}

أوجه الشبه بين الكولونيالية الصهيونية والكولونيالية الأوروبية (3-3)

15 أغسطس 2018
استعادات أوجه الشبه بين الكولونيالية الصهيونية والكولونيالية الأوروبية (3-3)
موجات الهجرة اليهودية الى فلسطين بحماية البريطانيين

تقديم 

تسبّب سنّ الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي، يوم 19 تموز/ يوليو 2018، لما يسمى "قانون القومية" باستئناف الجدل داخل مجتمع دولة الاحتلال بشأن الصهيونية وعقيدتها. ويُعرّف هذا القانون الأساس (دستوري) إسرائيل بأنها "الدولة القومية للشعب اليهودي"، ويمنح أفضلية للغة العبرية على اللغة العربية، وللاستيطان اليهودي، كما يمنح حصرية تقرير المصير في فلسطين لليهود فقط، ويعتبر القدس الموحّدة عاصمة أبدية لدولة الاحتلال.

وبرزت في خضم هذا الجدل أصوات كثيرة أبدت معارضتها للقانون من منطلق أنه يتضاد مع "أسس العقيدة الصهيونية"، بل وادعى بعضها أن القانون يحوّلها إلى عقيدة عنصرية، بما يوحي بوجود قناعة راسخة أنها ليست كذلك.

وربّما تستدعي هذه الطعون إعادة الالتفات إلى جوهر الحركة الصهيونية وعقيدتها. وهي مسألة تراكمت بشأنها دراسات كثيرة يجمعها قاسم مشترك هو تأكيد كون تلك العقيدة عنصرية بامتياز، بما في ذلك دراسات أنجزها باحثون يهود وإسرائيليون. ولا بُدّ من القول إن هذا التراكم جاء أيضًا على خلفية دراسات سابقة بهذا الصدد كان لها قصب السبق، على مستوى الدراسات التي وضعها باحثون يهود وإسرائيليون، لعل أبرزها ما وضعه غرشون شافير، وهو عالم اجتماع يهودي إسرائيلي وأستاذ في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو. ومنها مقالة ظهرت في كتاب "المجتمع الإسرائيلي: وجهات نظر انتقادية" (صدر بالعبرية عن منشورات "بريروت"، 1993)، من إعداد وتحرير أوري رام. وهي معتمدة، بالأساس، على كتاب للمؤلف صدر بالإنكليزية بعنوانLand, Labour and Origins on the Israel-Palestinian Conflict 1882-1914,

وظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1989 عن منشورات جامعة كمبريدج. ثم صدر في طبعة ثانية باللغة نفسها عام 1996.

وكما هو شأن كتاب شافير هذا، ثمة كتب عديدة لمؤرخين وعلماء اجتماع وباحثين إسرائيليين ما تزال، حتى الآن، تمارس حقها في البحث والسجالية بلغات أجنبية فقط. ودافعي للتنويه بهذا الأمر، الذي قد يتراءى للبعض عديم الأهمية، أنه يمثل على أحد جوانب المجابهة المباشرة، من طرف المؤسسة الإسرائيلية، مع الاجتهادات العلمية غير المفطورة على الإجماع الصهيوني بشأن الرواية التاريخية لقضية فلسطين. وهو جانب عدم الالتفات إلى وجود هذه الاجتهادات، جريًا على طريقة "القتل بالإهمال".

تتمثّل أهم خلاصة يتوصل إليها شافير في هذه المقالة، وفي كتابه عمومًا، في أن الحركة الصهيونية، ومنذ البدايات الأولى لمشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين، احتقنت بطابع استعماري- كولونيالي إزاء الفلسطينيين سكان البلد الأصليين. ومن الإثباتات المبكرة على هذا الاحتقان يستشهد المؤلف، من ضمن أشياء أخرى، بوقائع المواجهة التي حدثت بين آباء الهجرة اليهودية الأولى وبين آباء الهجرة اليهودية الثانية- وهما الهجرتان اللتان ترتب عليهما مشروع الحركة الصهيونية لاغتصاب فلسطين- حيال ما ينبغي أن تكون عليه المقاربات الصهيونية إزاء شعب فلسطين. وهو يتوصل إلى نتيجة مؤداها أن تلك الوقائع لم تكن، في جوهر الأمر، أكثر من مجرد اختلاف بين بدائل مختلفة للاستعمار الكولونيالي في سبيل اعتماد "البديل الأفضل" لإنجاز استعمار فلسطين، كولونياليا، من قبل الحركة الصهيونية وتيارها الرئيس المتمثل في "حركة العمل". واكتسبت هذه الخلاصة أهميتها في حينه، كما تكتسب أهميتها الآن، من مناخ سياسي عام يجتهد لإرجاع جذور قضية فلسطين إلى حرب حزيران/ يونيو 1967 فحسب، في محاولة للهروب إلى الأمام مما سبق ذلك العام من أحداث تعود في أصولها إلى سنوات تأسيس الحركة الصهيونية وإلى الطابع الكولونيالي لهذه الحركة.

