}

ثورة شعب: انتفاضة 87 الفلسطينية ومجتمع دولة الاحتلال (2-2)

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 27 نوفمبر 2017
استعادات ثورة شعب: انتفاضة 87 الفلسطينية ومجتمع دولة الاحتلال (2-2)
لوحة للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط

تمهيد

مع الاقتراب من الذكرى السنوية الثلاثين للانتفاضة الفلسطينية الأولى في الأراضي المحتلة منذ 1967، نستعيد مقالات كُتبت بعد انقضاء العامين الأول والثاني على تلك الانتفاضة التي انفجرت في كانون الأول/ ديسمبر 1987، وسعت في ذلك الوقت للوقوف على معناها في الحقل الثقافيّ، ولا سيما حيال أعمال المقاومة وإيصال رسالة الحرية التي ينشدها الفلسطينيون إلى أصقاع العالم.

وفي هذا المجال جرى التركيز بشكل خاص على الحقل الثقافي داخل مجتمع دولة الاحتلال الصهيونية، وأساسًا على كيفية انعكاس كل حدث عليه وعلى جوهر صراعه مع الشعب الفلسطيني وعلى الرواية المُعتمدة من طرفه لجذور هذا الصراع وصيرورته.

وخلصت تلك المقالات في حينه إلى أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى تركت بصمات واضحة على هذا المجتمع، لكنها سرعان ما تلاشت رويدًا رويدًا عقب ما يسمى بـ"عملية السلام" التي أفضت إليها لأسباب يطول شرحها، منها ما هو مرتبط بدولة الاحتلال ومنها ما هو متعلق بأداء الفلسطينيين وقياداتهم.

ومثلما أشرنا، ضمن معالجة سابقة، اندلعت هذه الانتفاضة بعد أكثر من خمسة أعوام على انتهاء الحرب الإسرائيلية في لبنان (1982)، ووفقًا لعدة مصادر فلسطينية إذا كانت هذه الحرب أظهرت للإسرائيليين شجاعة الفلسطينيين في لبنان وصمودهم في مواجهة جيش يفوق قدراتهم الذاتية عددًا وعدّة وخبرةً، فهي لم تطرح عليهم مشكلة الفلسطينيين في الخارج. وهذه مشكلة رأت إسرائيل في النهاية أنها "غير معنية بها" إلا بمقدار ما يقوم هؤلاء الفلسطينيون بإزعاجها مباشرة. وأمام الرأي العام العالمي كان بإمكانها أن تقول إن الفلسطينيين في لبنان هم في بلد ليس لهم وأن تضيف أيضًا، لصبّ الزيت على النار، بأنهم أحد أسباب مشكلة لبنان وحربها الأهلية بل هم سببها الرئيس أو حتى الوحيد. وانتهت الحرب، من وجهة النظر الإسرائيلية، بإظهار كون المشكلة في هذا البلد لبنانية أولًا، وثانيًا مشكلة شبكة واسعة من التدخلات والتأثيرات والصراعات الإقليمية والدولية التي تستند إلى المشكلة الداخلية وتستغلها أو تستفيد منها. في المقابل وبعد النهاية القاتمة لحرب 1982، حسمت الانتفاضة مسألة الصراع مع الفلسطينيين بكونها صراعًا "بين مجتمعين على قطعة الأرض ذاتها وعلى الشرعية"، كما كتب أحد الأساتذة الأكاديميين الإسرائيليين في تشرين الأول/ أكتوبر 1988، أي بعد أقل من عام على اندلاعها، مضيفًا أنه منذ عام 1967 عاد الصراع ليكون بصورة مباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين؛ وهو صراع مختلف تمامًا عن الصراع مع الدول العربية. فهذا الأخير كان في صلبه صراع مصالح مثله مثل أي صراع بين دولتين لا بين مجتمعات.

ولدى العودة إلى ما كُتب من مقاربات عديدة على هذا الغرار أثناء تلك الفترة، نتوصل إلى أول استنتاج، وفحواه أن الانتفاضة الأولى أظهرت كونها ثورة شعب على أرضه، ثورة شعب حُرم من حقوقه السياسية والمدنية واحتلت أرضه وجرت عليها محاولات لدوس كرامته ومُنع عنه الحق المُعترف به لشعوب العالم- حق تقرير المصير.

