}

القدس وفلسطين: فصول من دليل الاستملاك الصهيوني العدوانيّ (1-2)

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 2 فبراير 2018
استعادات القدس وفلسطين: فصول من دليل الاستملاك الصهيوني العدوانيّ (1-2)
شوارع القدس العتيقة

[نصّ ورقة جرى تقديمها إلى مؤتمر دولي للقدس عقد بدعوة من وزارة الثقافة الأردنية في عمان في أواخر عام 2009]

توطئــة

لعل أول ملاحظة تتبادر إلى الذهن، لدى مقاربة موضوع النظرة اليهودية- الصهيونية إلى القدس وإلى فلسطين عمومًا، والتي جاءت كي تخدم غاية استملاكهما قسريًا، وذلك من خلال القراءة في مجموعة من المصادر الإسرائيلية المعاصرة- وهذه المداخلة تستند بصورة رئيسة إلى مثل هذه القراءة- هي الملاحظة التالية: في الوقت الذي تبدي هذه المصادر، في معظمها، "حرصًا كبيرًا" على إبراز الرابطة اليهودية التاريخية، الدينية والقومية، بمدينة القدس وفلسطين فإنها "تحرص" في موازاة ذلك، وربما بصورة أكبر، على التقليل من أهمية وقيمة الرابطة الإسلامية- العربية التاريخية، الدينية والقومية، بالمدينة وبالبلد.

وقبل الدخول في التفصيلات المطلوبة، لا بُدّ من الإشارة إلى ما يلي:

أولًا- إن هذا "الحرص" يعكس مسعى مؤدلجًا بالفكر الصهيوني الجامح، ومحاولة لتبرير الممارسات الميدانية، التي جرى تطبيقها لترسيخ أقدام هذا الفكر؛

ثانيًا- إن مقاربة الفكر الصهيوني إزاء عروبة القدس وفلسطين وإزاء تاريخهما الإسلامي تأسست وما تزال على مبدأ ثابت، هو تجاهل الرواية التاريخية العربية والفلسطينية. وعندما أشدّد على تجاهل، فعن وعي كامل بالفارق الكبير والجوهري بين دلالات هذا المصطلح وبين الدلالات التي ينطوي عليها مصطلح آخر لتوصيف هذه المقاربة، عادة ما يتم استعماله من طرف الباحثين الإسرائيليين بمن فيهم معظم الباحثين النقديين، وهو مصطلح الجهل. ففي إطار هذه المصطلح الأخير جرى تحرير محاولات كثيرة لاختزال المقاربة الصهيونية العامة إزاء فلسطين والقدس بالقول إنها نجمت عن مجرّد جهل الحركة الصهيونية لواقع وجود شعب عربي في فلسطين، وخصوصًا عندما قررت أن تقيم "وطنًا قوميًا لليهود" فيه؛

ثالثًا- إن تجاهل عروبة القدس وفلسطين، من طرف الحركة الصهيونية، استند أكثر من أي شيء آخر إلى محاولة فرض تجاهل ماضيهما الإسلامي.

وفي هذا ما يفسّر عمليات الهدم والتدمير الواسعة، التي قامت بها القوات الصهيونية في عام 1948 وما بعدها بحق المساجد والمواقع الدينية والأثرية الإسلامية على نحو خاص، وذلك سعيًا وراء إخفاء المعالم التي من شأنها أن تفضح هذا التجاهل أو تحجّمه.

دلالات تدمير

المساجد

عمل ديفيد بن غوريون، وهو القائد الأقوى نفوذًا في الحركة الصهيونية منذ أربعينيات القرن العشرين الفائت، وأول رئيس للحكومة الإسرائيلية، في عام 1948 وبعده، بصورة ممنهجة، على محو كل ما كان قائمًا في فلسطين من شواهد عربية، وأساسًا عمل على محو الماضي الإسلامـي.

للنمذجة على هذا نشير إلى أنه في تموز/ يوليو 2007 ظهر تحقيق صحافي في جريدة هآرتس الإسرائيلية(1) أشير في سياقه إلى أن قيادة الجيش الإسرائيلي اتبعت "سياسة مقصودة كانت تهدف إلى تدمير المساجد"، وذلك في نطاق سياسة محو القرى والبلدات العربية، التي بقيت فارغة في إثر نكبة 1948 وما رافقها من عمليات تطهير عرقية. وبناء على ذلك فإنه من بين مئة وستين مسجدًا كانت قائمة في القرى الفلسطينية، التي شملها اتفاق الهدنة (1949) وبقيت تحت سيطرة إسرائيل، لم يظل سوى أقل من أربعين مسجدًا، وفقًا لادعاء هذا التقرير، علمًا بأن الأرقام الحقيقية للمساجد التي تمّ تدميرها أكبر كثيرًا. غير أن الأمر الأهم من هذه الأرقام، على أهميتها الفائقة، بالنسبة لما نحاول أن نسبر غوره، هو أن ذلك كله ترافق مع انعدام أي توثيق إسرائيلي لعمليات التدمير الواسعة هذه، اللهم باستثناء توثيق يتيم لعملية تفجير طاولت "مشهد النبيّ حسين" في مدينة المجدل، التي تقع بالقرب من مدينة إسرائيلية تسمى "أشكلون" في الوقت الحالي، وهي عملية جرى تنفيذها في تموز/ يوليو 1950. ويؤكد هذا التوثيق الإسرائيليّ أن تفجير ذلك "المشهد المقدّس" كان عبارة عن عمل مقصود، وكان جزءًا من عملية أوسع في تلك المنطقة على وجه التحديد، شملت تدمير مسجدين آخرين على الأقل، واحد في يبنا والآخر في أسدود. كما يتبيّن أن المسؤول المباشر عن عمليات التدمير هذه هو الجنراليسمو موشيه دايان، الذي كان يشغل منصب قائد الجبهة العسكرية الإسرائيلية الجنوبية في ذلك الوقت.

في واقع الأمر، فإن هذا التوثيق شكّل انحرافًا عن النهج الإسرائيلي العام، الذي اتبع في ذلك الوقت وفقًا لتعليمات صارمة صادرة عن قيادة الجيش الإسرائيلي. وقد نجم التوثيق عن عملية تبادل رسائل بين رئيس "دائرة الآثار الإسرائيلية"، وهي أول صيغة لما يسمى حاليًا بـ "سلطة الآثار الإسرائيلية"، ويدعى شموئيل يافين، الذي يصفه التحقيق الصحافي بأنه "رجل علم" أكثر من كونه "نصيرًا لحقوق العرب"، وبين قيادة الجيش الإسرائيلي بشأن مصير الموقع المذكور. وكانت إحدى هذه الرسائل متعلقة بما حدث في المجدل على وجه التحديد، وتضمنت احتجاجًا إداريًا على تفجير الموقع المقدّس، وأرسلت إلى رئيس دائرة المهمات الخاصة في وزارة الدفاع الإسرائيلية، وأرسلت نسخ عنها إلى رئيس هيئة الأركان العامة حينذاك، يغئال يادين، وإلى عدد من كبار القادة العسكريين الإسرائيليين.

