموصل يدعى عماد الدين زنكي الذي شكل تحركه بداية الهجوم المضاد لاخراج الصليبيين من بلاد الشام وصولاً إلى القدس. قُتل عماد الدين غيلةً قبل أن يبلغ مراده فخلفه ابنه الأمير نور الدين الذي لم يكن، على ما يبدو، أقل منه شجاعة ولا رغبة في  مواصلة الطريق. لكن القدس ستنتظر أميراً لم يكن نجمه قد سطع بعد يدعى صلاح الدين، الذي كان أحد قادة نور الدين. فهو الذي سيكتب له أن يعيد فتح بيت المقدس، بعد أن يدور الزمن دورة أخرى، ويعود الذين جاءوا لكي يحرروا "قبر المسيح" من وراء البحر الى بلادهم.  يقال ان معظم "فرسان المستشفى" من أبناء أمالفي، مثلهم مثل سائر الصليبيين، عاد الى بلاده الأصلية بعد سقوط "مملكة اورشليم  اللاتينية" لكنهم لم يعودوا فقراء كما ينبغي للرهبان أن يكونوا. فقد تمكنوا، أثناء اقامتهم في فلسطين وبلاد الشام، من انشاء أديرة، واقطاعات، وبناء بلدات  في بلادهم الأولى. وليس مستبعداً أن يكون النهوض الذي شهدته هذه البلدة البحرية عائداً الى "جهادهم" في المشرق.

VIII

عندما سمعت اسم هؤلاء القوم من بائع في محل للهدايا ظننت أن الأمر يتعلق بأحد الأقوام الأوروبية الغازية كالنورمانديين أو الفايكنغ، رغم أن إيقاع الاسم وخصوصاً مقطعه الأول (سارا) يبدو شرقياً، ولم أعرف معناه إلاّ عندما عدت الى لندن وبحثت عنه في أكثر من قاموس وموسوعة لأجد أنه أحد الأسماء التي كان يطلقها الأوروبيون على العرب، أو المسلمين، في أواخر أيام الامبراطورية الرومانية وصولاً للعصور الوسطى.

ليس للاسم علاقة بـ"سارا" كما تخيلت أول وهلة، فلو كان الأمر كذلك، لعنى وخصَّ "أبناء عمومتنا" اليهود أكثر منا، فنحن أبناء "ضرتها" لكن للاسم، على ما يبدو، إحالة على "الشرق" كما يرجح أحد المعاجم الانكليزية، أما كيف؟ فاليكم الولادات المتكررة والتجليات المختلفة لهذا الاسم ذي الرنين الشتائمي:

ففي معجم "كولينز" الإنكليزي  يمكن تعقب المعاني التالية له: فهو يعني أحد افراد القبائل العربية الرحل، السورية خصوصاً، التي كانت تغير على حدود الامبراطورية الرومانية في تلك البلاد، وصار يعني الاسم في الحروب الصليبية أي عربي أو مسلم.

يرجع المعجم أصل الكلمة الى الفرنسية القديمة "ساراسيان" التي جاءت من اللاتينية المتأخرة "ساراسينوس" والتي أخذتها، بدورها، من اليونانية المتأخرة "ساراكينوس" التي يرجح المعجم أنها جاءت من الكلمة العربية شرق Sharq.

لكن معجماً انكليزياً آخر يعطي معاني ودلالات أوسع لهذه الكلمة أكدت إحساسي بطابعها الشتائمي، الهجائي، فإلى ما ورد في المعجم السابق يربط معجم  مختصر اكسفورد الجديد هذه الكلمة بكلمات أخرى مثل:

heathen   أو   Pagan  اللتين  تعنيان، عموماً، الشخص الذي لا يعرف الأديان السماوية أو الكافر أو غير المتحضر.. ويمكن لكلمة "ساراسين" أن تعني البربري أيضاً!

لكن "الساراسيين"عندما غزوا "أمالفي" مرتين لم يكونوا بدواً رحلاً يغيرون على أطراف الإمبراطورية الرومانية ويثيرون هلع الحاميات أو التجمعات المعزولة في التخوم بل أصبحوا، بعد أن دارت دورة الزمن "الخلدونية"، أصحاب امبراطورية هزمت الإمبراطوريتين الكبيرتين يومذاك: الرومانية والفارسية وحلت محلهما. أخذت منهما ما أخذت واختطت لنفسها طريقاً آخر.

