}

تسعينيات بغداد وحصارها.. كتب بالاستنساخ وأغلفة بالسكرين

عبد الزهرة زكي 20 مايو 2018
استعادات تسعينيات بغداد وحصارها.. كتب بالاستنساخ وأغلفة بالسكرين
شارع المتنبي في بغداد

لم تمض سوى بضعة أيام على دخول قوات عراقية إلى الكويت عام 1990 حتى حاصرت السلطاتُ العراقية، نفسها، الثقافةَ العراقية بقرارِ إيقاف جميع المجلات الصادرة عن "دار الشؤون الثقافية" (الأقلام، المورد، آفاق عربية، الطليعة الأدبية، التراث الشعبي)، وتوقفت معها إصدارات الدار من كتب الأدب والفكر المؤلَّفة والمترجَمة. حصل الشيء نفسه في "دار المأمون" المعنية بالترجمة والنشر، وامتد هذا الإجراء ليوقف حتى إصدارات الأطفال.

كان قراراً غريباً ومرتجلاً. وكان الأتعس فيه هو الزهدُ بالعمل الثقافي واحتقارُه والتضحية به برغم أنه عمل لم يكن ليلبّي أساساً متطلبات حرية التفكير الثقافي والإبداعي.

كنتُ حينها محرّراً في مجلة "الطليعة الأدبية"، ولم يمض على عملي سوى أشهر قليلة بعد انتهاء خدمتي العسكرية الطويلة في الحرب العراقية الإيرانية. عملي في المجلة وضعني أمام صورة كافية عن أن إمكانات مخازن دار الشؤون الثقافية لمستلزمات الطباعة، من حبر وورق ومواد طباعية أخرى، كانت تكفي لتستمرَّ الدار ومختلف مطبوعاتها بالصدور والتواصل  لسنين من دون حاجة إلى الاستيراد. لم يؤخذ هذا بالحسبان. ما كان أساساً بإمكان أحد أن يوضح شيئاً مثل هذا أمام الإرادة العليا التي قررت ذلك الإيقاف، والتي اعتادت أن تفكر بالنيابة عن الجميع. لقد جرى إيقاف المطبوعات، فتسرّحتُ، وتسرّح كثيرون مثلي، من العمل الذي لم يمضِ عليه عام واحد، وكان بموجب عقد عمل غير دائم.

استمرّ الحصار، واستمرّ توقّفُ منفذ النشر الوحيد في العراق، لكن الحياة لم تتوقف.

حياة الثقافة تديمها الثقافة نفسها ويمكن أن يديمها المثقفون أنفسهم. فكان لابد من التفكير بحلول من أجل مواصلة الحياة. حين تعجر حكومة، وهي التي كانت قد شاءت أن تحتكر العمل الثقافي والصحفي، فإن الناس لا تعييها الحيلة من أجل البحث عن حل، أيّ حل. كان من الممكن لأدباء وكتّاب الأجيال الأقدم أن يواصلوا صبرهم وتحملّهم. ففي أفضل سنوات العراق كان النشر مشكلة بالنسبة لأدباء وكتّاب العراق، وكان بعضٌ من هؤلاء هو مَن يزهد حتى بالقليل المتاح. شخصياً، لم يتح لي، حينذاك، مجال إصدار كتاب برغم مضي ما لا يقل عن خمس عشرة سنة من بدئي الكتابة والنشر في الصحف والمجلات العراقية والعربية. لكن كان هناك جيل جديد يظهر، وهو أحوج من سواه إلى وسيلة للنشر وللتعريف بنفسه وبنتاجه. إنه جيل فتّح عيني حياته في الثقافة إنما في بلد ليس فيه مجلة واحدة ولا طباعة كتب.

من هنا، ومن هذا الجيل، ومن الأجيال الأقرب إليه، بدأ الحل وظهرت الفكرة.

وهكذا جاء الحل وكالتالي: الطبع بالاستنساخ من دون حاجة إلى المنفذ الحكومي الوحيد، دار الشؤون الثقافية وإصداراتها المتوقفة.

واقعاً انتشرت حينذاك مكاتب الاستنساخ (الفوتو كوبي) ببغداد، بشكل أساس، ثم امتدت، بحدود معينة، إلى محافظات أخرى، دائماً مساحة الحرية في بغداد العاصمة أكثر مما في سواها من مدن العراق الأخرى. كانت حاجة الطلبة الجامعيين والقرّاء وعموم المثقفين إلى استساخ الكتب الحديثة الصادرة عربياً، خارج العراق، هي الدافع لهذا التكاثر قبل أن تطرأ فكرة طباعة الكتب الأدبية من قبل مؤلفيها من خلالها.