تجدر الإشارة أيضًا إلى أن كتاب شافير صدر بموازاة صدور كتب أخرى لمؤرخين إسرائيليين أمثال بيني موريس وآفي شلايم وإيلان بابيه. وقد اعتبرت تلك الكتب الأربعة في عداد أول قطاف لموجة ما اصطلح على تسميته بـ "التأريخ الإسرائيلي الجديد".

ورأى البعض أن يرجع هذا "التأريخ الجديد" إلى عاملين رئيسيين:

(*) الأول، نشوء رعيل جديد من المؤرخين الإسرائيليين لديه قدر ما من الجهوزية للتسليم بجزء من الانتقادات الأخلاقية والسياسية، التي وجهت إلى إسرائيل في أعقاب 1967 (في إثر احتلالها وممارسات عسكرها في الأراضي الفلسطينية)، ما أدى بهذا الرعيل إلى إعادة فحص الفترة التي سبقت 1967.

(*) الثاني، إماطة اللثام عن وثائق من فترة 1948 كانت حتى ذلك التاريخ- أي النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين- في طيّ السرية التامة.

لكن ما ينبغي قوله هو أن شافير يفترق عن هؤلاء بعودته إلى فحص جذور الصراع الصهيوني- الفلسطيني، وهي عودة كانت حتى تأليفه لكتابه هذا لا تزال مقتصرة عليه وعلى قلائل من الباحثين أمثاله، وفي مقدمهم الباحث النفساني بنيامين بيت هلحمي، الذي سبق شافير في هذا المضمار.

يُضاف إلى ذلك أن المراجع الأرشيفية، التي يستعين بها شافير في هذه المقالة، شأنها شأن المراجع الأرشيفية في كتابه، لم تكن من بين تلك التي أميط عنها اللثام في الفترة المذكورة. وإنما كانت، قبلًا، مفتوحة أمام مرمى أبصار المؤرخين والباحثين. وعلى الرغم من كونها كذلك، فإن شافير يعترف بأنها تطلبت منه "قراءة جديدة للمواد القديمة"، في سيرورة يراد لها أن تعيد إلى هذه المراجع ما سبق أن غاب- أو جرى تغييبه عمدًا- عن أعين القراء السابقين.

وكل ذلك كان قبل أن ينكفئ الكثير من رموز هذا التيار على أنفسهم تحت تأثير عوامل عدة أبرزها، إن لم يكن العامل الأبرز، الانتفاضة الفلسطينية في أيلول/ سبتمبر 2000. غير أن هذا الموضوع مكانه ليس هنا.

هنا ترجمة القسم الثالث والأخير من مقالة شافير:

 

(أنطوان شلحـت)

 

السمات الخصوصية للاستيطان

الصهيوني حتى عام 1948

سأشدد على ثلاثة جوانب في سياق تطور وصبغة نموذج الاستيطان الصهيوني الطليعي، الذي تبلور من قبل حركة العمل عشية الحرب العالمية الأولى وجرى تطبيقه حتى عام 1948.

أولًا: الهجرة الثانية تمردت على نموذج مستعمرة المزارع الإثنية، التي صممتها الهجرة الأولى (على نسق المستعمرة الفرنسية في الجزائر)، وذلك لأن هذا النموذج لم يتمكن من تأمين شغل كاف وأجر معقول للعمال اليهود. بدلًا من ذلك بلورت الهجرة الثانية نمطًا آخر للاستيطان الكولونيالي - مستعمرة استيطان طاهرة (على نسق المستعمرات الأوروبية في شمال أميركا وأستراليا)، كان المشغلون والشغيلة فيها من أبناء المجموعة الإثنية المستوطنة والمسيطرة على الأرض. ولأن هذا النمط الاستيطاني خدم المصلحة الديموغرافية الصهيونية، المتمثلة في جذب هجرة جماعية، فقد حظي بتأييد الهستدروت الصهيونية العالمية  (shafir,1991).