والغريب في الأمر أن الكتيبات السياحية عن "أمالفي" تذكر العرب  والمسلمين باسمين مختلفين. فعندما تتحدث عن شوكة "أمالفي" البحرية وقوة أسطولها في العصور الوسطى ونزعتها الدائمة للحرية والاستقلال التي غالبا ما جعلتها مركزاً لمنطقتها يرد اسم "الساراسيين" وهزيمتهم مرتين في فترتين متباعدتين، ولكنها عندما تتحدث عن المؤثرات الأجنبية في معالمها العمرانية يرد اسم العرب!

كأن الغزو، حتى وإن حدث في القرن السادس عشر، ظل منحصراً في اسمهم كـ"سارسيين"بينما انفرد اسمهم كـ"عرب" بالمؤثرات الحضارية!

وهذا أفضل، على كل حال، من أن يظلوا "ساراسيين" طوال الوقت!

ولكن هل لكلمة "عرب" في الغرب، الآن، وقع أفضل من كلمة "ساراسيين"؟

 

 

 

VIII

 

 

كان الفندق أفضل بكثير مما بدا في اللحظة الأولى، خصوصاً جانبه المطل على البحر. كان يكفي أن أغادر غرفتي ذات الأباجور الخشبي الكبير التي تطل على جرف فوقه طريق مسورة تؤدي الى بضعة بيوت في إحدى قمم الجبل وانتقل إلى شرفة صغيرة في الجهة الأخرى أرضها مبلطة بالازرق النيلي تنتصب في أركانها اصص الزهور والنباتات المعرشة حتى اكون أمام البحر. انتقال من البني والترابي والعروق الحجرية التي تتخلل تربة الجرف إلى الأزرق الفيروزي.

 الطابع البيتي للفندق، خصوصاً شرفاته، يعطي انطباعاً بعلاقة مختلفة مع المكان، تتعدى علاقة السائح العابرة به، فكأنك هنا لتقيم، لتمكث، لا لتعبر دون أن تترك وراءك أثراً أو تحمل معك أثراً.

 وليس هذا من خصائص  الفندق بل من خصائص البيت. كأن الفندق، مهما كان مجهزاً بكل وسائل الراحة، مصمم على أساس العبور. ينطوي على شيء يذكرك بالمغادرة حتى وأنت تحل فيه. ولم يكن "فندقنا" من هذا النوع.

خطر لي في صبيحة اليوم الثاني لوصولي الى "أمالفي" وأنا أنحني على الشبك الحديدي للشرفة تاركاً لكياني كله أن يتشرب تفاصيل المشهد: ذبذباته، أشعة شمسه الصباحية، زرقة بحره، هواءه الخفيف، أن هذه اللحظة  شظية متطايرة من الأبد اخترقت جسدي. هُيِّئ لي أن هذه اللحظة المشحونة بهذه الطاقة الاستثنائية يمكن أن تكون من اللحظات الخارقة التي يشعر المرء، معها وفيها، أنه لم يعد بينه وبين محيطه حاجز. بأنه جزء مما يرى ويسمع ويشم ويحس. خطر لي أيضاً، أنه من الممكن أن تكون هذه اللحظة من اللحظات النادرة التي تمنح لنا نحن البشر، أحياناً، من دون أن نفرقها عن اللحظات العادية القابلة للتكرار. لحظات مثل هذه تأتي من دون تخطيط. من دون موعد. المحظوظ، كفاية، هو الذي يكون جاهزاً، جسداً وروحاً، لامتصاصها حتى الثمالة.

 أزعم أنني عرفت هذه اللحظة وأنا أنحني على شبك الشرفة الحديدي. هُيّئ لي أنها دامت دهراً. وهلة شعرت أن الفارق بيني وبين محيطي قد امّحى. أصبحت جزءاً منه، جزءاً من الطبيعة وأشيائها.

