}

في الذكرى المئوية لتأسيسها: هل كانت يوغسلافيا مجرد "يوتوبيا"؟

استعادات في الذكرى المئوية لتأسيسها:
هل كانت يوغسلافيا مجرد "يوتوبيا"؟
غلاف الكتاب

في السنوات الأخيرة لدينا سلسلة من المئويات التي يتداخل فيها التاريخ والمصير والذكريات بين العرب وغيرهم من شعوب الجوار. ففي 1916 مرت مئوية سايكس-بيكو- سازانوف التي تقاسمت فيها روسيا وبريطانيا وفرنسا مناطق النفوذ في الدولة العثمانية الآيلة للسقوط، وفي 1917 جاءت مئوية وعد بلفور وها نحن الآن مع مئوية نهاية الحرب العالمية الأولى وما خلّفته من خريطة جديدة رسمتها القوى المنتصرة على حساب إمبراطوريتين واسعتين: العثمانية والنمساوية- المجرية. في هذا السياق كان لدينا طموحات وخيبات كما هو الأمر مع الدولة العربية والدولة اليوغسلافية.

لا يفصل بين الإعلان عن تأسيس الدولة العربية في دمشق (5/10/1918) والدولة اليوغسلافية (1/12/1918) سوى أقل من شهرين. في كل دولة برز طموح كبير يعبّر عن نفسه بإرث تاريخي مفترض، ولكن هذا لم يكن يكفي لخلق "دولة قومية" دون الأخذ بالاعتبار مصالح القوى المنتصرة (بريطانيا وفرنسا بشكل خاص). في حالة الدولة اليوغسلافية كان هناك رجال دولة مثل نيقولا باشيتش أدركوا وعرفوا كيف يجدون مصلحة مشتركة مع بريطانيا وفرنسا لأجل خلق دولة يوغسلافية كبرى، دون أن يكتفوا بوعود عامة و"عهود" على الطريقة العربية. في حالة الدولة العربية كانت لدينا استكانة إلى الوعود و"العهود" من بريطانيا بشكل خاص، كما كانت لدينا استهانة بقوة فرنسا في المنطقة وهو ما بدا في ميسلون 1920. فعندما عاد الأمير فيصل من باريس بنصف استقلال في 1920 جوبه برفض من النخبة المتحمسة للاستقلال الكامل، وعندما قال لها إن هذا يعني الصدام مع فرنسا كان الجواب: نحن على استعداد لنعلن الحرب على فرنسا وبريطانيا.

مع أن مئوية الدولة اليوغسلافية لاحقة على مئوية الدولة العربية، التي لا يوجد في الأفق كبير اهتمام بها، فقد بادرت بلغراد للاحتفاء مبكرا في 25 أيار/مايو الذي شهد حفل إشهار لكتاب ضخم في مجلدين بعنوان "تاريخ اوتوبيا: مئة سنة على تأسيس يوغسلافيا". وحسب الناشر فإن الكتاب يضم "مقاربات مختلفة علمية ومتعددة الأبعاد لنشوء وفعالية الفكرة/ الدولة اليوغسلافية التي صاحبتها اختلافات وأساطير".

كان اختيار الموعد مناسبا لأن 25 أيار/ مايو كان واحدا من أهم الأعياد في يوغسلافيا التيتوية، إذ يمثل عيد الشباب وعيد ميلاد تيتو ويتميز بحمل الشباب للشعلة عبر جمهوريات يوغسلافيا إلى أن تصل في هذا اليوم إلى بلغراد وتُسلّم إلى تيتو في احتفال كبير. ومع أن يوغسلافيا شبعت موتا منذ 1991 وأثمرت حروبا هنا وهناك إلا أن حضور الجمهور كان مفاجئا حيث لم تكف مقاعد مسرح المكتبة الوطنية في بلغراد فشُغلت الممرات كلها بجلوس المهتمين من المخضرمين ومن الشباب الذين يريدون أن يعرفوا أكثر عن هذا اللغز أو "اليوتوبيا" كما وردت في عنوان الكتاب.