ويظهر من المراجعة التي أجراها كاتب التحقيق في أرشيف الجيش الإسرائيلي أن يادين، الذي غدا لاحقًا كبير علماء الآثار في إسرائيل، لم يتأثر من الرسالة قطّ. كما أن دايان نفسه لم يتأثر بها. ففي رسالته الجوابية التي بعث بها إلى ديوان رئيس هيئة الأركان العامة، في العاشر من آب/ أغسطس 1950 كما يبدو (لأن التاريخ غير واضح)، وتحت عنوان "هدم مكان مقدس"، كتب دايان ما يلي: "1ـ إنني أطلب الردّ على هذه الرسالة شفويًا لرئيس هيئة الأركان العامة. 2ـ التفجير تمّ على يدي لواء الساحل وبناء على أوامري". والكلمات في النقطة الثانية مشطوبة بخط، لكن رسالة أخرى أرسلت بتاريخ 30 آب/ أغسطس من العام نفسه تبدّد أي شكّ في هذا الشأن، فقد ردّ دايان فيها على رسالة تتعلق بـ "المساس بالآثار في منطقة أشكلون" بالقول: "لقد توجه رئيس هيئة الأركان العامة في هذا الخصوص إليّ، وأبلغته شروحي... إن العملية تمت وفقًا لأوامر مني".

 ومع أن قضية تدمير المساجد لا تشغل حيزًا خاصًا في الكتاب الذي أعده راز كليتـر، وهو عالم آثار إسرائيلي عمل في سلطة الآثار على مدار عشرين عامًا متواصلة، بعنوان "هل هو ماض فقط؟ تكوّن علم الآثار الإسرائيلي"، والذي صدر في بريطانيا عام 2006 (2)، إلا إن جوهر تاريخ علم الآثار الإسرائيلي يظهر في كتابه على أنه تاريخ متصل من التدمير: تدمير من الأساس لمدن وقرى، تدمير لثقافة كاملة، تدمير لحاضرها وماضيها. ويتبين من الشهادات المقتبسة في الكتاب أن هذا التدمير قد تم، في جزء يسير جدًا منه، في خضم المعارك العسكرية، غير أن الجزء الأكبر منه تم في وقت لاحق، أي عقب انتهاء المعارك العسكرية، وحتى بعد توقيع اتفاقيات الهدنة في عام 1949، وذلك لأن بقايا الماضي العربي كانت "مصدر إزعاج" إزاء المشهد الجديد، وتعيد التذكير بالواقع الحقيقي الذي كان الجميع يحاول طمسه.

وقد كتب موظف إسرائيلي رفيع المستوى، اسمه أ. دوتان، وهو من دائرة الإعلام في وزارة الخارجية الإسرائيلية، في آب/ أغسطس 1957، ضمن سياق رسالة مقتبسة في كتاب كليتر أن "خرائب القرى القريبة والأحياء العربية، أو كتل المباني المهجورة منذ عام 1948، تثير مشاعر صعبة وتتسبب بضرر سياسي كبير. وخلال الأعوام التسعة الأخيرة تم إخلاء الكثير من هذه الخرائب... غير أن ما تبقى منها برز بشكل أوضح مغايرًا للمشهد الجديد. ولذا يجدر بنا إخلاء هذه الخرائب التي لا يمكن إصلاحها والتي تفتقر إلى أي قيمة أركيولوجية". ونوّه دوتان بأن الرسالة كتبت "بحسب أوامر وزيرة الخارجية"، والتي كانت في ذلك الوقت غولدا مائير.

ويكشف كليتر في كتابه حقائق أخرى تتعلق برئيس "دائرة الآثار الإسرائيلية"، شموئيل يافين، وبرجال وحدة الآثار، فحواها أنهم حاولوا مرة تلو مرة إيقاف عمليات التدمير هذه. غير أن هذه المحاولات لم تكن بصورة دائمة، كما أنها لم تُبذل بشكل مثابر، ولا لأسباب أخلاقية أو لأسباب أخرى تحيل إلى منطلق احترام بني البشر (العرب) الذين عاشوا طوال مئات الأعوام في هذه القرى أو الأحياء، وإنما كانت اعتبارات أصحابها بمنزلة اعتبارات علمية محضة، وكليتر مقتنع بأن هذه المقاربة كانت نابعة مما يسميه "خلفياتهم المهنية". وهو يقول في هذا الصدد إن "يافين لم يكن أكبر عالم آثار في العالم، لكنه كان يتحلى باستقامة شخصية، وهي بحسب معاييره التي اكتسبها من بريطانيا تُعتبر الميزة الأهم. بيد أن هذا الميراث المهني لم يتوافق مع النزعة القومية المتطرفة الإسرائيلية في الخمسينيات، لأن بن غوريون أراد محو كل ما كان قائمًا، وخصوصًا أراد محو الماضي الإسلامي". وفي نظر بن غوريون، فإن كل ما كان موجودًا قبل "تجديد" أو "بعث" الاستيطان اليهودي هو أرض قاحلة، وهذا هو ما عناه عندما قال في مؤتمر خُصص لـ"أبحاث أرض إسرائيل" عقد في عام 1950 إن "محتلين أجانب قد جعلوا من بلدنا صحراء"! ومن هنا يمكن فهم الفشل الذريع الذي مني به يافين ورجال من أمثاله في محاولة المحافظة على شيء، ولو يسير، من هذا الماضي.

ويمكن بوضوح تكوين الانطباع من كتاب كليتر هذا بأن التدمير لم يكن عرضيًا، وأن الذي نفذه كان يعي مغزاه الحقيقي. فالبرنامج الفكري لهذا التدمير كان مُفصّلًا في رسالة وزارة الخارجية في آب/ أغسطس 1957 بناء على طلب غولدا مائير، المذكورة آنفًا. فبعد أن طلب المسؤول في هذه الوزارة، أ. دوتان ذاته، من المدير العام لوزارة العمل "إخلاء الخرائب"، قام بتصنيفها إلى "أربعة أنواع" من "الخرائب" وفق التبريرات التالية:

"أولًا، يجب التخلص من الخرائب وسط المستوطنات اليهودية، في المراكز المهمة أو على طرق المواصلات المركزية؛ المعالجة السريعة لخرائب القرى التي بقي سكانها في البلد...؛ المناطق التي تجري فيها عمليات تطوير كما هي الحال على طول خط سكة الحديد من القدس إلى بار- غيورا، فلدينا انطباع محبط بأن أرض الثقافة تتنفس؛ كذلك يجب الانتباه إلى الخرائب في مناطق السياحة الواضحة... وبناء عليه فإن المطلوب هو أن تتولى وزارة العمل أمر إخلاء الدمار... ويجدر الأخذ بالحسبان أن التعاون مع جهات غير حكومية يتطلب إبداء الحذر، لأنه من الناحية السياسية يفضل إتمام ذلك من دون أن يقف أحد على أهميته السياسية".