أهذا قريب من لحظات التجلي الصوفية؟ لم يكن الأمر كشفاً. لم أر أكثر مما هو موجود. لم تنفتح لي "طاقة القدر"، لم يُستجب لأدعية وأمنيات مستحيلة. بل رأيت ما هو موجود وأصبحت جزءاً منه. أظن أن الأمر يتعلق بالتوافق النادر بيننا وبين محيطنا، إن لم يكن بيننا وبين أنفسنا. كان مشهد البحر من إحدى شرفات الفندق جميلاً، ساحراً ولكنه لم يكن خارقاً. الخارق هو تلك اللحظة الشبيهة بالإلهام التي تهيأت لي وجعلتني أصبح بكياني كله جزءاً من قصيدة الطبيعة التي تستعصي على الوصف.

...................

انتهى الأمر إلى أنني أحببت غرفتي رغم أنها لم تكن تطل على البحر. لولا سريرها العريض المهيأ لجسدين  لظننت، من فرط تقشفها، أنها غرفة في دير، صومعة. لم يكن ذلك ليزعجني. كانت الغرفة تتوافر على خزانة خشبية صغيرة، طاولة إلى جانب السرير عليها مصباح كهربائي ومنضدة  للكتابة. وعندما كنت أفتح درفتي الأباجور الخشبيتين الكبيرتين، تصبح جزءاً من محيطها. المشهد الريفي المتقشف كان يسهم، هو أيضاً، في صنع السلام البسيط الذي شعرت به فيها. كان ذلك، على الأغلب، بسبب تشابهات مع مناظر مركوزة  في الذاكرة ردتني إلى الطفولة.

هل الطفولة ملجأ؟ أهي فردوس مفقود؟ يمضي المرء عمره كله في محاولة استعادته رغم أنها قد لا تكون سعيدة بالضرورة؟ اتساءل عن ذلك الكنه الغامض الذي يسمى الطفولة وأنا أرى العين تألف والنفس تهفو إلى كل ما يُذكِّرُ بها أو يحيل إلى ما يشبهها رغم بساطته، عاديته، بل ربما قسوته أحياناً.

لم يكن الجرف صخرياً تماماً. كانت هناك نباتات تتشبث، على نحو عجيب، بالبقاء. نباتات وأشجار برية من بينها تينة صغيرة لم يزرعها أحد. رمت الريح، أو أيدي الناس، بذرتها من دون قصدٍ هنا وشبّت بقوة النماء العجيبة. لم تكن هناك كثافة للأشجار كما هو الحال في بريطانيا. أنا ابن التقشف والقلة والفراغات يروقني ذلك.

 ألذلك ترتاح عيني إلى الأشياء القليلة،  الفراغات،  اللون الترابي، خشخشة الجفاف؟ ربما.

كان يمكن للصاعدين، أو النازلين، من البيوت التي في قمة الجبل أن يروني في الصباح ممدداً على سريري أتطلع الى المشهد الذي يمنحه لي شباك غرفتي العريض من دون أن أغادر السرير.

يبدو أنني لم أنتبه، للوهلة الأولى،  إلى اسم الفندق جيداً ولا إلى شعاره إلاّ عندما أردت أن أكتب على أوراقه الموجودة داخل محفظة كرتونية تحمل صوراً للفندق والموقع الذي يطل منه على البحر فرأيت شعاره: البوصلة.

لم يكن اسم الفندق هو الوحيد الذي يحمل هذا الاسم أو يحيل إليه في "أمالفي" بل ثمة تمثال برونزي ينتصب في ساحة المقهى التي اعتدنا أن نلتقي  فيها بعد كل جولة لنا في المدينة الصغيرة وتقع في "بيازا فلافيو جيويا"، مكرس، هو أيضاً، لذكرى "مخترع" البوصلة. التمثال البرونزي الذي يصور رجلاً يرتدي ملابس العصور الوسطى ويحمل في يده آلته العجيبة ومكتوب على قاعدته التالي: فيافو جيويا، مخترع البوصلة!

ولكن اسم هذا المخترع المنقوش ، بكل ثقة، على الحجر ليس مؤكداً في سجلات التاريخ، بل ثمة من يقول إنه لم يوجد، فعلياً، إلاَ في الاسطورة الأمالفية التي نسجتها الذاكرة الشعبية.