حضر الحفل نخبة من الأكاديميين على رأسهم كوستا تشافوشكي كما حضره من رؤساء يوغسلافيا السابقة فويسلاف كوشتونيتسا ودبلوماسيون ومؤرخون ومثقفون مخضرمون. في هذا الحفل لم يكن هناك غضاضة من الاعتراف أن تأسيس يوغسلافيا في 1918 ما كان يمكن أن يكون لولا دور القوى الكبرى التي خرجت منتصرة من الحرب التي كانت لها مصلحة جيوبوليتيكية بتأسيس دولة كبيرة مثل يوغسلافيا على حساب دولة مهزومة مثل النمسا- المجر، دون أن يعني هذا أن "الفكرة اليوغسلافية" كانت "مستوردة" أو لم تكن موجودة عند الصرب منذ الانتفاضة الصربية الأولى (1804) ضد الحكم العثماني. وطالما أن الاحتفال كان في بلغراد فقد تم التركيز على ما خسرته أو ما ضحّت به صربيا في سبيل الإبقاء على يوغسلافيا حتى لو كلّف ذلك عدة حروب (سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة وكوسوفو) حوّلت "الإخاء والاتحاد" (شعار يوغسلافيا التيتوية) إلى "العداء والشقاق" بين "الأخوة الأعداء".

صحيح أن عنوان الكتاب يسلّم بأن يوغسلافيا التي تشكلت في 1918 لم تكن أكثر من "يوتوبيا" إلا أنها لا تزال حاضرة بشكل ما بعد عدة عقود من انهيارها في جمهوريات يوغسلافيا السابقة سواء في البنية التحتية العمرانية أو في البنية التحتية الجامعية- الثقافية أو في الحنين إلى "الجواز الأحمر" الذي كان كالجواز الأميركي الآن يتيح لليوغسلاف السفر إلى معظم الدول في العالم. أما في العالم فلا تزال يوغسلافيا ترتبط باسم تيتو وعدم الانحياز من إندونيسيا إلى الجزائر.

ماذا تعني يوغسلافيا عربيا في الفكر والثقافة؟

ارتبطت يوغسلافيا أولا في 1948 بأول تمرد على "الأخ الكبير" (الاتحاد السوفييتي)، وبالتحديد على الستالينية في السياسة والجدانوفية في الأدب. صحيح أن الأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية كانت مؤدلجة على الطريقة الستالينية، ولذلك دفعت أعضاءها وأنصارها إلى التظاهر ضد "التحريفية اليوغسلافية"، ولكن مع ستينات القرن الماضي برز اهتمام عربي يساري بالتجربة اليوغسلافية الجديدة (التسيير الذاتي) التي استلهمتها بعض الدول العربية (الجزائر ومصر وسورية أيام الموجة الاشتراكية).

في خمسينات القرن العشرين برز أولا "الحياد الإيجابي" ثم "عدم الانحياز" الذي ارتبط بشخصيات ثلاث (تيتو وعبد الناصر ونهرو) وكرست أول قمة له في بلغراد (1961) خريطة لحركة جديدة أثمرت في الفكر والثقافة أيضا.

في يوغسلافيا على الأقل خلق هذا التوجه السياسي نحو "العالم الثالث" مسارا موازيا في الثقافة، أي في التعرف على أدب وثقافة شعوب "العالم الثالث". في هذا السياق كانت تلك "السنوات الذهبية" للتعرف على الأدب العربي والتعريف به دراسة وترجمة واحتفاء بكبار الأدباء العرب (نجيب محفوظ وعبد الوهاب البياتي وأدونيس ومحمود درويش وغيرهم).

صحيح أن نجيب محفوظ زار يوغسلافيا مع وفد يمثل "الجمهورية العربية المتحدة" والتقى فيها الروائي المعروف ايفو آندريتش، الذي كان أول يوغسلافي يفوز بجائزة نوبل، إلا أن الأمر تُرك لسامي الدروبي حين جاء بلغراد سفيرا لسورية في 1964 أن يقرأ آندريتش في اللغة الفرنسية وأن يترجم روايته المعروفة "جسر على نهر درينا" إلى العربية. ومع استثناءات قليلة لم يكن الهوى اليساري الجديد بيوغسلافيا التسيير الذاتي، التي تحررت من الواقعية الاشتراكية، يقابله هوى ثقافي للتعرف على إبداعات كانت تشق طريقها إلى أوروبا الشرقية (بروح جديدة غير مألوفة) أو إلى أوروبا الغربية.

مئوية يوغسلافيا فرصة تمتد حتى نهاية العام، حين يحلّ يوم 1/12/2018، لمراجعة دروس فشل يوغسلافيا ودور القوى الكبرى سواء في تأسيسها (حين كان يناسبها ذلك) أو في انهيارها (حين كان يناسبها ذلك أيضا) وتحوّلها إلى سبع دول فقط.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.