ويقول كليتر إنه فوجئ باكتشاف حجم التدمير، ولكن بقدر معين فإنه يتفهم رغبة القائمين على التدمير. ومع ذلك، فإنه يعترف أن كتابه هو أيضًا "كتاب عن الخسارة، عما كان يمكن أن يكون هنا ولم يعد موجودًا. إنه خسارة لعلم آثار بدأ مع تقاليد علمية ولم يستمر فيها، خسارة معلومات تاريخية هائلة، خسارة مشهد القرى". ويضيف: "أنا لا أعتقد أن مشهد القرى ذاك يعود لنا، بل هو يعود إلى أناس أقاموا هنا، ومع ذلك ثمة توق إلى المشهد الضائع هذا. ليس في إمكاننا استعادته، ولكن على الأقل يجدر بنا أن نقر بالحقيقة وأن لا نكذب على أنفسنا" (3).

دلالة التدمير

الثقافي

إن تدمير الماضي العربي الإسلامي لفلسطين لم يقتصر على الجانب الماديّ فحسب، وإنما شمل أيضًا الجانب الثقافي (كي تكف الأرض عن تنفس الثقافة، كما أُلمح أعلاه) وذلك في إطار أوسع هو سعي الحركة الصهيونية إلى اغتيال الهوية الفلسطينية، التي هي هوية ثقافية بالأساس.

وفي هذا الصدد من الجدير الإشارة إلى أن باحثًا إسرائيليًا يدعى غيش عميت، يتميّز بالتوجه النقدي، قام مؤخرًا بنشر مقالة أعرب فيها عن بعض الهواجس التي انتابته في سياق إعداده بحثًا لنيل شهادة الدكتوراه في قسم الأدب العبري في "جامعة بن غوريون" في بئر السبع، ويتمحور حول عملية النهب المبرمجة لكتب الفلسطينيين ومكتباتهم العامرة في العام 1948 وما تلاه، وحول دلالة "تأثيث" بعض أجنحة "المكتبة القومية الصهيونية" بـ "غنائم" عملية النهب هذه (4).

ومما كتبه في هذا المجال أنه في الأعوام القليلة الفائتة كتبت في إسرائيل دراسات نقدية ليست قليلة عن النتائج الهدّامة، على الأقل بالنسبة لـ "المهزومين"، المترتبة على حرب عام 1948. وهكذا بات كثيرون يعرفون، الآن، مزيدًا من المعلومات عن اللاجئين (الفلسطينيين) وعن الكيفية التي منعت إسرائيل بواسطتها، عمدًا وبمنهجية بالغة، عودتهم إلى بيوتهم. كما بات هؤلاء يعرفون أن الصيغة الشعبية- الأخلاقية- البطولية لـ"حرب الاستقلال" (وهو الاسم الرسمي لنكبة 1948 في القاموس الإسرائيلي)، حسبما غدت ثابتة في عمق الروح الصهيونية، هي صيغة مزيفة ومحرّفة في أقل تعديل. بل ويعرفون بعض الأشياء عن نطاق ملكية اللاجئين وعن نهب الأملاك والأراضي والمصانع، وعن مصادرتها وبيعها، بدايةً للجيش الإسرائيلي، ومن ثمّ لكل من يدفع أكثر. مع ذلك فقد بقي الإسرائيليون أميين تقريبًا فيما يتعلق بالكارثة التي ألحقتها تلك الحرب بالثقافة الفلسطينية (5).

وقد نشر الباحث، في إطار مقالته الأولية هذه، عددًا من الوثائق المتعلقة بنهب الكتب والمكتبات العائدة إلى الفلسطينيين في القدس الغربية.

ومن هذه الوثائق رسالة، يؤكد الباحث عدم معرفة هوية كاتبها، أرسلت إلى د. كورت وورمان، مدير "دار الكتب الوطنية الإسرائيلية"، في 26 تموز/ يوليو 1948، بعد ثلاثة أشهر من احتلال حيّ القطمون في القدس، وبعد بضعة أسابيع من تعيين دوف يوسف حاكمًا عسكريًا لـ "مدينة القدس الغربية".

ومما ورد في هذه الرسالة:

"بحسب تقديري فقد تمّ حتى الآن جمع حوالي اثني عشر ألف كتاب، وربما أكثر. قسم كبير من مكتبات الكتاب والمتعلمين العرب موجود الآن في مكان آمن. كما توجد في حيازتنا عدة أكياس من المخطوطات التي لم تتضح قيمتها بعد. إن غالبية الكتب مصدرها من القطمون، ولكن أيضًا وصلنا إلى حيّ الألمانية وإلى البقعة والمصرارة. لقد وجدنا مجموعة مكتبات عربية فاخرة في المصرارة. وأخرجنا من المصرارة أيضًا قسمًا من مكتبة المدرسة السويدية. لم تهدأ النفوس بعد في ذلك المحيط، لكن آمل بأن يكون في وسعنا مواصلة العمل هناك في غضون الأيام القريبة القادمة... قبل عدة أيام وضعت الجامعة (المقصود الجامعة العبرية في القدس) تحت تصرّف هذه العملية 2- 3 عمال من مستخدميها. وقد أدى هذا إلى تحسن كبير في العمل الذي اقتصر عدد المشتغلين فيه خلال الفترة الأخيرة على ثلاثة أشخاص فقط، هم غولدمان، إلياهو وأنا. وهؤلاء لم يعملوا فيه يوميّا وإنما على فترات متقطعة".

ويشير الباحث إلى أنه حتى أوائل عام 1949 تم جمع ثمانية عشر ألف كتاب آخر، وبذلك فقد تسلمت "دار الكتب الوطنيّة" المذكورة حوالي ثلاثين ألف كتاب من العرب سكان القدس الغربية فقط، هذا من دون حساب عدد الكتب التي جرى نهبها في مناطق أخرى، وأساسًا في المدن الفلسطينية الكبرى مثل حيفا ويافا.