ثانيًا: دلالة إنشاء مستعمرة استيطان طاهرة كان معناها تجزئة أو تقطيع أوصال الاقتصاد في "أرض إسرائيل". وأوجدت هذه الإستراتيجيا اقتصادًا منفردًا، إلى جانب اقتصاد المزارع من الهجرة الأولى، والاقتصاد الفلسطيني. وكانت هذه هي الدفيئة التي نبتت داخلها الدولة اليهودية العتيدة. إن المفهوم الوظيفي يعرض الاقتصاد لدى المجتمع الفلسطيني ولدى المجتمع اليهودي في "أرض إسرائيل" كما لو أن كلًا منهما منفرد عن الآخر، يتطور من منطلق ديناميكيته الداخلية. خلافًا لذلك فإن مقاربة السوق المجزأة، المطبقة في تحليلنا هنا، لا تقول بغياب الرابطة والصلة بين الاقتصادين والمجتمعين، وإنما عكس ذلك تمامًا، تصف كيف أن هذين الاقتصادين والمجتمعين نبتا وتناميا من خلال برنامج مشترك، وواصلا التبلور عبر الدمج المتناقض الذي نعمق البحث حوله. الاقتصاد الواحد هو صورة مرآة عن الثاني. والتطور اليهودي كان مشروطًا بإقصاء العرب، وإقصاء هؤلاء كرس الفجوة في الموارد التنظيمية والاقتصادية بين المجموعتين.

ثالثًا: صراع العمال اليهود ومنظماتهم ضد تشغيل عمال عرب لم يؤسس فقط نموذج الاستيطان الخصوصي الموصوف أعلاه، وإنما صمم أيضًا السياسة الجغرافية- الديموغرافية لحركة العمل. وقد سبق للباحثة المؤرخة أنيتا شبيرا أن توقفت عند نقطة تفيد أن إنشاء مناطق استيطان يهودية منفردة- وهو ما يمكن اعتباره تحصيل حاصل تجزئة سوقي الأرض والعمل التي وصفناها- أدى في نهاية الأمر إلى التنازل عن تلك المناطق من "أرض إسرائيل" التي لم تتشكل فيها أكثرية يهودية، وبذلك ساهم في تقسيم البلد (شبيرا، 1977: 26).

إن إعطاء أفضلية لـ "الديموغرافيا" (أي لأكثرية يهودية في جزء من البلد) على حساب الـ"جغرافيا" (أقلية يهودية مسيطرة على جميع أنحاء البلد) أصبح ماركة متميزة بارزة للتيار المركزي في حركة العمل. وقد تمثلت المصلحة الديموغرافية لحركة العمل في زيادة كثافة السكان اليهود. وبما أن الهجرة اليهودية لم توفر "الأعداد" المطلوبة، لم يكن من الممكن إحراز النتيجة المنشودة إلا بواسطة الاكتفاء بمنطقة سيطرة يهودية مقلصة نسبيًا. وعلى الرغم من أنه في البداية كان جميع الصهيونيين، بلا استثناء تقريبًا، من مريدي "أرض إسرائيل الكاملة" فإنه في سنوات الثلاثين من القرن العشرين (في عام 1937 ضمن سياق برنامج "لجنة بيل" لتقسيم البلد) وفي سنوات الأربعين (في عام 1947 في سياق الرد على برنامج التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة) بات قسم كبير من حركة العمل جاهزًا ومستعدًا لقبول تقسيم البلد بين دولة يهودية وبين دولة فلسطينية أو أردنية. وينبغي القول إن هذه الجهوزية لم تنجم، بحال من الأحوال، عن نزعة سلمية متأصلة في قيم حركة العمل- كما يميل إلى الاعتقاد الكثير من الباحثين الإسرائيليين - وإنما كانت ناجمة بالذات عن حربجية هذه الحركة. فإنها من منطلق الدفاع القتالي عن المصالح الاقتصادية للعمال اليهود، انتهجت إستراتيجيا تجزئة السوق وإقصاء العمال العرب منها. وغاية هذه الإستراتيجيا كانت إذًا الحدّ من الصعوبات الاقتصادية التي انتصبت أمام الاستيطان الصهيوني من جراء الواقع الديموغرافي، الذي شكل الفلسطينيون فيه أكثرية السكان.

وتطلب الجهاز المحصن، الذي أوجدته حركة العمل، خصوصية حصرية أو على الأقل أكثرية يهودية. ويجدر التشديد هنا على أن الخصوصية الحصرية متعددة الألوان، ونموذج الاستيطان لحركة العمل يمكن وصفه بأنه مستعمرة استيطان طاهرة محدودة، أي أنها تسعى إلى أكثرية يهودية، لكن في جزء من البلد. مقابل هذا فإن مستعمرة استيطان طاهرة مطلقة كانت ستسعى إلى أكثرية يهودية في كل البلد، ومثل هذا الأمر لم يكن بالإمكان تحقيقه إلا عبر طرد جماعي للسكان العرب.