 ثاني استنتاج يرتبط بإطلاق الانتفاضة سيلًا من كتابات إسرائيلية تشكل في التحصيل النهائي ممارسة ثقافية خارج مجال الخضوع والإذعان لرواية الاحتلال.

وهذا السيل اتخذ، كما ستلاحظون، منحيين متصلين:

الأول، منحى قراءة الواقع الفلسطيني عبر رؤية مُستبصرة ووعي بإزاء عدة حقائق ترجع صدقيتها الأساس إلى كونها قائمة فعلًا.

الثاني، منحى إعادة استقراء تاريخ الحركة الصهيونية منذ نشوئها وما زرعته من بذور سوء تُعتبر مرجعًا ومتكأ لفهم التاريخ المعاصر وللإطلالة على المستقبل، انطلاقًا من أن ما يحدث مشدود بكل قوة إلى الماضي الذي لا يُعدّ، بحال من الأحوال، مجرّد ذكرى أو عبرة من تاريخ بعيد إنما هو استمرار يتظاهر في الحاضر. وأي تراخ في هذا الشدّ إلى ذلك الماضي يجعل التاريخ يستنقع في حركيّة راكدة.

ومن أبرز النماذج الدالة على ذلك ما كتبه الشاعر حاييم غوري، وهو المعروف بأنه من أشدّ دعاة وأنصار "أرض إسرائيل الكبرى"، بأن "المشكلة السياسية الراهنة وانزلاق المجتمع الإسرائيلي إلى حضيض فقدان المشاعر هما النتيجة (الحتميّـة) للسيطرة على شعب آخر". كذلك كتب الأديب المعروف يزهار سميلانسكي (س. يزهار) أن ما يحدث في أراضي 1967 ليس "أعمال شغب" إنما "ثورة شعب"، وأن من الحجارة ومن أنهار الفتيان يتكون شيء ما عظيم وبسيط وإنساني.

على أن أهم ما ترتّب على هذا المنحى الثاني هو إعادة التفكير بـ"فكرة إسرائيل" من طريق دحض رأي شائع يقول إنّ "مشكلات الحركة الصهيونية بدأت مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في عام 1967"، بموازاة توكيد الطابع الكولونيالي لهذه الحركة وأنها وُلدت من رحمه وبقي ملازمًا لها مثل ظلّها الذي يستحيل الافتراق عنه... وهذا هو ما تعيد إثباته يومًا يومًا.

هنا القسم الثاني والأخير:

نصوص أدبية

تستقرئ التاريخ

ثمة نصوص أدبية إسرائيلية يطغى عليها أيضًا منهج إعادة استقراء التاريخ. وهذه النصوص تعبّر، بالنظر إلى واقع الوثيقة الأدبية الإسرائيلية، عن قرب كتّابها من واقعهم وعيشهم في صميم اهتمامات الناس وتعبيرهم بقلمهم ونتاجهم عن تساؤلاتها المحرقة.

في طليعة هذه النصوص رواية بعنوان "قصة حب روسية" للكاتب مئير شاليف (صدرت عام 1988 عن دار "عام عوفيد") اعتبرها النقّاد الرواية الإسرائيلية الأولى المناهضة للصهيونية (1). وتخلص هذه الرواية (نُشرت بالإنكليزية عام 1991 تحت عنوان "الجبل الأزرق") لجوّ "المحاسبة القومية" مع الصهيونية من أجل أن تحققه. وتعتبر رواية كاشفة للوضع الاجتماعي من جهة، وتعبيرًا فنيًا عنه من جهة أخرى. وإنّ شكل التعبير الفني عن ذلك الوضع الاجتماعي ينمي حالة يسخن معها فائض السخط وتساعد على تعميق الاغتراب مع حاضر بائس قائم على ماض أشد بؤسًا من خلال تعرية هذا الحاضر والدفع باتجاه الصدام معه.

ترمز "قصة حب روسية"، في أكثر من موقع وعبر أكثر من حادث، إلى أنّ افتراضات الصهيونية كانت، منذ وجدت، مضللة وكاذبة ولهذا يعلن أحد أبطالها: "مع اقتلاع النبات الشيطاني وتجفيف المستنقع زرعنا الفشل أيضًا!" (ص 257 من الرواية).