وبعد ذلك يؤكد أن ثمة أمرين يستحقان الإشارة، في معرض توضيح كنه مغزى هذا النهب:

(*) أولًا- أن هذا النهب يجعل المطلعين عليه شهودًا على لحظة تجسّد، بالملموس، الشكل الذي تنبثق فيه ثقافة ما من رماد ثقافة أخرى، بعد أن تبيدها عن بكرة أبيها. فإن لحظة تخريب الثقافة الفلسطينية هي اللحظة نفسها لميلاد وعي إسرائيلي جديد، مؤسّس ليس فقط على محو وجود العرب، وإنما مؤسس أيضًا على تدمير ثقافتهم. وبعد تخريب الثقافة يمكن إعادة إنتاج الادعاء الذي نقول بموجبه إن هذه الثقافة لم تكن قائمة هنا مطلقًا. وبطبيعة الحال ليس في وسع أي شيء أن يناقض هذا المفهوم أو يفنّده.

(*) ثانيًا- أن عملية السيطرة هذه تؤشر إلى سيرورة مسخ ثقافة حيّة وديناميكية، كانت مزدهرة في الوسط الحميم لبني البشر، إلى مجرّد غرض متحفيّ. وذلك بأنه لن يمر وقت طويل حتى تجد غالبية الكتب العربية (المنهوبة) مكانها في محراب الكتب الإسرائيلي، محنطة فوق الرفوف وفي متناول الأيدي، لكنها فاقدة للحياة أو إلى ما يشي للحياة، بصورة مطلقة.

كذلك يتطرّق الباحث إلى مذكرة نشرها، بتزامن معين مع نشر الرسالة السالفة، د. شتراوس، وهو مدير قسم العلوم الشرقية في "دار الكتب الوطنية"، عنوانها "إعداد الكتب العربية من المناطق المحتلة". وقد كان شتراوس هذا، بحكم وظيفته، المسؤول المباشر عن تلقي الكتب المنهوبة وأرشفتها وحفظها. وتدل مذكرته تلك، ضمن أمور أخرى، على تأثره من تدفق الكتب على أبواب مكتبته، وكذلك تدلّ على قدر من البلبلة والضائقة في إحكام السيطرة على هذا الكم الكبير، ما حدا به إلى توجيه نداء من أجل تلقي مساعدة وتخصيص موظفين آخرين للقيام بهذه المهمة.

كما يورد هذا الباحث قائمة جزئية من لائحة بأسماء عشرات أصحاب الكتب والأحياء التي كانوا يسكنون فيها، وهي تظهر في تقرير جرى رفعه إلى مديرية "دار الكتب الوطنيّة" في آذار/ مارس 1949 وتم حفظه في أرشيف الدولة. وتضم قائمة الباحث الأسماء التالية (طبقًا لنشرها في الأصل العبري): عجاج نويهض- البقعة؛ حنا سويدة- القطمون؛ خليل بيدس- البقعة؛ جورج سعيد- البقعة؛ ميخائيل قطان- البقعة؛ سليمان سعد- البقعة؛ عارف حكمت النشاشيبي- شارع سانت بول؛ جورج خماس- القطمون؛ خليل السكاكيني- القطمون؛ هنري قطان- البقعة؛ المحامي صايغ- المصرارة؛ يوسف هيكل- القطمون؛ توفيق الطيبي- القطمون؛ فرنسيس خياط- المصرارة؛ هاغوب مليكيان- الطالبية؛ أميليا صلاح- الحي الألماني؛ ص. ت. دجاني- حي السكة الحديد؛ س. أ. عواد- القطمون؛ فؤاد أبو رحمة- القطمون؛ ترجمان- شارع سانت بول؛ نيكولاس فرج- المصرارة؛ م. حنوش- الطالبية.

بإيجاز عن الصهيونية

والمدينة الفلسطينية

يمكن القول إن بحث عميت يشكل دليلًا إسرائيليًا مهمًا آخر على حقيقة ليست جديدة.

ومؤدى هذه الحقيقة هو أنّ غياب المدينة الفلسطينية كان فعلًا ناجمًا، في الأساس، عن عملية تغييب مخططة، منهجية ومدروسة، تعرضت لها هذه المدينة من طرف المشروع الاستعماري الصهيوني.

ولدى استرجاعنا بعضًا من وقائع التاريخ نجد أن نكبة عام 1948 أدّت، من ضمن بضعة أشياء، إلى تدمير القاعدة الحضرية/ المدينية للفلسطينيين. وما تزال الدراسات، التي تناولت بالرصد والتحليل مواقف الحركة الصهيونية واستعمارها الإحلالي إزاء المدينة الفلسطينية، قليلةً بعض الشيء. مع ذلك فنحن نعرف من خلال هذه الدراسات أنه عندما بدأ المشروع الصهيوني الإحلالي كان الشعب العربي الفلسطيني في خضم عملية تبلوره كشعب حديث في وطنه. صحيح أن المجتمع الفلسطيني في غالبيته كان مجتمعًا زراعيًا، لكن أنماط الاستثمار والتوظيف والمشاريع العامة، التي أدخلتها سلطات الانتداب البريطانية، ساهمت في تهيئة الأوضاع للتمايز الاجتماعي. كما أنها ساهمت في نشوء طبقات اجتماعية جديدة، على أساس نمط العلاقات الرأسمالية.

في بداية الانتداب البريطاني كانت المدن الفلسطينية تحتضن حوالي ربع السكان الفلسطينيين. وهذه النسبة زادت إلى حوالي 34 بالمئة لدى انتهاء فترة الانتداب. وبالمقارنة مع أقطار أخرى في الشرق الأوسط، فإن نسبة التمدين في أوساط المجتمع الفلسطيني كانت مرتفعة بشكل خاص. وأيضًا من الناحية التكنولوجية كانت فلسطين تعدّ من الأقطار المتقدمة في الشرق الأوسط (وهذا ما تدل عليه الإحصاءات أيضًا). والمدن الفلسطينية الكبرى (يافا وحيفا والقدس مثلًا) شهدت حركتها العامة تطورًا ليس فقط للتجارة والبنوك والصناعات الخفيفة والمواصلات والحركة النقابية، وإنما شهدت أيضًا تطورًا ملحوظًا للحياة الثقافية والاجتماعية المتنوعة. وهذا ما تمثل عليه مجموعة كبيرة من "المؤسسات الثقافية" الفاعلة، ومن بينها المسارح والفرق الفنية الأخرى.

وإذا ما وضعنا حتى هذه "المعطيات الباردة" أمامنا نستطيع أن ندرك أسباب عداء الحركة الصهيونية للمدينة الفلسطينية على وجه التحديد. هذا العداء تمّت ترجمته إلى تعبيرات نافذة في "حرب التقسيم". فإنّ المدن الفلسطينية احتلت وجرى "تطهيرها" قبل 15 أيار/ مايو 1948- التاريخ الرسمي لاندلاع حرب فلسطين. والجماهير الفلسطينية المدينية طردت في نيسان/ أبريل 1948. وعند انتهاء المعارك بقي في جميع المدن الفلسطينية أقل من نسبة خمسة بالمئة مما كان فيها من السكان. وهؤلاء كان القسم الأكبر منهم لاجئين من قرى المنطقة.