إجمالًا أقول إن حركة العمل سعت إلى إنشاء مستعمرة استيطان طاهرة ذات طابع خصوصي، هي تلك التي توجد فيها أكثرية يهودية في جزء من البلد. وزعماء حركة العمل، على نسق زعماء صهيونيين آخرين، أرسوا الاستيطان اليهودي من خلال مرساة الحقوق التاريخية لليهود في "أرض إسرائيل"، لكنهم سوية مع ذلك شددوا على أن البلاد تُشترى بالعمل، ولذا فعلى المستوطنين أن يكونوا عمالها. وكانوا على استعداد لتقييد التوسع الأرضي لهذه المستعمرة، شريطة تأمين عمل يهودي في المنطقة الخاضعة للسيطرة الصهيونية. ويمكن القول إنه بهذه الطريقة واجهت حركة العمل خيبة الأمل الناجمة عن تضاؤل الهجرة اليهودية إلى أرض إسرائيل.

ومن المفارقات الساخرة، في هذا الصدد، أن السعي إلى الخصوصية الحصرية الديموغرافية - أي السعي إلى إنشاء مجتمع يهودي متجانس عبر إقصاء العمال الفلسطينيين من سوق العمل اليهودية- أدى إلى ما أسميناه التقييد الذاتي الجغرافي. وهكذا فُتحت، على ما أرى، ثغرة أمام إمكان تسوية إقليمية بين الصهيونية وبين الحركة القومية الفلسطينية، التي كانت قد نمت وترعرعت على خلفية مقاومة الهجرة والاستيطان الصهيوني في فلسطين.

  

المتغير والثابت في السياسة

الكولونيالية، 1948- 1967

إن البراغماتية الإقليمية (الجغرافية) السالفة لحركة العمل، التي نجمت عن تبصّر إزاء مسألة السكان والعمل، جنت ثمارها في فترة ما بعد 1948. ففي المجال الديموغرافي حظيت إسرائيل، في تلك الفترة، بموجة الهجرة اليهودية الأكبر في تاريخها، وقد حدثت في موازاة هروب وتشريد أكثرية السكان الفلسطينيين. وفي المجال الجغرافي تمّ تنفيذ التقسيم العملي لـ"أرض إسرائيل"، وللمرة الأولى، والوحيدة، تأمّن وجود أكثرية يهودية في مناطق البلاد التي خضعت للسيطرة اليهودية. وبدا أن خطة الاستيطان الطاهرة طبقت مرة واحدة وإلى الأبد. وتميزت الفترة بين "حرب الاستقلال" (نكبة 1948) وبين "حرب الأيام الستة" (1967) بسمة التجانس الإثني النسبي للسكان الإسرائيليين، ولذا فإنها لا تنفك تشكل حتى يومنا هذا غاية نوسطالجية (حنينية) لكثير من الإسرائيليين، الذين يبدو لهم ذلك الواقع أنسب بكثير من وضعية الخليط الإثني، التي نشأت بعد حرب 1967.

في هذه الفترة بدأت عملية الاستبدال الجزئية للمبنى المؤسساتي الحصري- اليهودي، من فترة جالية الييشوف والحركة الصهيونية، بمؤسسات دولانية تعتمد، نظريًا على الأقل، على مبدأ المساواة المدنية. غير أن استمرار بقاء مؤسسات أقيمت وتطورت في فترة الييشوف بهدف إقصاء العرب، حال دون التطبيق الفعلي للمساواة المدنية بين اليهود والعرب.

صحيح أن المنظمات العسكرية وشبكات التعليم ودوائر التشغيل، التي كانت تابعة لحركات سياسية يهودية، ألغيت وأخلت مكانها لأجهزة الدولة، لكن في موازاة ذلك ظلت جميع المؤسسات الكولونيالية للحركة الصهيونية وحركة العمل في أوج نشاطها. وهذه بقيت تؤدي أدوارها المقصورة على خدمة السكان اليهود عبر التجاهل التام للسكان العرب. وتندرج في عداد أهم هذه المؤسسات كل من: الوكالة اليهودية، والهستدروت الصهيونية، والكيرن كاييمت، وكذلك هستدروت (نقابة) العمال. وبالرغم من أن الجماهير العربية، داخل تخوم "الخط الأخضر"، حظيت بحق الاقتراع للبرلمان الإسرائيلي (الكنيست) إلا إنها عزلت عمليًا عن المجتمع اليهودي حتى عام 1966 بواسطة الحكم العسكري الذي فرض عليها. وبعد هذا التاريخ أيضًا ظلت مشاركتها في سوق العمل خاضعة لسيطرة دوائر التشغيل التي خدمت العمال اليهود أولًا وقبل أي شيء.