ولكن، مع ذلك، تأبى المفارقة إلاّ أن تلتصق بهذا "المخترع": أولاً، تحيط بتمثال "جيويا" أشجار نخيل يصعب على المرء أن يطرد من ذاكرته ظلالها العربية، وثانيا: نزعم نحن العرب أننا أول من اخترع "البوصلة"،  (مع أن مراجع تاريخية عديدة ترجع أصلها إلى الصين وليس إلى العرب أو الاوروبيين) ثم ان الاسم العربي لهذه الآلة، التي أحدثت ثورة في المواصلات البحرية، هو نفسه الذي يستخدمه الإيطاليون: البوصلة.

X

 

لم يكن الشخص العجوز الهادئ القسمات ذو القامة المعتدلة الذي رأيته بجانب محمد بنيس عندما أوصلنا "بيترو" الى المطعم سوى الشاعر الأمريكي لورنس فيرلنغيتي "عراب" وناشر الجيل الشعري المشاكس المعروف باسم "البيت". أعترف أنني لم أكن أتوقع أن أرى شعراء مهمين في مهرجان "أمالفي". كنت أظن أن الأمر يتعلق بمهرجان جهوي صغير مثل كثير من الأنشطة الشعرية التي تقام في مدن أوروبية بعيدة عن المراكز الثقافية وتستضيف كتاباً وشعراء مغمورين.

وقد ظننت أن الشعراء الامريكيين الذين طغى صخبهم على اسمائهم التي قدموها لي هم شعراء ثانويون لا يعرفهم أحد في المشهد الشعري الامريكي وأن ثمة من خدع منظمي المهرجان بهم! فلم يكن بينهم أحد من الأسماء القليلة التي أعرفها من الشعر الامريكي لذلك لم أعرف من هم هؤلاء الامريكيون الصاخبون إلاّ عندما عدت ليلاً الى الفندق وتصفحت "البروشور" الخاص بالمهرجان وكان اسما واحداً، على الأقل، معروفاً لي: هو لورنس فيرلنغيتي.

ليس فيرلنغيتي من شعراء وكتاب "جيل البيت" Beat Genration المعروفين في العالم العربي. هناك أسماء أكثر شهرة اختصرت هذا الجيل أمثال: ألن غينسبرغ، وليم بوروز، غريغوري كورسو (الذي كان متوقعاً حضوره ولكن معاناته مرحلة متقدمة من السرطان حالت دون ذلك، وما لبث أن توفي بعد وقت قصير)، جاك كيرواك، وإن كان ألن غينسبرغ هو الاسم الذي يقفز الى الذهن مباشرة عندما يذكر هذا الجيل.

أدين بمعرفتي لاسم فيرلنغتي إلى مجلة "فراديس" التي كان يصدرها الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي  في باريس، فقد نشرت، في أحد أعدادها، محوراً حول قصيدة النثر العربية من خلال استفتاء شارك فيه عدد من الشعراء العرب وكنت أحدهم.

استهلت "فراديس" عددها هذا بترجمة بيان ـ قصيدة للورنس فيرلنغيتي حول نثرية الشعر الحديث، يقول فيه:

 إن معظم الشعر الحديث نثر،

مثل هذه القصيدة،

وأنا أتصفح أنطولوجيا ضخمة من الشعر المعاصر

و"الصوت العظيم في داخلنا"

غالبا ما يصدي فينا بصوت النثر

بطوبوغرافيا الشعر.

هذا لا يعني أنه نثروي

هذا لا يعني أنه يفتقد العمق

هذا لا يعني أنه ميت أو يحتضر

أو انه ليس فاتناً أو جميلاً

أو أنه ليس مكتوباً جيداً

أو انه ليس فطناً،

إنه مليء بالحياة

مكتوب جيداً، مكتوبٌ بشكل جميل

نثرٌ فاتنٌ حيٌّ يقف بدون عكازات الترقين

نثر يكون تركيبه من الوضوح بحيث يمكن كتابته على الصفحة كلها وفي أشكال مفتوحة (...)

كانت هذه أول مرة أقرأ فيها شيئاً لفيرلنغيتي إلى أن جاء مهرجان "أمالفي" هذا.

