}

قدَم/ قدمُس وأوروبا الفينيقيان: أسطورة الشرق والغرب

محمد. م الأرناؤوط 25 يوليه 2018

خلال إنجازي لبحث في كاليفورنيا عن الأسطورة والتاريخ في العلاقات المبكرة بين الساحل الفينيقي وشبه جزيرة البلقان، وما نُسج حول أسطورة الأمير الفينيقي قدَم (أو  قدمس Cadmus عند الإغريق) وقدومه إلى بلاد الإغريق بحثا عن أخته أوروبا، أتيحت لي فرصة الوصول إلى بعض المراجع التي لم تكن متاحة، وخاصة كتاب المؤرخ والتر بوركت W.Burket "ثورة التشريق - تأثير الشرق الأدنى على العصر القديم المبكر" (لندن 1992)، الذي لم يلفت النظر، ولم يترجم إلى العربية على الرغم من أهميته.

في الجانب الأسطوري، لدينا في التراث الإغريقي أسطورة الأمير الفينيقي قدمُس (كما هو معروف عند الإغريق) الذي جاء إلى بلاد الإغريق (التي كانت تمتد في غرب آسيا الصغرى وجنوب البلقان) بحثا عن أخته أوروبا التي خطفها من شاطئ صور الإله زيوس وتزوجها وأطلق اسمها على الأرض التي تقع غرب بلاد الإغريق، أي أوروبا الحالية. وتقول الأسطورة إن آغنور ملك صور أمر ابنه قدم/ قدمس بالذهاب والبحث عن أخته وعدم العودة إلا معها، ولكن قدم/ قدمس بعد أن بحث عنها كثيرا، فقد الأمل وأسّس مدينة طيبة في غرب اليونان حيث زوّجه الإله زيوس من هرمونيا ابنة إله الحرب إيريس وابنة آلهة الجمال أفروديت. وقد خلف قدم/ قدمس ابنه بوليدور ملكا على طيبة، وتوجه قدمس شمالا حيث ولد ابنه إلير/ إليروس الذي سميت المنطقة باسمه (إليريا) وانتسب إليه الإليريون الذين يعتبرون أسلاف الألبانيين.

في هذا الجانب الأسطوري يلفت النظر الجانب اللغوي/ الثقافي الذي تعززه الآن الأبحاث التاريخية، ما يؤكد أن الأسطورة لم تأت من فراغ أو من نسج الخيال فقط.

في الجانب اللغوي، يلفت النظر أن اسم قدم (التي تُحرّك حسب أحرف العلة) في اللغات السامية الغربية تأتي بمعنى الجبهة والمقدمة، ومنها في العربية "قَدْمة الغنم" التي تسير في مقدمة الغنم، كما تعني القادم من الشرق إلخ. أما بالنسبة إلى أخته أوروبا فهي مشتقة من غُرُب الفينيقية أو الغرب، وبذلك تكتمل ثنائية الشرق – الغرب في هذه الأسطورة التي كانت تشمل عمليا الحوض الشرقي للبحر المتوسط.

في الجانب الثقافي، لدينا الكثير عن التفاعل الثقافي في هذا الحوض بين الفينيقيين والإغريق. فقد اشتهر الفينيقيون بجوب المتوسط للتجارة وتركوا في الأماكن التي جالوا أو استقروا فيها أمرين مهمين: الأبجدية والآلهة التي كانوا يعبدونها والتي أخذت لاحقا أسماء يونانية. فالأسطورة المذكورة عن قدم/ قدمس تذكر أنه قدّم لسكان بووتيا Boetia الأبجدية التي حملها من بلاده والتي تتألف من 16 حرفا. ومن المعروف أن الأبجدية الفينيقية كانت لا تشمل حروف العلة، ولذلك أدخل عليها الإغريق بعض الإضافات لتتناسب مع لغتهم وتنتشر في ما بعد في أوروبا لتكون لاحقا أساس الأبجديات الكيرلية واللاتينية.

هذه الإشارات الواردة في الأسطورة حول الجانب الثقافي يتوقف عندها والتر بوركت ليبرزها على حقيقتها في كتابه المهم "ثورة التشريق – تأثير الشرق الأدنى على العصر القديم المبكر" الذي لم يترجم للأسف إلى العربية على الرغم من أهميته. فالعنوان في حد ذاته، وحتى مصطلح "التشريق"، يدل على أن الجانب الثقافي في العلاقة بين الساحل الفينيقي والعالم الإغريقي كان أوسع بكثير مما كنا نعرف، واتخذ في الغالب اتجاها واحدا: فيْنقة أو "تشريق" بلاد الإغريق، على حد تعبير المؤلف. وفي ما يتعلق بـالفينيقيين، يوضّح بوركت هنا أمرا مهما ألا وهو أن مفهوم "الفينيقيين" عند الإغريق كان يشمل الممالك الفينيقية (جبيل وصور وصيدا) كما يشمل الفينيقيين والآراميين شمالي سورية.