هكذا تتراءى أمام ناظرنا الصورة المزدوجة التالية، المتصلة مبنىً ومعنىً:

من جهة واحدة تم القضاء أو الإجهاز على المدينة الفلسطينية، بوصفها عاملًا مثورًا ونهضويًا متقدمًا، من الناحية القومية والثقافية كذلك.

ومن جهة أخرى جرت عملية ترييف- بالمفهوم الثقافي والاجتماعي- للمدن الفلسطينية الباقية داخل تخوم "الخط الأخضر" (وهذا ما يمثّل عليه، بشكل ساطع، نموذج مدينة الناصرة في الوقت الراهن).

ومع هذين الأمرين تمّ فرض حكم عسكري مشدّد على المجتمع الفلسطيني الباقي في حدود دولة إسرائيل، والذي أعيد القهقرى عدة أجيال.

وما ارتكبته السلطات الصهيونية بإزاء المدينة الفلسطينية، على مستوى الدلالات الثقافية، ارتكبته لاحقًا سلطات الدولة الإسرائيلية بإزاء المدن في الضفة الغربية بعد عدوان حزيران/ يونيو 1967، وفي الأساس تدمير البنية الحضرية للمدينة (إن القدس هي مثل واحد على ما أقصد).

بناء على ذلك فإن تغييب المدينة الفلسطينية أريد من ورائه تسديد طعنة نجلاء إلى بدايات مشروع الحداثة الفلسطينية.

تجدر الإشارة إلى أن الباحثة الفلسطينية د. منار حسن أنجزت أطروحة دكتوراه عنوانها "في حضرة المغيبات: الحاضرة (المدينة) الفلسطينية ونساؤها والحرب على الذاكرة".

ومما أكدته هذه الأطروحة أن المدينة الفلسطينية قد غيبت في حيزين: الحيز الجغرافي وحيز الذاكرة. وأشارت إلى أنه من بين إحدى عشرة مدينة فلسطينية، بينها ثلاث مدن مركزية، لم يبق في إثر نكبة 1948 إلا مدينة واحدة (الناصرة). وبعد تدمير المدن تمت عملية الترييف، الأمر الذي استأصل المدينة وأثر على النسيج الاجتماعي. وفقط في العقد الأخير من القرن العشرين الفائت، ونتيجة لتراكمات معينة، بدأت تظهر في داخل مناطق 1948 شرائح مدينية على هامش المدينة اليهودية، وأدت إلى حدوث تحولات اجتماعية، لكن هذه التحولات لا تلغي الحالة الوجودية المترتبة على غياب المدينة، وهي تشكل حالة فريدة في التاريخ الحديث.

من ناحية أخرى أكدت الأطروحة ذاتها أن المدينة هي عامل مهم في حدوث التغييرات، ففيها يتمّ نشوء القومية، وفيها تبدأ تحولات العلاقات الاجتماعية، فضلًا عن ازدهار ظواهر ثقافية أخرى كالفن التشكيلي والرواية.

وخلال عرضها لبعض جوانب المدينة الفلسطينية قبل 1948 أشارت حسن، مثلًا، إلى أن مجمل الصحف التي صدرت في فلسطين آنذاك كانت مئتين وست صحف، بالإضافة إلى دور السينما والمسارح والنوادي الثقافية، وداري إذاعة ومقاه ومراقص وحدائق عامة وكذلك نقابات عمالية وتنظيمات نسوية، وكل هذه اختفت تمامًا. كما أشارت إلى أن استحضار المدينة مهم لأن الحيز المديني برأيها هو عامل مؤسس للعديد من الظواهر الاجتماعية التي لا قبل للحيز الريفي بإنتاجها، وهذا ما يفسر كون وضع فلسطينيي 1948 متدنيا أكثر من العالم العربي أو المناطق الفلسطينية التي احتلت العام 1967 ولم تهدم مدنها بالكامل. وقالت أيضا إنه بسبب غياب المدينة فإن جزءًا من فلسطينيي 1948 تبنى كثيرا من الأساطير بشأن "تمدنه" بفضل إسرائيل (6).

وفيما يتعلق بالقدس، تحديدًا، فلعلّ أول ما يطالعنا، لدى الغوص على السيرورة السوسيولوجية لهذه المدينة من ناحية تاريخية تتوسل ضمن أمور أخرى بالوقائع ذاتها، هو أنها في بداية القرن العشرين وحتى العقد الثالث منه تظهر لنا، كمدينة، في إطار مختلف تمامًا عن ذلك المعهود لنا اليوم... تظهر لنا مدينة يطغى عليها الحراك الاجتماعي والتعددية الثقافية والتباينات الطائفية، مدينة تعيش نهاية عصر ما قبل الحداثة مع ظهور بعض العلائم التي تشير إلى بداية حبوها نحو الحداثة... مدينة حيّة، متصارعة، تتمايز بأحيائها وحاراتها وطوائفها، وتجمع بين سكانها في النهاية "انتماءات مشتركة إلى المدينة الدنيوية"، وفقًا لتعريفات عالم الاجتماع الفلسطيني د. سليم تماري (7). بينما المصير اللاحق للقدس، بتأثير الممارسات الصهيونية، سرعان ما قسمها إلى مدينتين، شرقية وغربية، عربية ويهودية، منقسمة قوميًا وموحدة عسكريًا.

وطغت على المدينة آنذاك ثقافة كوزموبوليتانية، ومثل هذه الثقافة نجدها، لا على سبيل الحصر، في العالم الفكري للكاتب والمفكر المقدسي خليل السكاكيني. كما نجدها في الكثير من الكتابات لمؤلفين عرب ويهود وإنكليز عايشوا حقبة الانتداب البريطانية أو استرجعوا طفولتهم فيها.

إن كل هذه الأمور شلّها "الجدل القومي"- الصهيوني تحديدًا- حول الهوية الدينية للمدينة وحول جغرافيتها المقدسة.

والتعبير الرائج اليوم حول "القدس الغربية" و"القدس الشرقية" هو تعبير إشكالي للغاية، إذ إنه يشير- حين يكون بالذات مخصوصًا بـ "القدس الغربية"- إلى حيّز جغرافي تكوّن فقط كنتيجة لرسم "خطوط الهدنة" في عام 1949. ولم يكن له وجود اجتماعي قبل ذلك. أما الأحياء العربية، التي أنشئت غربي المدينة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الفائت، فإنها كما هي الحال بالنسبة إلى امتدادات قرى عين كارم ولفتا والمالحة، لم تتبلور كجسم اجتماعي أو إداري مستقل خارج علاقتها الإدارية بالبناء الحضري للمدينة ككل، وخارج شبكة العلاقات الاقتصادية التي ربطت القدس بمدينتي حيفا ويافا.