قد يكون الهدوء الذي يطبع قسمات وحركات هذا الشاعر الامريكي ذي الأصل الايطالي عائداً إلى كبر سنه، فهو من مواليد 1919 وقد يكون (وهذا ما وقر عندي لحظتها) نوعاً من السكينة الداخلية.

أيد التغير الكبير الذي طرأ على شخصية فيرلنغيتي شاعر ومصور ورحالة أمريكي بوهيمي الهيئة لكنه لطيف المعشر من المشاركين في المهرجان يدعى أيرا كوهين. قال لي إن فيرلينغيتي  أفضل، اليوم، بكثير مما كان عليه من قبل. لقد كان Pain in the ass .

ففي اليوم التالي لوصولي وكنا نستعد للأمسية الشعرية الثانية سألت أيرا كوهين، الذي وجدت أواصر صلة تجمعنا به منها أنه من "أبناء عمومتنا" اليهود وأقام فترة في طنجة عرف فيها محمد شكري وبول بولز، سألته أن يقدمني إلى لورنس فيرلنغيتي. فقال إن الأمر لا يحتاج الى تقديم. إذهب وتحدث إليه.

كانت لفيرلنغيتي قراءة شعرية ذلك المساء. كان يجلس في ركن قصي من قاعة الكنيسة التي احتضنت القراءات الشعرية وبيده كتاب وأوراق يقلبها. بدا لي أنه  يهيئ نفسه للقراءة. ذهبت إليه مقتحماً عليه منتبذه هذا وقدمت له نفسي. فرحب بي. قلت له إنني قرأت له نصاً عن "قـصيدة النثر" ترجمته مجلة عربية تصدر في باريس. فقال: آه... لعلك تقصد نصي "الشعر الحديث نثر.. لكنه يقول الكثير". فقلت له بالضبط، ولكن أصدقاءنا الذين أعدوا ذلك العدد من المجلة أدخلوه في اطار المنافحة عن "قـصيدة النثر"، أو نثرية القصيدة عموماً .. بل لعل نصك كان بيان هذه المجلة، من غير أن تقصد، فهو الذي يتصدر محورها الخاص بقصيدة النثر. لاحظت أنه اهتم بالأمر فقلت له إذا رغبت بالحصول على نسخة من هذه المجلة أستطيع أن أرسلها إليك. فقال إنه يود أن يراها. سألني ماذا أفعل غير كتابة الشعر فقلتّ له إنني أعمل محرراً ثقافياً لصحيفة عربية تصدر في لندن، فطلب عنواني ليرسل إلي نسخة من إصدارات داره "سيتي لايتس" التي انطلق من منشوراتها شعراء وكتاب "جيل البيت" وسماها على اسم فيلم شارلي شابلن الشهير: أضواء المدينة.

كانت بيد فيرلنغيتي قصيدة مكتوبة على الكمبيوتر لا يفتأ يقلّبها وكتاب شعري لم أتبين عنوانه. رغم الهدوء، إن لم أقل البرود، الذي يطبع وجهه إلاّ أن حركة يديه وهو يقلب الأوراق، ويمررها مع الكتاب من يد إلى أخرى،  وشت بشيء من التوتر الداخلي. أنا الذي لم يفلح، قط، في التغلب على التوتر الذي يسبق قراءة الشعر ويمهد لها عزوت هذه الحركة إلى "استحقاق" القراءة الشعرية، لا إلى كبر سنه وارتعاش يديه. قلت له وأنا أشير الى الأوراق التي بيده: يبدو أنك ستقرأ قصيدة جديدة. فقال: أجل. إنها محاولة في وصف الشعر وتعريفه. قلت له: أودّ، إن لم يكن لديك مانع، أن أحصل على نسخة منها. فقال لي: سأعطيها لك بعد انتهاء الأمسية.

لكنني لم أحصل على نسخة بعد القراءة. اكتشف فيرلنغيتي أنه لا يملك نسخة غيرها وكان عليه أن يغادر في الصباح التالي إلى روما  لقراءة شعرية هناك ولم يكن ممكناً استنساخها في "أمالفي" الصغيرة التي لم  نجد فيها محلاً مشرعاً، بعد انتهاء الأمسية الشعرية في نحو الحادية عشرة ليلاً، سوى مطاعمها وحاناتها.