في صلب تلك الافتراضات الكاذبة، التي توردها الرواية، الادعاء بأحقيّة اليهود على فلسطين، الذي تفنده شخصية "بينيس" من خلال اكتشافها بأنّ "اليهود هم جزء من قائمة عاشقين طويلة لهذا البلد ولا يملكون حقوقًا فيها أكبر من حقوق الآخرين". ويمضي هذا التفنيد في سياق متنام حتى يصل إلى رفض الافتراض الأساس للصهيونية بشأن وجود "رابطة متميّزة بين شعب إسرائيل وبين أرض إسرائيل".

لا تكتفي الرواية بهذا القول السياسي المباشر بل تنتقل إلى المقارنة بين ما كان، وبين ما كان مفروضًا أن يكون، وفق السيناريو الصهيوني الجاهز، من خلال تبيان الحياة النقيضة للحياة "الموعودة"، التي أصبحت من نصيب الجماهير اليهودية "الصاعدة" إلى إسرائيل.

"لقد نقلتنا الصهيونية - يقول أحد أبطال الرواية- من وضعية غير طبيعية إلى شكل آخر من الوضعية غير الطبيعية. وكان مجرّد الافتراض بأن الصهيونية ستنجح في أن تعيد لنا الوضعية الطبيعية التي افتقدناها في الشتات المستمر خاطئًا من أساسه".

إذا ما شئنا اختصار مواصفات هذه الرواية الطويلة (394 صفحة من القطع الصغير) نقول إنّها، علاوة على رؤيتها المغايرة في قراءة التاريخ السياسي للحركة الصهيونية، تحفل بلغة أدبية جديدة لا تتوقف عندها.

هذه "اللغة الأدبية الجديدة" وجدت تعبيرًا عنها في عدد من المؤلفات الأدبية التي تزامن صدورها مع انتفاضة 1987 الفلسطينية المستمرة وتبرز بينها الأعمال التالية:

v    "شهيد"- تأليف آفي فلانتين (إصدار "عام عوفيد").

v    "أساطير الانتفاضة"- تأليف درور غرين (إصدار منشورات "إيخوت").

v    "شعوذات"- تأليف يتسحاق بن نير (إصدار "كيتر").

v    "السياج"، حكاية للفتيان- تأليف باروخ تور- راز (إصدار "شوكن").

إنّ الجدة في هذه اللغة الأدبية يمكن إجمالها في الأمور التالية:

أولًا: طغيان ملمح إنساني مُعيّن في التعامل مع الشخصية العربية، لم يكن حضوره قويًا في القصّ الإسرائيلي المعاصر من قبل. وهذا الملمح يقود أصحابه إلى عدم الاستسلام لمنطق الحكاية الخارجي، الجاهز عادة، وإنما النظر إليه عن كثب، من مسافة جد قريبة، وإعادة بنائه حسب منطق جديد- منطق داخلي يستتبع رؤية الكاتب ورؤياه ونمو الشخصيات وخصوصيتها. وإذا كانت المفاهيم العنصرية والنظرة الاستعلائية الفظة مميزة، بشكل يثقب العين، لأشكال الكتابة الأدبية الوحشية السابقة فإن التخلي عن تلك النظرة والمفاهيم، في هذه النتاجات، كان من باب تحصيل الحاصل. وإذا كان اليهودي النمطي يتنفّس هواء "من طراز آخر" فإن العربي النمطي يتنفس الهواء نفسه ويسعل من الغبار نفسه بشكل لا يجعله من ذلك الأول حدًا ناقصًا.

ثانيًا: اختزال "البعد الموهوم" بين المسافة، التي ينظر منها الكاتب، وبين منطق الواقع لأنّ الواقع ذاته يظل أكثر تماسكًا واتساقًا ويظل الأدباء جزءًا لصيقًا منه، حتى لو لم يذوبوا في تفصيلاته الدقيقة. وهذا الاختزال يبقى وحده الذي يستطيع أن يعطي للأديب والفنان حقه من التحقّق ومن الخصوصية ويسمح له بأن لا يكون مجرّد بوق يردد الشعارات والمسلمات الصنمية، التي يحاول الفكر الصهيوني إدراج الأدب في غياهب شرنقتها.