في الإجمال العام، أقول إنه في الفترة ما بين 1948 و1967 تشققت صدوع كثيرة في الإطار المؤسساتي الصهيوني الحصري. غير أن المبادئ العالمية للمواطنة في إطار الدولة ظلت في خانة الخاسر، سواء في أعقاب التركيز الكبير للموارد تحت سيطرة مؤسسات الدولة وحركة العمل، أو في أعقاب إخضاع المواطنين العرب لهيمنة مؤسسات الاستيطان الكولونيالية، التي واصلت نشاطها إلى جانب مؤسسات الدولة وأحيانًا بدلًا منها.

وبرغم التناقض العلني الصارخ بين المبادئ المدنية العالمية المعلنة للدولة، وبين التقسيم الفعلي للسكان إلى مجموعات مختلفة بحسب مبادئ انفرادية، بقي هذا الوضع على ما هو عليه. وهكذا فإنه بالرغم من النية المعلنة بشأن إقامة "دولة حديثة"، طبقًا للنموذج الديمقراطي الغربي، فإن الذي بقي عمليًا هو وضع الانفصال الإثني، الذي نشأ في الفترة السابقة لإقامة الدولة في سبيل إيجاد ظروف مريحة للاستيطان الصهيوني.

 

راديكالية ما بعد 1967: بين الصهيونية

الجديدة وما بعد الصهيونية

أوجدت حرب 1967 ظروفًا لتطرّف عملية الاستيطان الكولونيالية الصهيونية. فبعد هذا التاريخ أصبحت الطريق سالكة لاستبدال نموذج الاستيطان المُجزّأ، الموصوف أعلاه، بنموذج استيطان آخر يستند إلى سيطرة مجموعة المستوطنين على السكان المحليين، أو إلى طرد هؤلاء من جميع المناطق الخاضعة لسيطرة المستوطنين. بكلمات أخرى انقطعت الصلة أو الرابطة بين المركّب الديموغرافي وبين المركّب الجغرافي، والتي كانت قيدًا على عملية الاستيطان الكولونيالية الصهيونية. ويمكن القول إن الذي أتاح ذلك هو، بطبيعة الحال، السيطرة على تلك المناطق بصورة عسكرية والتفوق العسكري لإسرائيل، الأمر الذي كان المستوطنون اليهود مفتقرين إليه في فترة ما قبل الدولة. وهكذا فإن نموذج الاستيطان الطاهر المحدود أخذ يخلي مكانه لنموذج الاستيطان الطاهر المطلق، والذي كانت منظمة "غوش إيمونيم" [الاستيطانية المتطرفة] أول من بدأ بتطبيقه.

ومع هذا التطور بدأ يتشكل تشابه واضح بين الاستيطان الكولونيالي الإسرائيلي في الأراضي المحتلة منذ 1967، وبين حركات استيطان كولونيالية أوروبية سابقة في مناطق مختلفة من العالم. ويرجع مصدر التقاطب الأيديولوجي- السياسي، الذي حدث في المجتمع الإسرائيلي بدءًا من عام 1967 بشأن الموقف من الأراضي المحتلة، إلى خلاف بين مؤيدي نموذجين مصغرين مختلفين للسياسة الكولونيالية إزاء نموذج الاستيطان الطاهر: هناك من جهة مؤيدو النموذج الطاهر المحدود، المستعدون للتنازل عن مناطق في مقابل التجانس الإثني، وهناك من جهة أخرى مؤيدو النموذج الطاهر المطلق، الطامعون في الانتشار على كل تلك الأراضي، مفترضين أن بالإمكان السيطرة على السكان الفلسطينيين أو طردهم. بناء على ذلك، فإن الخلاف هو بين من يؤيدون الخصوصية- الحصرية اليهودية، وإن بأصناف مختلفة، لا بين مؤيدي هذه الخصوصية- الحصرية وبين معارضيها.