وهنا ينبغي الانتباه إلى أنه قبل تكوين "القدس الغربية"، عملت المؤسسات الصهيونية على تقطيع أوصال المدينة:

 (*) أولًا- كما حدث في مدن وقرى الساحل الفلسطيني قامت القوات اليهودية، في عام 1948، بإجلاء كل السكان العرب عن الضواحي الغربية والقرى وطردتهم شرقًا. وفي الجانب الآخر، وضمن عملية اقتصرت على بضع مئات من السكان اليهود، تم إجلاء القاطنين في الحي اليهودي إلى الجانب الإسرائيلي. بعد ذلك أصبحت "خطوط الهدنة"، وللمرة الأولى في التاريخ الحديث لمدينة القدس، هي الحدود الفاصلة بين التجمعات الإثنية- حدود العرب واليهود.

 (*) ثانيًا- في صلب هذا الصراع الإقليمي على القدس كانت تقف دائمًا قضية تنظيم الأراضي وترسيم حدود البلدية في فترة الانتداب البريطاني. وبينما شكل الفلسطينيون العرب، من مسلمين ومسيحيين، أغلبية في لواء القدس كوحدة تشمل القرى والبلدات المحيطة بالمدينة، استطاع اليهود أن يصبحوا أغلبية السكان داخل حدود البلدية (في عام 1947 بلغ عدد السكان: 99.4 ألف يهودي في مقابل 65.1 ألف عربي).

لكن أحد المؤرخين البريطانيين (مايكل دمبر) راجع الأدبيات الديموغرافية لفترة الانتداب، وتوصل إلى تفسيرين لهذا التمايز في نسب السكان:

التفسير الأول- أن الإحصاءات الانتدابية اعتادت احتساب المهاجرين اليهود، الذين وصلوا إلى القدس قبل عام 1946 ثم انتقلوا بعدها إلى تل أبيب ومناطق أخرى، كما لو أنهم باقون في القدس.

التفسير الثاني: أن هذه الإحصاءات استثنت من سكان القدس (داخل الحدود البلدية) سكان الأرياف المحيطة بالقدس، الذين يعملون في المدينة بينما احتسبت، في الوقت ذاته، السكان اليهود الذين يسكنون خارج حدود البلدية على أنهم من سكان المدينة. وهي عملية التفافية مشوهّة يسميها دمبر "الإحصاء الديموغرافي الهيكلي" (8)!

غير أن عملية الدمج والاستثناء الانتقائية للأحياء لم تكن العامل الحاسم في التمييز بين تنظيم الحارات اليهودية والعربية في فترة الانتداب. والعنصر الأهم نجده في طريقة تنظيم الأحياء. فمؤسسات الييشوف اليهودي (المجتمع اليهودي في فلسطين في إبان فترة الانتداب) كانت حريصة على تنظيم الأحياء اليهودية الجديدة داخل حدود البلدية في المنطقة الغربية والشمالية الغربية للمدينة. وكانت تخطط لهذه الأحياء مسبقًا عن طريق مخططات هيكلية مدروسة قبل تطبيقها، وهذا في مقابل أنماط البناء غير المنظم والمقام بمبادرات فردية وعائلية في الأحياء العربية الحديثة.

القدس في مرآة

اليهودية والحركة الصهيونية

ترى إحدى الدراسات الإسرائيلية الأخيرة عن القدس (9) أنها "المركز السياسي- الديني الأهم للشعب اليهودي، على مرّ التاريخ". وبناء على ذلك فإن اشتقاق اسم "الحركة الصهيونية" (التي تعني في قراءة هذه الدراسات "حركة تجديد الانبعاث القومي" لهذا الشعب) من صهيون، وهو اسم آخر للقدس في المراجع الدينية اليهودية، لم يكن من قبيل المصادفة.

وما يمكن استشفافه من هذه الدراسة ومن غيرها، في ما يتعلق بـ "الأهمية الدينية اليهودية" للقدس، هو ما يلي:

أولًا- أن الحرم القدسي الشريف، والذي تطلق عليه هذه الدراسات اسم "جبل الهيكل"، هو "الموقع اليهودي الأكثر قداسة" في القدس؛

ثانيًا- أن الصلة اليهودية بالقدس ليست مقتصرة على "جبل الهيكل"، وإنما تنسحب أيضًا على المدينة القديمة برمتها.

من ناحية مقابلة، ومضادة، فإن هذه الدراسات تحاول أن تعزو إلى الإسلام "نظرة انتقائية" إزاء القدس تتميز باعتبارها "مدينة هامشية" من الناحية الدينية، وبأن المكانة الخاصة للقدس في الإسلام مرتبطة، أكثر شيء، بعلاقتها مع الأنبياء والرسل الذين سبقوا الدين الإسلامي، وورد ذكرهم في القرآن الكريم، مثل داود وسليمان وعيسى.

أمّا البراهين الأساسية والأكثر تداولًا، التي توردها هذه الدراسات، لإثبات المكانة الهامشية للقدس في الإسلام فهي:

أولًا- أن القيود الشديدة في الشريعة الإسلامية، التي تنطبق على أي منطقة تعتبر حرمًا، على غرار الأراضي الحجازية المقدسة، لا تنطبق على القدس. ومن هذه القيود مثلًا أنه لا يجوز لغير المسلمين زيارة مكة المكرمة، لكن يُسمح لهؤلاء بزيارة مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى في القدس؛

ثانيًا- أن ركن الحجّ، باعتباره أحد الأركان الخمسة في الإسلام، ينطبق على مكة المكرمة فقط ولا ينطبق على القدس. أمّا المصطلح المتداول المتعلق بالذهاب إلى القدس لأداء الشعائر الدينية فهو "الزيارة"؛

ثالثًا- أن الصلوات الإسلامية اليومية لا تتضمن أي ذكر للقدس، كما أن صلوات العيد خالية من ذكر القدس.

(افتح هنا قوسًا كي أشير إلى أن الغاية الرئيسية لهذه المداخلة هي إيراد الادعاءات الإسرائيلية والإحالة إلى دلالاتها، أكثر من الاستغراق في تفنيدهـا، الذي يستلزم تبحرًا في الإسلام وشريعته ليس في إمكاني أن أزعمـه).