ثالثًا: الاستغراق كثيرًا في اتجاه تصوير حالة من "الحصار الداخلي" تطغى على الأديب الإسرائيلي تحت وطأة شعور بالغربة يراد منه الإيحاء برفض الواقع القائم سعيًا وراء تغييره. غير أن هموم النتاجات الأدبية، التي تأخذ منحى هذا الاستغراق، تظل أكبر بكثير من الانغلاق حول التداعيات الداخلية. كما أنّها أكبر بكثير من مجرّد تنميط الواقع ونمذجته. فمن تحت ركام هذا "الحصار الداخلي" يقدّم أدباء "اللغة الجديدة"، بمنطق مبسّط، عالمًا قابلًا للانفتاح على أشواق الإنسان الروحية التي فيها يمكن الانعتاق. وليس بإمكاننا الزعم أن هموم ذلك "الحصار الداخلي"، برغم غرابتها بعض الشيء، بعيدة عن هموم الواقع الإسرائيلي المعاصر، على الأقل لدى شرائح معيّنة منه.

كما أنه ليس بإمكاننا أن ننفي عن نتاجات "اللغة الأدبية الجديدة" دورها الحياتي الواضح بل والمباشر في بعض الأحيان. فهي تشقّ طريقها، بصعوبة، من أجل أن ترى الجوانب الكامنة في الإنسان الفلسطيني فيما تعتقد أنّه سلب وأنّه إيجاب. وإذا ما اقتصر مسعاها وخصوصيتها- في ذلك الوقت على مجرّد كونها تحبو وراء كشف جسد الواقع بكل نتوءاته وتضاريسه وما وراءها أيضًا فعلينا أن ننظر إلى حبوها هذا باكتفاء.

و"الحصار الداخلي"، الذي أسلفت الإشارة إليه كإرث يستتبع إجراء محاسبة معمقّة، يأخذ شكل الانكفاء على الذات والانتقاد الذاتي القاسي لدى الشاعر الإسرائيلي دان شفيط. فهذا الشاعر أصدر، عام 1989، كتابًا نثريًا بعنوان "شاعر ينوي أن ينتحر" ينتقد فيه، بلهجة لاسعة، جمهرة الشعراء والكتّاب والصحافيين الإسرائيليين الذين لا تصدق أقوالهم على أفعالهم في مجال الكلام المكتوب، وبخاصة إخفاقهم في الخروج من "سطوة" التبشير من فوق، من الأبراج العاجيّة، لتأجيج ظواهر تحدي مناخ التساهل والتراخي مع طغيان القوّة والوحشية.

إن الشاعر داخل دان شفيط، كما هو جليّ في كتابه، يساوره شعور مبهظ بأنّ الكلمة لم يعد أصحابها من الإسرائيليين يتعاملون معها تعامل العارف لقيمتها وفعاليتها في التأثير والتثوير والتغيير. فماذا بإمكان الشعر أن يفعل خلال ذلك؟ وانتقاد شفيط أو محاسبته العسيرة لا تنصب على الشعر، كلمات وشعورًا، بل على الشعراء الإسرائيليين الذين انصرفوا - برأيه- عن الفعل إلى مجرّد القول. ولهذا يصعب القول إنّ الإنسان داخل هذا الشاعر هو الذي ينوي أن ينتحر بل على العكس. وفي هذا المعنى بالذات، يلج شفيط جوهر لعبة يمكن أن نسميها "مواجهة النفس بانتحار الموهبة". ورغم ما يحيط هذه العملية من عبثية مؤلمة إلى أقصى حد، ورغم ما فيها من اليأس الكثير، إلاّ أن إسنادها بما هو حاصل في الواقع من وقائع يجعل صراخ "فراغ" موهبته صرخة حرّى من أجل الخلاص الإنساني.

ولعلّ هذه الإشكالية المعقدة، التي يمثل عليها هذا الشاعر، هي التي تطرح ضرورة مسألة معنى الثقافة في ظروف الأزمة. فإن كان السعي إلى الخلاص كمفهوم نظري وعملي لا ينفصل عن الأزمة، فإن الثقافة ليست أكثر من الفعل النظري والفعل العملي المقاتل من أجل الخلاص، في الوقت نفسه. بهذا المعنى، وانطلاقًا منه، ينكسر التصوّر "التقني" لمفهوم الثقافة الذي يبدأ بمقولة "قل كلمتك وامش" لينتهي إلى حالة من السكون والمراوحة. وتصبح اعترافات شفيط حاملة صورة صحيحة للهامش العملي الذي يعيشه المثقف الإسرائيلي في صيرورته الراهنة، في انتمائه الملتبس إلى الواقع وفي لا انتمائه. ومثل "الانتحار" الذي يبشر به، لا يصرف القلق عنه بل هو يركّز القلق ضمن دوامة يتحرر معها صاحبها من أسر "السحر" الكامن في الكلمة المكتوبة التي لا تمارس أدنى فعل. وعليه فإن التظاهر والاحتجاج الرافض لما هو سائد يشكلان ممارسة ثقافية خارج مجال الخضوع والإذعان.