وعمليًا فإن كل الحكومات الإسرائيلية بعد عام1967 ، بدءًا من الحكومات التي كانت برئاسة حزب العمل، ألغت تقسيم "أرض إسرائيل" الذي نشأ بعد حرب 1948. و"برنامج ألون" (يغئال ألون)، الذي شكل هاديًا ومرشدًا لمبادرات الاستيطان من طرف حزب العمل بعد "حرب الأيام الستة" (1967)، أعدّ تحت تأثير تدوين الحسابات الديموغرافية- الجغرافية القديمة لحركة العمل. وكانت غاية هذا البرنامج هي ترسيخ وجود إسرائيلي ثابت في المناطق الإستراتيجية في الضفة الغربية، من خلال شمل حدّ أدنى من السكان الفلسطينيين في تخوم المناطق المعدّة لأن تبقى خاضعة لسيطرة إسرائيل، ولهذا فقد تمحور البرنامج حول تشجيع الاستيطان اليهودي في غور الأردن ذي الكثافة السكانية المنخفضة. مع ذلك، فإن إحدى الحكومات برئاسة حزب العمل صادقت على إقامة المستوطنات "غير الشرعية" في منطقة "غوش عتسيون" والخليل (ومن هذه المستوطنات ظهر زعماء منظمة "غوش إيمونيم"، في فترة لاحقة). وبهذه المصادقة انجرّت تلك الحكومة وراء سياسة توسع إقليمية بالتقسيط. وجرى توسيع المناطق المشمولة في "برنامج ألون"، بمقدار كبير، في عام 1973، عبر "برنامج غليلي" (يسرائيل غاليلي) الأشدّ غلواءً. وبشكل تدريجي حدثت نقلة كبيرة في المفاهيم والتصورات السابقة إزاء المناطق الحدودية والاستيطان، بدءًا بالاستيطان الأمني، مرورًا بالاستيطان ذي الدوافع الدينية- المسيانية، وانتهاء باستيطان الأطراف غير الأيديولوجي .(Shafir, 1948)

ويمكن الوقوف على التغيير البعيد الأثر في العلاقات بين الشعبين (الإسرائيلي والفلسطيني) من خلال المجالات الثلاثة المهمة في أي عملية استيطانية كولونيالية، وهي الأرض والعمل والديموغرافيا.

سوق الأرض:

إن الطريقة الرئيسية لتحصيل الأرض في الماضي- امتلاكها بالمال- استبدلت بالطريقتين اللتين قال عنهما أوسيشكين إنهما "ليستا من الرب": طريقة الاحتلال العسكري، وطريقة المصادرة الإدارية. ومع اتساع اللجوء إلى استعمال هاتين الطريقتين، في سبيل تكديس الأراضي لصالح الاستيطان اليهودي، بدأ يتقلص أكثر فأكثر الفارق بين نموذج الاستيطان الكولونيالي الإسرائيلي، وبين نموذج الاستيطان الكولونيالي التاريخي للدول الأوروبية العظمى.

وفي ظل حكومات حزب الليكود (الذي صعد إلى سدّة الحكم عام 1977) تغيرت أيضًا، بصورة جوهرية، الخلفية النظرية لتمدّد المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة منذ 1967. ففي فترة الييشوف، وكذلك بعد 1967، في إطار "برنامج ألون"، كان نشر المستوطنات اليهودية يتم بصورة "ملزوزة" ومتتابعة لتسهيل التتابع الإقليمي، ولإقصاء السكان الفلسطينيين من المناطق المعدّة لأن تشملها الدولة اليهودية ولرسم حدود التوسع المستقبلي. مقابل هذا فإن برنامج الاستيطان لحكومات الليكود، الذي صممه وصاغه مدير قسم الاستيطان في الوكالة اليهودية من قبل الليكود، متتياهو دروبلس، سعى إلى توزيع المستوطنات اليهودية بين المدن والقرى العربية كي يمنع تواصلًا إقليميًا فلسطينيًا من شأنه أن يشكل نواة لدولة فلسطينية عتيدة. بكلمات أخرى فإن نموذج الاستيطان والتمدّد الجديد سعى إلى إبطال أهمية الوجود الديموغرافي الفلسطيني أو، على الأقل، إلى التغاضي عن هذا الوجود بصفته عاملًا يحدّ من التمدّد الجغرافي اليهودي (Shafir, 1984:820) 

 

سوق العمل:

طرأت على علاقات اليهود والعرب في سوق العمل أيضًا تغيرات بعيدة المدى، مقايسةً مع ما كانت عليه في فترة الييشوف، فإن سيطرة الهستدروت على سوق العمل في دولة إسرائيل بعد 1948 وضعت حدًا لخطر التنافس من جانب الأيدي العاملة العربية الرخيصة. وبذلك أصبح بالإمكان تبديل وإقصاء الفلسطينيين من إطار السوق (بواسطة إنشاء قطاع يهودي منعزل) بموضعتهم داخل السوق ضمن "كاسيته" شغل دونية الحيثية والأجر  (Shalev, 1989:104-115)  وبعد 1967  اتسعت هذه "الكاسيته" بصورة كبيرة، إلى درجة تشغيل حوالي 100 ألف فلسطيني من الضفة الغربية وقطاع غزة في مرافق الاقتصاد الإسرائيلية. ونتيجة لإجراءات الركود الاقتصادي في أعقاب حرب "يوم الغفران" (حرب تشرين الأول/ أكتوبر) عام 1973، وارتفاع نسبة البطالة في مناطق الضائقة، تعالت من جديد الأصوات المطالبة بتجزئة السوق، عبر إقصاء العمال العرب من إطاره.