من ناحية أخرى فإن بعض هذه الدراسات (دراسة دوري غولد مثلًا) تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وتؤكد أن مكانة القدس الدينية الخاصة أو المركزية في الإسلام كان مصدرها مرجعيات إسلامية قريبة منها جغرافيًا وحسب. ومن هذه المرجعيات، على سبيل المثال، الخلافة الأموية، التي اتخذت من دمشق مركزًا لها، وأولت القدس اهتمامًا دينيًا خاصًا بسبب المنافسة التي كانت قائمة بينها وبين مكة، بل إن بعض الخلفاء الأمويين اعتبر القدس بمثابة محجّ رئيسي بالتزامن مع اختيار عبد الله بن الزبير خليفة للمسلمين، خلافًا لرغبة الخلافة الأموية، وقيامه بالسيطرة على مكة في سنة 683 م. وتشير هذه الدراسات إلى أنه من الناحية العملية فإن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (685- 705 م) هو الذي شيّد، في سنة 691 م، قبة الصخرة، وأعلن أنها بديل من الكعبة المشرّفة في مكة، غير أن إعلانه هذا ألغي بعد عام واحد في إثر سيطرة الأمويين على مكة. كما أن الكاتب نفسه يدعي أن القدس لم تكن في صلب الوعي الديني الإسلامي على نحو دائم، وخصوصًا في فترة الخلافة العباسية، التي اتخذت من بغداد مركزًا لها، والتي حلت محل الخلافة الأموية، بدءًا من سنة 750 م. فضلًا عن ذلك فإن الخليفة العباسيّ الأشهر هارون الرشيد، الذي درج على الحجّ إلى مكة مرة كل عامين، لم يقم بزيارة القدس مطلقًا، على الرغم من وصوله إلى سورية لخوض حروب مع البيزنطيين. كذلك فإن خليفته المأمون وسائر الخلفاء العباسيين لم يزوروا القدس على الإطلاق (10).

أمّا الرواية التاريخية بشأن القدس منذ نشوء "الحركة الصهيونية" وحتى الآن، فإنها تبدأ في هذه الدراسات، كما سبق التنويه بذلك، من إيلاء أهمية كبيرة إلى تسمية تلك الحركة بأحد أسماء القدس- صهيون، وتستمر على النحو التالي: حتى قيام دولة إسرائيل أقامت في القدس مجموعة سكانية يهودية وأقيمت فيها مؤسسات قومية والجامعة العبرية ونشط فيها أدباء ورجال فكر كثيرون. وفي عام 1947 كانت تعيش في القدس أكثرية يهودية تعدادها نحو مئة ألف نسمة. وفي أعقاب ضغوط سياسية دولية وكذلك الرغبة في تسريع إنشاء الدولة اليهودية، قررت قيادة الحركة الصهيونية الموافقة على مشروع التقسيم الذي طرحته الأمم المتحدة (القرار رقم 181 الصادر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947)، على الرغم من أن هذا القرار أبقى القدس خارج حدود الدولة اليهودية، وهيأها لتكون كيانا منفصلا تحت إشراف دولي. غير أن الحرب التي بدأ الفلسطينيون والدول العربية بشنها، والتي كانت تهدف من وجهة نظر الصهيونية إلى منع تطبيق قرار التقسيم، وصلت حتى القدس. وقد احتل الجيش الأردني الشطر الشرقي فيما احتلت القوات اليهودية الشطر الغربي. وفي الخامس من كانون الأول/ ديسمبر 1949 قرر الكنيست الإسرائيلي، برغم الانتقادات الدولية الكثيرة، أن تكون القدس عاصمة إسرائيل. وانتقلت مكاتب الحكومة والكنيست نفسه إلى القدس، التي كانت في حينه مدينة حدودية. وقال أول رئيس لحكومة إسرائيل دافيد بن غوريون في خطاب الإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل:

"نرى لزامًا علينا أن نعلن أن القدس اليهودية هي جزء عضوي ولا يتجزأ من دولة إسرائيل- مثلما هي جزء لا يتجزأ من التاريخ الإسرائيلي، ومن إيمان إسرائيل ومن روح شعبنا. إن القدس هي قلب دولة إسرائيل. إننا فخورون بأن القدس مقدسة لدى الديانات الأخرى، وبرغبة ونفس عازمة فإننا سنضمن جميع الترتيبات والتسهيلات اللازمة ليتمكن جميع أبناء الديانات الأخرى من التزود باحتياجاتهم الدينية في القدس، وسنقدم من جانبنا كل المساعدة إلى الأمم المتحدة لضمان هذه الترتيبات".

وبعد تسعة عشر عاما، كانت القدس خلالها مقسمة بين المملكة الأردنية الهاشمية وإسرائيل، احتل الجيش الإسرائيلي، خلال "حرب الأيام الستة" (5 - 10 حزيران/ يونيو 1967) القدس العربية (6/6/1967)، سوية مع بقية مناطق الضفة الغربية. وبعد يوم واحد من انتهاء تلك الحرب قررت الحكومة الإسرائيلية مبدئيا توحيد شرق المدينة مع غربها. وكان المعنى الفعلي لذلك هو ضم القدس الشرقية إلى دولة إسرائيل. وفي 18 حزيران/ يونيو أقرت الحكومة الحدود الجديدة في شمال المدينة وجنوبها وشرقها، ووسعت بموجب أمر خاص سريان مفعول القانون الإسرائيلي ليشمل شرق المدينة. وفي 27 حزيران/ يونيو صادقت الهيئة العامة للكنيست على توسيع حدود المدينة. وفي 28 حزيران تمّت إزالة الحواجز بين شطري المدينة.

وقد امتدت مساحة القدس حتى ذلك الحين على ثمانية وثلاثين كيلومترًا مربعًا. وبعد توحيدها، تمت إضافة حوالي ستة كيلومترات مربعة شكلت مساحة القدس الشرقية، بالإضافة إلى أربعة وستين كيلومترًا مربعًا شملت بلدات وقرى تحدّ القدس. وهكذا نشأت منطقة النفوذ الموسعة للقدس. وفي ذلك الوقت اعتبر معظم سكان إسرائيل اليهود أن توحيد شطري المدينة هو "عملية طبيعية وعادلة".

وأضيفت إلى التسويغات التاريخية والدينية والحسية تسويغات استندت إلى القانون الدولي؛ بداية، ادعت إسرائيل أن "السيطرة الأردنية" على القدس كانت تفتقر إلى أساس قانوني. وكما هو مذكور أعلاه، فإنه بموجب قرار الأمم المتحدة من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 كان يفترض أن تكون القدس مدينة تحت إشراف الأمم المتحدة يعيش فيها جنبا إلى جنب اليهود والعرب وأبناء جميع الديانات. وفقط العدوان العربي في عام 1948 أدى إلى أن يحتل الجيش الإسرائيلي قسما من القدس وأن يحتل الأردن القسم الآخر. هذا العدوان- الذي شارك فيه عرب فلسطين أيضًا- لم يجعل الجانب العربي يتمتع بمكانة قانونية في القدس. من جهة أخرى، حسبما يضيف الادعاء الإسرائيلي، فقد ألغى العدوان العربي سريان مفعول قرار الأمم المتحدة بإنشاء نظام دولي خاضع لها في القدس، وهو أصلا كان توصية فحسب، ولم ينفذ المجتمع الدولي أي خطوة لتطبيق القرار. بكلمات أخرى: السيطرة الأردنية على المنطقة لم تكن قانونية ولم يعترف المجتمع الدولي بها، وفقد الأردن مكانته في هذه المنطقة بفعل الاحتلال في 1948، وذلك من جراء عدوانيته في 1967.