ثمّة مسألة أخرى لا تقل أهمية يتناولها هذا الشاعر القاسي، هي استبصار الهوّة الفاصلة بين الحياة، التي "وعدته" بها الحركة الصهيونية وهو شاب في مقتبل العمر، وبين ما تحقق على أرض الواقع الإسرائيلي حتى أنه أضحى بعد واحد وأربعين عامًا على إقامة الدولة، يحيا نقيضها. غير أنّنا نجد تحديدًا (من الحدّة) لهذه المسألة في نتاجات أخرى بصورة يصعب معها عدم رؤية الانتفاضة الشعبية عاملًا حاسمًا في وضعها على نار حامية.

يبرز بين هذه النتاجات كتاب للأديب عاموس كينان بعنوان "الخزامى أشقاؤنا" (إصدار "كيتر") ينظمه منظور صاخب يرفض القول بكون "الهوية القومية" لإسرائيل كيانًا ساكنًا منجزًا تحقق نموه واكتمل... وليس هذا فحسب بل أيضًا يعلن "أشعر بأنّ إسرائيل آخذة في الاختفاء من تحت أقدامي... إنني غير مؤمن بعد بحكاية إسرائيل" (2).

إنّ شعور كينان السالف مردّه رؤية تعترف بأنّ "المجتمع الإسرائيلي" يدمّر ذاته، بحسب قوله. وتتكشف مأساوية هذا التدمير بصورة شاملة في الارتباط العضوي بين الواقع الراهن في إسرائيل وبين واقع المحيط الأكبر. ولا تبدو الإجابة الشافية، على مسببات هذا التدمير، في متناول يده لكنه يعلن تمرده على "الهوية القومية" التي رسمها ديفيد بن غوريون للحركة الصهيونية فيقول: "إنّ مأساة الصهيونية، بل كارثتها هو بن غوريون... دولة بن غوريون كانت أمرًا محكومًا عليه بالفشل منذ البداية لو انوجد شخص ما أدرك اتجاه الأمور آنذاك... دولة بن غوريون كانت مبنية على قطيعة مطلقة مع المحيط الراهن، الأمر الذي لا يمكن للطبيعة أن تتفهمه أو تتحمله. حتى الأميبا ليس في إمكانها الانقطاع عن محيطها، والدولة، أيضًا، لا تستطيع الانقطاع عن محيطها. بن غوريون اخترع أنبوبًا اصطناعيًا يربطنا بمحيط آخر لا بمحيطنا".

إن فكر كينان هذا المستغلق على رؤية فترة بن غوريون مرجعًا لشرور الحاضر، لا يحجب الواقع ولا يقلل من أهمية بحثه عن سبل إعادة بنائه برغم ظهوره في مظهر اليائس من مجرّد إعادة البناء هذه. وأقول هذا الكلام ليس دفاعًا عن كينان وأمثاله، وإنما من منطلق تقدير الوعي الكامن فيه، والمتمثل في قدرته على تحديد معركة الراهن، الذي يبدو عنده بداية لإنتاج المعرفة ونهاية لها.

"وجوه" السياسة 

الإسرائيلية قبالة المرآة 

تمثلت إحدى الحقائق، التي رسّخها الشعب العربي الفلسطيني على أرض الواقع، بواسطة ديمومة انتفاضة 1987، في أنّ هناك ميلًا واعدًا لدى المزيد من صنّاع الرأي العام الإسرائيلي لناحية وضع الوجوه والأفكار، التي كانت حتى وقت قليل مضى من ذلك الوقت بمنزلة محرّمات يُتهم كل الذي يحاول الاقتراب منها أو التشكيك بها بالكُفر والشعوذة، قبالة المرآة ورؤية انعكاسها كما هو من دون زيادة أو نقصان، بل وحتى بلوغ ما يترتب على هذه الرؤية من حسم في المواقف أو ما تواضعنا على القول في صدده: تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية.