وفي هذه المرة طرحت هذه المطالبة مترافقة مع إيديولوجيا عنصرية عامة، من جانب حركة "كاخ" التي أسسها مئير كهانا (شافير وبيلد، 1986، 107-108، (Peled, 1980: 117-118.

 

المصلحة الديموغرافية:

إن عملية شمل الفلسطينيين، بأعداد آخذة في الازدياد، في سوق العمل الإسرائيلية، وإن كان ذلك في إطار "كاسيته" دونية فيها، أوجدت ضغوطًا جديدة، فإن أكثرية السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة في 1967 لم تهرب ولم تُطرد بعد الحرب. ونسبة الولادة في هذه الأراضي كانت أعلى بكثير من نسبة الولادة الإسرائيلية. ومثل البروتستانت في إيرلندا الشمالية أو الناطقين بالإنكليزية في كويبك (كندا)، خاف الإسرائيليون من "انتقام الأسرّة" الذي يهدّد بتغيير النسب الديموغرافية بين الطرفين. وهكذا فإن إهمال التقييد- الذاتي الإقليمي (الجغرافي)، في إثر صعود الليكود إلى الحكم في 1977، أدى إلى وضع إسرائيل وجهًا لوجه أمام دلالات هذه الوقائع الديموغرافية بالنسبة لها.

كانت قاعدة النزعة العالمية والاشتراكية في الحركة الصهيونية، على الدوام، ضيقة للغاية. والتغيرات في مجالات الأرض والعمل والديموغرافيا، الموصوفة أعلاه، أدت ليس فقط إلى إهمال اشتراكية حركة العمل، وإنما أيضًا إلى إهمال التقييد- الذاتي التقليدي لهذه الحركة في موضوع التوسع الإقليمي. ومقاربتها البراغماتية لمشكلة المناطق الجغرافية نجمت منذ البداية عن وعيها بإزاء النسب العددية بين الشعبين، ومنذ عام 1967 فإن الحكومات المختلفة في إسرائيل-في البداية حكومات العمل نفسها بشكل متردد، وبعد ذلك حكومات الليكود بشكل منفلت العقال-تحاول مواراة هذا الوعي، كي تبعد عقبةً من طريق سياسة توسع إقليمية لا تعرف الحدود. الانقلاب في الثقافة السياسية الإسرائيلية من العالمية إلى الانفرادية، أو من مبدأ المواطنة إلى مبدأ الانتماء الأصلي- الإثني (primordialism) – أنظر (Harkabi, 1988; Lustick, 1988; Kemmerling 1985; Cohen, 1989)  هو تعبير عن محاولة للتحرر من نموذج الاستيطان الذي جرى سبكه في فترة الييشوف. وازدياد تأثير الثقافة السياسية، التي يمثلها الحلف الوثيق بين الليكود وبين "الحزب الديني الوطني" (المفدال)، وكذلك الانحسار في مكانة الثقافة السياسية الديمقراطية الرسمية، وأحيانًا الانحسار حتى عن الحداثة نفسها في مكانة المجتمع الإسرائيلي، ينبغي فهمها باعتبارها انقلابًا ثقافيًا ناجمًا عن تغيير نموذج الاستيطان الكولونيالي.

ويتأرجح رافعو لواء الثقافة السياسة الجديدة- الصهيونية الجديدة- بين جناحين: جناح صغير ومتطرّف تتوق نفسه إلى مستعمرة طاهرة وحصرية لا يكون فيها فلسطينيون. وإلى هذا الجناح ينتسب المتمسكون بمخططات الطرد ("ترانسفير") على اختلاف أنواعهم، وفي مقدمهم أحزاب وحركات مثل "كاخ" و"تسومت" و"موليدت". والثاني، جناح كبير أقرب إلى الوسط، تتوق نفسه إلى مستعمرة تعيد إلى الأذهان مستعمرة المزارع، التي تكون المجموعة المستوطنة فيها مسيطرة على مجموعة أكثر دونية منها. ويدخل في عداد هذا الجناح التيار المركزي في الليكود ومنظمة "غوش إيمونيم".