وفي ما يتعلق بالأبجدية، التي اعتبرت من أهم ما قدّمه الإغريق للعالم القديم، يوضح بوركت أن الأمر لم يكن يتعلق فقط بنقل الأبجدية الفينيقية إلى بلاد الإغريق بل بما هو أهم: نقل كيفية تعلم الكتابة والقراءة في هذه الأبجدية الجديدة. ومع الأبجدية الجديدة أصبح الامتداد الفينيقي - الآرامي يتميز بظهور الكتب والمكتبات من الساحل الفينيقي إلى بلاد الرافدين، حيث برزت في برسبوليس مكتبة ضخمة بقيت تقوم بدورها كمركز إشعاع إلى أن جاء الإسكندر المقدوني ودمّرها. ومع انتشار البردي كورق للكتابة عوضا عن الجلود، اشتهر ميناء جبيل Gubla بتصدير ورق البردي إلى بلاد الإغريق، ولذلك اشتهر باسمه الجديد بيبلوس Byblos بعد أن أصبح المورد الرئيس للبردي أو القرطاس، وهي كلمة دخلت اليونانية ثم عادت لتدخل العربية باعتبارها يونانية.

وعلى ذكر القرطاس لدينا في اليونانية القديمة مستعارات أخرى من الشرق الأدنى (فينيقيا وبلاد الرافدين) مثل وحدة الوزن الأكادية الأصل المن والقانون وغيرها. وفي ما يتعلق بكلمة القانون، التي كانت تعني في الأصل القضيب لقياس الأطوال ثم أصبحت تطلق على المعيار والنظام، ساد طويلا بيننا الاعتقاد أن القانون كلمة يونانية انتقلت إلى الدولة العثمانية (التي ورثت بيزنطة) حيث أصبح من حق السلاطين أن يصدروا قوانين بأسمائهم، ومن ذلك سمي السلطان سليمان الأول "سليمان القانوني" (1520 - 1566) لكثرة ما أصدر من قوانين.

وحول هذا يذكر بوركت أن تعصّب بعض علماء اليونان يدفعهم لنفي وجود مستعارات لغوية من الشرق الأدنى أو تقليلها إلى الحد الأدنى بالبحث عن معان بعيدة لها في آسيا الصغرى أو حوض بحر إيجة، وهو ما يعتبره بوركت نوعا من "العداء للسامية" (ص 34). وعلى عكس ذلك، يستشهد بالباحثة إميلي ماسون E.Masson التي تؤكد وجود 37 كلمة سامية مؤكدة و12 كلمة سامية محتملة في اللغة اليونانية القديمة، بينما يضيف الباحث أوزوالد زمرني O.Szemerny إلى ذلك حوالي عشر كلمات أخرى.

ومن ناحية أخرى، فقد كان الفينيقيون يحملون معهم آلهتهم إلى الأماكن التي يتاجرون معها أو يقيمون مستوطنات تجارية فيها، وبذلك انتقلت وانتشرت عبادة بعض الآلهة التي أصبحت تُنسب لاحقا إلى سورية. ومن ذلك عشتار، التي انتقلت إلى بلاد الإغريق باسم هيرا Hera ثم أصبحت لاحقا تُعرف باسم الإلهة السورية Dea Syria. ومن المثير، كما يلاحظ بوركت، أنه في سورية كانت منتشرة صورة أو ظاهرة "الآلهة المتعرية" على الأواني والنقوش أو تلك المصنوعة بالقوالب، بينما عندما انتقلت إلى بلاد الإغريق أصبحت تظهر مغطاة باللباس. لكن، كما يضيف بوركت، أصبحت هذه "الآلهة المحتشمة" عندما تظهر واقفة يظهر على ملابسها "ترف الشرق".

أسطورة قدم/ قدمس، التي استلهمها الشعراء في الغرب، لم تحظ بما تستحقه من أهمية، سواء كأسطورة أو كخلفية رمزية عن العلاقات الثقافية بين أطراف الحوض الشرقي للبحر المتوسط الذي أنجب ثنائية الشرق - الغرب من خلال قدم/ قدمس وأخته أوروبا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.