قبل هذا فإنّ الاستنساخ، ليس لأغراض الطبع والنشر فقط، وإنّما حتى مجرد استنساخ كتاب مطبوع، كان يواجه صعوبة رقابية، ناهيك عن أنه ماكانت هناك أساساً حاجة للاستنساخ؛ الكتب المسموح بها متاحة في مكتبات بغداد، بينما غير المسموح به لن تجد مَن يغامر ويستنسخه. هذا ما جعل عمل الاستنساخ قبل 1990 محدوداً جداً، وكان يكاد يقتصر على استنساخ الأوراق الثبوتية التي تتطلّبها معاملات عموم المواطنين في دوائر الدولة، وهذا ما كان يتمّ بأجهزة الرونيو قبل أن تزاحمها وتقصيها من العمل أجهزة الاستنساخ الإلكتروني الحديثة التي بدأت تصل إلى بغداد وقتذاك.

بالمصادفة قرأت، قبل أيام، منشوراً في فيسبوك للكاتب العراقي جمعة اللامي، المقيم منذ عقود، في دولة الإمارات العربية، وكان يضع فيه رسالة جاءته من أديب بصري، هو فرات صالح. تقول رسالة فرات كما وضعها اللامي:" في أواخر سبعينيات القرن الماضي كان الحصول على نسخة من كتاب لكاتب معارض للنظام نوعاً من المستحيل، بل من الجنون. وبعد جهد جهيد وبحث طويل حصلت على سبيل الاستعارة من أحد الأصدقاء على نسخة من "مَن قتل حكمت الشامي" فقررت صنع نسختي الخاصة منها بنسخها بخط يدي لأن الاستنساخ الميكانيكي كان على ندرته يعني التعرّض إلى مخاطر جمة". و" مَن قتل حكمة الشامي؟" هو كتاب جمعة اللامي، المهاجر، الذي اضطر الأديب الماكث في العراق إلى استنساخه بخطّ اليد للاحتفاظ بنسخة منه. كانت رسالة فرات صالح مرفقة بتلك النسخة اليدوية وقد شاء أن يهديها بعد هذه السنوات إلى مؤلفها.

كانت فكرة الطباعة بالاستنساخ لا تقف عند كونها حلاً لمشكلة توقّف مطابع دار الشؤون الثقافية عن عملها في طباعة كتب الأدباء والكتاب العراقيين، وما يرد إليها من مؤلفات بعض الأدباء العرب من مختلف البلدان. فما هو أهم من مجرد أن يطبع شاعر، أو قاص، أو ناقد، أو أي باحث، كتابَه بهذه الطريقة غير المعهودة، وهو كتاب سيكون محدود النسخ والامكانات الفنية، هو أن هذه الكتب لن تحتاج إلى موافقة دائرة رقابة المطبوعات في وزارة الثقافة. ليس في القوانين السارية ما يحول دون استنساخ أيّة أوراق مطبوعة. وكان هذا نتيجة مهمة، غير محسوبة، بالنسبة لأدباء شبان لا قيمة إزاءها بالنسبة لمشكلة عدم وجود طباعة أصولية للكتب.

وفعلاً، قد تكون هذه نتيجة غير محسوبة من قبل المؤسسة الثقافية الحكومية حينما أغلقت أبوابها وأوقفت حركة مطابعها بقرار فوقي، لكن، ومن بعدما بدأت الإصدارات بالظهور تدريجياً فإن التفكير بعدم حسبان ذلك من قبل الحكومة سيكون سذاجة.

كانت الرقابة تتابع بكثافة ما يجري استنساخه من كتب واردة من البلدان العربية الأخرى، لكن هذه الرقابة نفسها بقيت تغض الطرف عما بدأ يصدر من كتب مستنسخة من دون إذن رقابي. ظروف الستعينيات، خصوصا بعد النتائج الكارثية لحرب 1991 وما رافقها وتبعها من حصار إجرامي طال العراقيين، كانت أكثر تخفّفاً في الإجراءات الرقابية الثقافية. حصل هذا بتضافر عوامل كثيرة. إنه تخففٌ غير مختار، بالنسبة للسلطات، لكنها قبلت به لأسباب سياسية، فاستُثمر من قبل الوسط الثقافي بما ساعده على أن يجرّب بنفسه فرص (الحرية) بصيغة ما والاعتماد على النفس وإمكاناتها الشحيحة.

أعتقد، ما لم تخنّي الذاكرة، أن التجربة الأولى كانت من خلال مكتب "الأمد"، الذي ظهر فجأة في بغداد عام 1991.