لكنني أحببت القصيدة التي كانت بمثابة تعريفات مختصرة للشعر، ومقاربته بما هو، أحيانا، من غير مادته.

قد لا يكون فيرلنغيتي أفضل شعراء "جيل البيت". الشعراء الأمريكيون الآخرون المشاركون معنا في المهرجان يقولون ذلك، ولكنهم يقرون أنه الشاعر الذي رعى هذا الجيل وأطلق أعماله من خلال منشوراته وأسهم في التحول الذي عرفه الشعر الامريكي في تلك الفترة حيث اقتربت القصيدة من "نبض الشارع" وكادت أن تتماهى معه واقترنت بفنون شعبية كانت مقصاة، هي أيضاً، من "المشهد الرسمي" مثل موسيقى الجاز فصار الشاعر يكتب ويغني ويمثّل شعره. وإذا كانت أعمال فيرلنغيتي الأولى، كما لاحظت ذلك فيما بعد، هي تعليقات على أحداث العالم، واحتجاج على غطرسة القوة واحتقارها لحياة البشر وتتخذ أكثر الصيغ الشعرية بساطة ومباشرة فإن في أعماله الأخيرة نزعة  نحو استبطان الواقعة أو الحدث اليومي وربطهما بطريقة غير مباشرة بسؤال الوجود. هذا، على الأقل، ما بدا في قصيدته عن ألن غينسبرغ التي قرأها في الأمسية بصوت هادىء ولكنه سرى كتيار كهربي بين الحضور.

لا تطيق قصيدة فيرلنغتي العاطفة الصريحة ولا الانفعال الحاد، شأنها في ذلك شأن قصائد شعراء "البيت" الذين مالوا الى السخرية والهجاء وإلى ما هو ملموس (كونكريت) أكثر من ميلهم إلى ما هو تجريدي أو ميتافيزيقي.

لكن الشعر الحقيقي، حتى وهو يخوض في خضم "الملموس" واليومي، يظل ثمة ما يشده الى تجريد ما. يظل يتفلت نحو تجريد ما، ليس بالضرورة نحو المطلق ولكن إلى ما يجعل هذه "اللحظة الملموسة" ترتقي درجة فوق حمولتها الواقعية الكثيفة.

فهل هذا هو تأويلي الخاص لقصيدة فيرلنغيتي عن غينسبرغ؟

قد يكون الأمر كذلك فعلا!

هنا، على كل حال، ترجمة أولية قمت بها حال عودتي إلى لندن:  

 

ألن غينسبرغ يموت!

 

ألن غينسبرغ يموت!

إنها في كل الصحف

في اخبار المساء

الشاعر العظيم يموت

لكن صوته لن يموت.

صوته في الأرض،

في منهاتن السفلى،

في سريره،

إنه يموت

ولا شيء يمكن فعله

حيال ذلك،

إنه يموت الموت الذي يموته الجميع

إنه يموت موت الشاعر

بيده هاتف

يكلم الجميع من سريره في منهاتن

السفلى الى أنحاء العالم

في وقت متأخر من الليل،

الهاتف يرنُّ

أنا "ألن"،

الصوت يقول

"ألن غينسبرغ يتكلم"

كم من المرات سمعوها

عبر السنوات العظيمة

لم يكن محتاجاً ليقول "غينسبرغ"

في كل أنحاء العالم

في عالم الشعراء،

شابٌ بلحية سوداء

يقف على الشاطىء الصخري،

وطيور البحر تصرخ

الأمواج تتكسر عليه الآن

وطيور البحر تصرخ في الواجهة البحرية لسان فرانسيسكو

هناك رياح قوية

قبعاتٌ بيض هائلةٌ تسوطُ إلامبركاديرو

ألن على الهاتف

صوته في الأمواج:

أقرأ شعراً يونانياً،

هناك "ألن" واحدٌ فقط،

أريد أن أخبرك.. يقول،

يخبرهم ما الذي يجري

ما الذي يثقله

الموت ذلك العاشق القاتم ينيخ عليه

صوته ينتشر بالستالايت

فوق الأرض

فوق بحر اليابان

حيث وقف مرة عارياً بيده رمحٌ

مثل "نبتون" شاب،

فيه بحر

وخيول تبكي

خيول أخيل

تبكي فيه

هناك بجانب البحر

في سان فرانسيسكو

حيث الأمواج تبكي

تصنع صوتاً صافراً

صوتاً متنبئاً

"ألن"

تهمس

"ألن".