وكرد مضاد على تفشي الثقافة السياسية الجديدة، الصهيونية الجديدة، جرت عملية "ردكلة" في أوساط أجزاء من حركة العمل والحركات الأخرى التي على حوافها. ويبلور هؤلاء نزعة عالمية جديدة- ما بعد صهيونية. ويطالب مؤيدو هذه النزعة بمساواة حقوق المواطن في إسرائيل بين العرب واليهود.

غير أن الصهيونية الجديدة وما بعد الصهيونية تبدوان، في نظر الكثير من الإسرائيليين المتشبثين بالصهيونية "الكلاسيكية" لحركة العمل، كفرًا بالجوهر. ويؤثر هؤلاء التشبث بعالم ولّى ولم يعد قائمًا، والتغاضي عن التغيرات الحاصلة في المجتمع الإسرائيلي خلال العقود الأخيرة.
بالنسبة إليّ، يبدو أن المعركة المستقبلية على صبغة المجتمع الإسرائيلي ستدور رحاها على الطيف (Spectrum) الموسوم في حدّه الأول من جانب الصهيونية الجديدة، والموسوم في حدّه الثاني من جانب ما بعد الصهيونية.

مراجع الدراسة:

بالعبرية

أوسيشكين، مناحيم. 1934. "برنامجنا". داخل "كتاب أوسيشكين"، القدس، لجنة إصدار الكتاب.

غلعادي، دان، ومردخاي ناؤور. 1982. "روتشيلد: أبو الاستيطان". القدس: كيتر.

سيفان، عمانوئيل. 1989. "عشية العام الثالث للانتفاضة". هآرتس، 8 كانون الأول/ ديسمبر.

شافير، غرشون، ويوآف بيلد. 1986. "سمات اجتماعية- اقتصادية في مصادر التصويت للحاخام كهانا". دولة، حكم وعلاقات دولية (مجلة)، 25: 115-129.

شابيرا، أنيتا. 1977. "النضال الخائب: الخلاف حول العمل العبري، 1929-1939"، تل أبيب، هكيبوتس همئوحاد. 

بالإنكليزية

Bonacich, Edna. 1972. “A Theory of Ethnic Antagonism: The Split Labor Market”. American Sociological Review, 37:547-559.

Cohen, Erik. 1986. “The changing Legitimations of the State of Israel “.  Studies in Contemporary Jewry. 5.148-165.

Fieldhouse, D.K. 1966. The Colonial Empires from the Eighteenth Century. New York: Weidenfeld & Nicolson.

Fredrickson, George. 1988 “Colonialism and Racism: The United States and South Africa in Comparative Perspective”. In his The Arrogance of Race. Middletown: Wesleyan University Press.

Harkabi, Yehoshafat. 1988. Israel’s Fateful Decisions. London: I.B.Tauris. 

Kimmerling, Baruch. 1983. Zionism and Territory. Berkeley: The Institute of International Studies.

Kimmerling, Baruch. 1985. “Between the Primordial and the Civil Definition of the Collective Identity: Eretz Israel or the State of Israel?” In Erik Cohen et al. (Eds.), Comparative Social Dynamics. Boulder: Westview, pp. 262-283.

Lustick, Ian S. 1988. For the land and the lord: Jewish Fundamentalism in Israel. New York: Council on Foreign Relations.

Peled, Yoav. 1990. “Labor Market Segmentation and Ethnic Conflict: The Social Basis of Right – Wing Politics in Israel”. In Asher Arian & Michal Shamir (Eds.), The Elections in Israel – 1988. Boulder: Westview, pp. 93-113.

Reichman, Shalom & Shlomo Hasson. 1984. “A Cross-Cultural Diffusion of Colonization: From Posen to Palestine”. Annals of the Association of American Geographers, 74(1).

Schama, Shimon. 1978. Two Rothchilds and the land of Israel. London: Collins.

Shafir, Gershon. 1984. “Changing Nationalism and Israel’s Open Frontier on the West Bank”. Theory and Society, 13(6):803-827.

Shafir, Gershon. 1991. “Ideological Politics or the Politics of Demography: The Aftermath of the Six Day War”. In Ian S. Lustick & Barry Rubin (Eds.), Critical Essays on Israeli Society, Politics and Culture, N.Y., State University of New York Press, pp. 41-61.

Shalev, Michael. 1989. “Jewish Organized Labor and the Palestinians: A Study of State/ Society Relation in Israel”. In Baruch Kimmerling (Ed.), The Israeli State: Boundaries and Frontiers, N.Y.: State University of New York Press.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.