ففي ذلك العام جاءت إلى بغداد من عمان السيدة حكمية جرّار، يرحمها الله. كانت راغبة في أن تفتح (دار نشر) في العاصمة المحاصرة. استعانت لتنفيذ هذا المشروع بعدد من الأصدقاء الأدباء العراقيين، أذكر منهما حكمة الحاج ثم الراحل رياض إبراهيم ومنذر عبدالحر وعلي النجدي، وكان معهم فاضل جواد مصمماً ومديراً فنياً. كان وجود فاضل جواد أساسياً في انطلاق مشروع الطباعة باعتماد وسيلة الاستنساخ. وكان لخبرته في مجال التصميم والتنفيذ باعتماد تقنية الطبع بالسكرين دور مهم في تصميم وتنفيذ الأغلفة التي ستظهر على الكتب المستنسخة، فتكون أغلفة تضارع بجودتها التصميمة وإخراجها الفني أفضل الأغلفة التي كان يمكن الظفر بها سابقا من مطابع الشؤون الثقافية. يمكن القول إن فاضل جواد الفنان الصموت والأشدّ تواضعاً ورغبة بالمشاركة والتعاون كان رائد هذه التجربة وهو مبتكرها ومرسّخها في الحياة الثقافية العراقية إبان الحصار.

"المشهد الشعري العراقي الجديد ــ شعر 92"، كان كتاب مختارات لشعراء عراقيين مختلفين، وكان باكورة الإصدارات الحديثة عبر "الأمد"، وهو ثاني كتاب كتاب طبع باعتماد تقنية السكرين وبالاستنساخ، وذلك بعد كتاب "الطواسين والمناجيات" للحلاج الذي جمعه وأخرجه حكمة الحاج قبل أن يغادر "الأمد". جمع منذر عبدالحر ورياض إبراهيم نصوص كتاب المشهد الشعري، وكُلّفت بكتابة تقديم للكتاب، فشئت أن يكون تقديماً مكثفاً ومعبّراً عن جوهر فحواه. كنت حينها وأصدقاء آخرون نؤازر عمل وجهود "الأمد"، بالاستشارة والملاحظات، من أجل النجاح وتوفر مكان يسمح بطباعة وإصدار مؤلفات الأدباء في ذلك الظرف، لقد كان تواجدنا المجّاني قرب أسرة "الأمد" يكاد يكون يومياً.

كانت قيمة هذا الكتاب هي في تنوع تجارب شعرائه، ومعظمهم من شعراء الأجيال الأحدث. لقد قدم هذا التنوع تعبيراً أولياً عن تعزيز إرادة الخروج على ما هو سائد في الراسخ من الشعر، وإعادة الاعتبار إلى قيمة المعنى الشعري في كتابة الشعر الجديد. كانت نصوصا لشعراء معظمهم كان خارجا من أتون الحرب العراقية الإيرانية، وكان التعبير فيها عن حياة الحرب يحاول تقديم الصورة الأخرى لشعر الحرب، صورة الدمار الإنساني وانكسار الإنسان، وشظايا هذين الدمار والانكسار وجراحها العميقة في الشعر.

صدر الكتاب بحجم صغير وبحرف أصغر وقد طبع على ورق جيء به من فضلات ورق المطابع الأهلية، فيما كان غلافه لافتاً بتصميم فاضل جواد وتنفيذه بتقنية طباعة السكرين، وكان هذا عملاً يدوياً مرهقاً، عشت في ما بعد، في إحدى الليالي، معاناته مع فاضل حين كان ينفذ تصميمه لغلافٍ ثانٍ لديواني "اليد تكتشف".

هكذا صدرت الطبعة الأولى من كتاب "بصرياثا" لمحمد خضير، والديوان الوحيد لجان دمو "أسمال" قبل هجرة جان وموته في مغتربه باستراليا، وكتاب آخر لمختارات في القصة القصيرة بموازاة كتاب المشهد الشعري، ودواوين شعرية أخرى لكل من منذر عبد الحر وخزعل الماجدي وعلي الشلاه، بينما نشرت مجاميع قصصية لكلٍّ من الراحل عبد الستار ناصر ولمحمد رشيد وإرادة الجبوري، وأذكر أن الكتاب للراحل خضير ميري صدر عن الأمد أيضاً.

كانت هذه هي البداية التي تبعتها بدايات أخرى، تنوعت وتكاثرت حتى بات كتاب الاستنساخ الوسيلة الرئيسة للإصدار والنشر، فيما كثر "الناشرون" بعد نجاح تجربة الأمد. وهذا ما سنقف عليه في مقال تالٍ.

جمعة اللامي: 9 آيار 2018

تلقيت من الصديق العزيز فرات صالح ، قبل عدة ايام الرسالة التالية ، مصحوبة بمخطوطة لكتابي الأول (من قتل حكمة الشامي) بخط يده . هذه أكثر من رسالة شخصية: إنها ثقافة عراقية لن تمحى، أبداً. تحية لأخي فرات:

"في أواخر سبعينيات العام الماضي كان الحصول على نسخة من كتاب لكاتب معارض للنظام نوعا من المستحيل، بل من الجنون.

وبعد جهد جهيد وبحث طويل حصلت على سبيل الاستعارة من أحد الأصدقاء على نسخة من "مَن قتل حكمت الشامي" فقررت صنع نسختي الخاصة منها بنسخها بخط يدي لأن الاستنساخ الميكانيكي كان على ندرته يعني التعرض إلى مخاطر جمة".



*شاعر من العراق

 

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.