XI

لم يكن وجود الشعراء الأمريكيين في مهرجان أمالفي مصادفة. لم يجتمعوا هكذا من دون اتفاق. فقد كانوا يشاركون في "جولة شعرية" لمنشورات "سيتي لايتس" التي يشرف عليها فيرلنغيتي في سان فرنسيسكو حيث يقيم. فقبل "أمالفي" قرأوا شعراً في هولندا، وغير مدينة ايطالية. لكن جولتهم الايطالية ليست بعيدة، تماماً، عن جذورهم. فاثنان، على الأقل، من المشاركين في الجولة يتحدران من أصول إيطالية: فيرلنغيتي نفسه الذي قال لي إن والده هاجر إلى نيويورك من "لورمبارديا" وجون جورنو الذي يعد من "جيل البيت" المتأخر وسبق أن مثل فيلماً مع آندي ورهول. لم يقرأ هذان الشاعران نصوصهما بالإنكليزية فحسب بل والإيطالية أيضاً. لجون جورنو ضحكة تشبه ضحكة ممثلي السينمائي المفضل روبرت دي نيرو. قلت لجورنو ذلك. فضحك مرة أخرى، حتى كادت غمازتاه تتماهيان بغمازتي دي نيرو تماماً. لكن ليست ضحكة جورنو التي تشبه ضحكة دي نيرو (فهما، على كل حال من "ليتل إيتالي" في نيويورك) هي التي أثارت انتباهي اليه ولكن قراءته الشعرية المتفجرة التي بدا بها شخصاً آخر غير ذلك الذي كان يأكل معنا على الطاولة نفسها ويمشي في الشوارع ذاتها ونتبادل الضحكات التي لم تعد عفوية تماماً منذ أن أبلغته أن له ضحكة تشبه ضحكة دي نيرو. فما إن صعد جورنو إلى المنصة وأخذ يقرأ مرةً من الذاكرة ومرة من أوراق بين يديه حتى تحوّل إلى شخص آخر: صوته، حركات يديه، وقفته. أهدى هو، أيضاً، قصيدة لغينسبرغ كما فعل معظم الشعراء الأمريكيين، لكنه تميز عن الجميع بلغة مباشرة، حادة. إحدى قصائده كانت هجاء ساخراً وحاداً لما سماه "الأخلاق البرجوازية المزيفة". قد يكون ذلك بسبب "مثليته". كان صديقه معه. كل شعراء الغرب "المثليين" لديهم، تقريباً، هذا الموقف من "النفاق البرجوازي".

من بين حسناته الكثيرة، كان لمهرجان "أمالفي" حسنة أساسية.  فقد أكد لي أن قراءة الشعر وتقديمه للجمهور هما عمل بحد ذاته. رأيتُ من "يمثل" شعره، أو يقدم "استعراضاً شعرياً" من قبل، في مهرجان "تروار ـ ريفير"في "كيبك" الذي حضرته قبل عام. لكن ذلك كان تمريناً أو عمل هواة. هنا، في "أمالفي" كنت أمام أساتذة في هذا المجال. فواحد مثل جون جورنو، الذي يقرأ كأنه يمثل، كأنه شخص آخر، كأن روحاً أخرى حلت فيه، مشهور في أمريكا بكونه أحد رواد هذا الاتجاه.

غادر فيرلنغيتي في اليوم التالي لقراءته الشعرية إلى روما، ولم يعد إلى "أمالفي" ولكنه أخبرني على العشاء عندما تحدثنا، عرضاً، عن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط أنه رسم أثناء حرب الخليج لوحة تصور جنرالاً أمريكياً يسأل في الهاتف جنوده في "أرض المعركة": هل بغداد تحترق؟! سألني فيرلنغيتي إن كان سؤال الجنرال الأمريكي يذكرني بشيء آخر؟ فقلت له: ليس على وجه التعيين. فقال إنه السؤال نفسه الذي سأله هتلر، بلهفة، لجنرالاته، عندما كانت طائراته تقصف العاصمة الفرنسية: هل باريس تحترق؟!