ثمة ادعاء إسرائيلي آخر، هو أن الأردن هدم جميع الكُنس اليهودية في القدس القديمة وطرد اليهود الذي عاشوا في المدينة (كما أن الجالية المسيحية في القدس تقلصت إلى أقل من النصف خلال الحكم الأردني)، الأمر الذي يثبت أن "المسلمين لا يملكون القدرة ولا الحق في أن يكونوا حكاما على المدينة المقدسة". من جهة أخرى أكدت إسرائيل أنها تمنح حرية العبادة للسكان المسيحيين والمسلمين في المدينة، وتحافظ على أماكنهم المقدسة. وتمثل الاستنتاج الإسرائيلي من كل ما قيل أعلاه في أن "إسرائيل هي الوحيدة القادرة والمستعدة للحفاظ على القدس كمدينة مفتوحة من الناحيتين الدينية والثقافية"!

أمّا المفهوم السياسي الذي يرى في القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل فقد تم إرساؤه في القانون، الذي سنّه الكنيست في عام 1980، عندما كان مناحيم بيغن رئيسا للحكومة الإسرائيلية، وهو "قانون أساس: القدس". وينص البند الأول لهذا القانون على أن "القدس الكاملة والموحدة هي عاصمة إسرائيل". وينص البند الثاني للقانون على أن مؤسسات الحكم التابعة للدولة تكون في المدينة. ويعود البند الثالث ليشدّد على حرية التوجه وحرية العبادة لأبناء جميع الديانات في القدس. ويقضي بند خاص أضيف إلى القانون في عام 2000 بأنه لا يجوز نقل صلاحيات سلطوية في المدينة- بحدودها الموسعة التي تم رسمها بعد 1967 - إلى أي جهة أجنبية من دون أن يسن الكنيست قانونا جديدا. وكان الهدف من وراء هذه الإضافة هو تقليص حيّز نشاط الطواقم الإسرائيلية، التي تفاوضت في تلك الفترة مع الفلسطينيين.

 

الهوامش:

1- ميرون رابابورت: عملية تفجير المساجد، هآرتس، 6 تموز/ يوليو 2007

2 Raz Kletter: Just Past? The Making of Israeli Archaeology, Equinox – London, 2006, 362 pp.

3- المصدر السابق.

4- غيش عميت: "جمعت دار الكتب القومية خلال الحرب عشرات آلاف الكتب المهجورة. إننا نشكر أفراد الجيش على المودة والتفاهم اللذين يبدونهما في هذا الشأن"، مجلة ميتاعم، عدد 8، كانون الأول/ ديسمبر 2006

5- يقصد هذا الباحث، على نحو خاص، الدراسات التي أنجزها عدد من الباحثين الإسرائيليين المعدودين على تيار تاريخي نقدي أطلق على المنضوين تحت كنفه اسم "المؤرخين الجدد".

6- يمكن الاطلاع على فصل من هذه الأطروحة في مجلة "نظرية ونقد" الفصلية الإسرائيلية الصادرة عن "معهد فان لير للدراسات" في القدس، عدد 27، خريف 2005

7- سليم تماري: "القدس 1948- المدينة المهجرة"، مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 10، عدد 38، ربيع 1999

8- مايكل دمبر: "الاستيطان اليهودي في القدس القديمة"، مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 2، عدد 8، خريف 1991. وقد صدر لهذا الباحث، في عام 2002، كتاب بعنوان "في سياسة المقدسات: القدس القديمة والصراع في الشرق الأوسط". وكانت صدرت له عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في عام 1992، ترجمة عربية لكتابه "سياسة إسرائيل تجاه الأوقاف الإسلامية في فلسطين (1948- 1988)". ويعرض دمبر في الفصل الثالث من الكتاب الأول لنشوء المجتمع اليهودي في القدس وتطوره، ففي منتصف القرن التاسع عشر كان هناك مجتمع يهودي صغير يجري تصريف الكثير من شؤونه بواسطة المحكمة الشرعية الإسلامية، ويعتمد في حياته على الدعم والتبرعات القادمة من الخارج، حيث لم يكن يعمل من يهود القدس سوى نحو عشرة بالمئة بينما يعتمد الباقون على التبرعات التي سرعان ما تحولت مع تزايد المهاجرين اليهود إلى مصدر شقاق وخلاف بين اليهود الشرقيين والغربيين، وبينما كان اليهود الشرقيون مواطنين في الدولة العثمانية لهم وضع قانوني مختلف عن الوافدين ويحظون بتمثيل رسمي أمام أجهزة الدولة فإن اليهود الغربيين حاولوا الاستعاضة عن ذلك بالحصول على دعم من قناصل الدول الأجنبية. واستمر نمو عدد اليهود في القدس حتى وصل مع نهاية القرن التاسع عشر إلى نحو نصف عدد سكان المدينة القديمة، ولكن بسبب عدم ميلهم للعمل والإنتاج كانوا يعيشون على أقل من سدس المدينة. ومع بدايات القرن العشرين زاد ميلهم للعيش في أحياء المسلمين لحل مشكلة الاكتظاظ، ولكن ذلك الاتجاه سرعان ما انتهى مع مواجهات حائط البراق عام 1929. ومع حرب عام 1948 سكن العديد من اللاجئين الفلسطينيين، ولا سيما من سكان القدس الغربية أصلا التي أصبحت تحت الاحتلال الإسرائيلي، في بيوت حارة اليهود التي انتقل سكانها بدورهم للقدس الغربية. وبعد عام 1967 أزال اليهود عدة حارات في القدس القديمة مثل حارة المغاربة وحارة أبو السعود القريبة من الحائط الغربي للحرم الشريف، ووسعت حارة اليهود على حساب مصادرة أملاك العرب فأصبحت نحو سبعمئة مبنى، ولم يكن اليهود قبل عام 1948 يمتلكون سوى نحو مئة وخمسة مبان منها. (كامبردج بوك ريفيوز: القدس القديمة والصراع في الشرق الأوسط، موقع الجزيرة نت، 3/10/2004).

9- منها مثلًا: د. دوري غولد: "المعركة السياسية على القدس"، إصدار يديعوت أحرونوت، 2008؛ د. هيلل كوهين: "ساحة السوق خالية- صعود القدس العربية وسقوطها 1967- 2007"، إصدار معهد القدس للدراسات الإسرائيلية، 2007

10- د. دوري غولد، المصدر السابق.

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.