عندما عدت الى لندن دخلت موقع فيرلنغيتي على الإنترنت. وجدت مقالات ومعلومات كثيرة عنه. لكن الذي لفت نظري هو التالي: فعندما سألني إن كانت لي أعمال مترجمة إلى الانكليزية أجبته: هناك مختارات لي مترجمة إلى الفرنسية. سألته، لحظتها، إن كان يعرف الفرنسية، فقال لي بما يوحي أن معرفته بها ليست قوية: أعرفها، فأمي فرنسية الأصل. ولكن المعلومات الموجودة في "موقعه" تشير الى أنه نال شهادة الدكتوراه في الشعر من "السوربون"!

XII

كانت كاتدرائية "أمالفي"، هي آخر موقع نراه قبل أن ننطلق الى الرصيف البحري الذي تغادر منه عبارات  تربط بلدات ومدن هذا الساحل الايطالي بعضها بعضاً. فقد قررنا أن نعود الى "ساليرنو" عن طريق البحر لتتسنى لنا رؤية "وجه" أمالفي بعد أن كنا انزلقنا إليها  من خاصرتها عند قدومنا.

تناولنا قهوتنا في أحد مقاهي ساحة "دومو" وكانت الكاتدرائية بدرجاتها العريضة الاثنتين والستين أمامنا مهيبة، راسخة. جاءت رافاييلا وسرجيو والفريق العامل معهما ليودعونا، ثم لحق بهما ابنهما الذي كنا رأيناه أكثر من مرة أثناء المهرجان. قالت لي رافاييلا مشيرة الى ابنها: انظر إليه ألا يبدو لك عربياً؟ كان الشاب الذي يبدو في العشرين من العمر أسمر البشرة ذا قامة نحيلة متوسطة الطول، له عثنون أسود محفوف الشارب وعينان سوداوان عميقتان.  لو أنني رأيته في الأردن لظننته من قبيلة "الحويطات" أو "بني حميدة". لم يكن الشاب يشبه والدته ذات البشرة الفاتحة بل لعله أقرب الى والده ذي البشرة المائلة الى السمرة.

لم أكن أعلم وأنا أودع رافاييلا وسرجيو، والمجموعة التي تعمل معهما، أن الرحلة التي تستغرق، عادة، نحو ثلاث ساعات الى لندن (ساعة من نابولي إلى ميلانو وساعتين من ميلانو إلى لندن) ستبلغ 24 ساعة، وانه كان يمكن لي أن أنام في مطار ميلانو، بعد أن تحللت شركة "اليطاليا" من أية مسؤولية تجاهنا لأن الاضراب قام به الملاحظون الجويون وليس موظفي اليطاليا!!  لولا وجود منزل فوزي الدليمي، رفيق الرحلة، في ميلانو لنمت في المطار. وفي "نابولي" التي اتيح لي أن أراها أكثر في طريق العودة كانت تحذيرات رفيقنا "بيترو" صارمة: احذروا النشالين!

 ركبنا ـ العبارة ـ المنطلقة من "أمالفي" الى "ساليرنو" ورافقنا في هذه الرحلة التي استغرقت نحو نصف ساعة "بيترو" الذي كان عليه أن يقلنا بالميني باص من "ساليرنو" الى مطار "نابولي".

 كانت أديرة على قمم السلسلة الجبلية التي أقيمت في ثناياها مدينة "أمالفي" تلوح لنا ونحن نبتعد عن ميناء المدينة ولم يكن ممكناً رؤية هذه الأديرة ولا قمم الجبل من داخل المدينة.

صارت "أمالفي"، ونحن نبتعد عنها في بحر رائق الصفحة مثل "كارت بوستال".

 

 

مقالات اخرى للكاتب

سير
6 يناير 2019
استعادات
30 ديسمبر 2018
شعر
23 ديسمبر 2018

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.