ولئن كان الفضل في هذا التبدّل، الذي ليس من الضروري أن يكون المرء منجمًا حتى يدرك مظاهره ودلالاته، يعود، أولًا وقبل أي شيء، إلى برنامج الانتفاضة الذي هو برنامج سلام فلسطيني واقعي، بما وفره من ظروف أكثر مواتاة من السابق تنشط في ظلها موجة جديدة واسعة من الاحتجاج على جنون الفكر والسياسة والعدوان الإسرائيلي، فإنه لا يمكن الاستهانة، بأي حال، بمشاعر وعي تفجرت لدى أوساط من الرأي العام الإسرائيلي نتيجة ما هو حاصل وساهمت في التأثير على هؤلاء في اتجاه التسليم بوقائع صنعتها الانتفاضة، وفي مقدمها ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ 1967.

إن الترجمة الفعلية للحقيقة السالفة برزت، مثلًا، في المقال الذي كتبه المعلق في صحيفة "هآرتس"، عوزي بنزيمان، بعنوان: "الوجه الذي في المرآة هو وجهنا"(3). وقد وظف فيه أسطورة الأخوين غريم "الأميرة والأقزام السبعة" بشأن المرآة التي تقول الحقيقة- كل الحقيقة- ليخلص إلى القول: "ينظر المرء منا كيف يبدو وجهه في المرآة ويعلل نفسه بالأمل في ألا يكون هذا سوى مجرّد كابوس، غير أنه لا مفر من الاستنتاج بأن الوجه الذي يطل علينا من المرآة هو وجهنا".

و"في الوعي السابق للإنسان الإسرائيلي- يضيف بنزيمان- كان هذا الإنسان هو الذي يقوم بدور البطل الطيب وصاحب الحق في القصة. هو الذي يرغب في التحادث وهو الذي يمد يده [للسلام]. هو الذي كان ضحية العنف والذي كان يعتبر مسخًا من جانب العالم العربي. وهو الذي استغل بنشاط ومهارة رفض العدو لكسب التعاطف والأصدقاء".

ويستطرد بصيغة التساؤل: "أما الآن فإننا نسأل أنفسنا: من الذي يعمل بحنكة سياسية في الوقت الحالي؟ زعماؤنا أم الخصوم العرب الذين كانوا في نظرنا متخلفين دومًا؟ من الذي يبدي مرونة في التعابير ويخطب، بحذق، ودّ الرأي العام العالمي ويحتل مواقع دبلوماسية ويعزز مكانته في العالم؟ ولعل الأشدّ خطورة من ذلك كله هو أننا لم نعد متأكدين من أن الذين ينطقون باسمنا يرون الواقع بصورة سليمة. وكنا فيما مضى، كما يذكر الجميع، نعزو هذه النقيصة إلى العدو".

عند هذا الحدّ ينفتح الباب أمام وضع "وجوه" السياسة الإسرائيلية الحاكمة في قبالة المرآة لتظهر على حقيقتها من دون رتوش. يقول المعلق الصحافي الإسرائيلي نفسه: "إن الذي ينعم النظر في هذه المشاهد (المقصود مشاهد المناظرات التلفزيونية في شبكات التلفزة الغربية التي يظهر فيها ممثلون إسرائيليون وممثلون من منظمة التحرير الفلسطينية) لا يمكنه التسليم بالدور الحالي الذي يؤديه، باسمه، ممثلوه الشرعيون. وليس في وسع المرء [الإسرائيلي] إلا أن يندهش من تحوّل ممثليه إلى الجانب البشع الذي يرفض إجراء الحوار، ومن كيفية تحول الناطقين باسمه إلى بلهاء يلعبون اللعبة القذرة وهي التشديد على عدم التواجد في مكان واحد مع الخصم".

يمكن الاستمرار في إيراد الشواهد الذي يثبتها بنزيمان للبرهنة على ما يقوله. غير أن ما يوحي به مقاله هذا هو أن الانتفاضة والحقائق التي رسختها، على مختلف المستويات، أحدثت انقلابًا فيما يسميه "توزيع الأدوار" بين الإسرائيليين وبين الفلسطينيين بذلت الدعاية الإسرائيلية الرسمية جهودًا جبارة في تكريسه وتجييره، بالتالي، لمصلحة سياسة العدوان. والانقلاب الحاصل هو من العمق بحيث لن تجدي كل الترقيعات الإعلامية الإسرائيلية أصحابها نفعًا.

إن هذا الانقلاب، الذي يصفه بنزيمان بأنه كبير، تجاوز التخوم التي تحدث عنها واستقر، بقدر غير قليل، في بعض زوايا العمق الإسرائيلي. وكان مآل ذلك إفراخ موجات من الواقعية السياسية، على المستويين الشعبي والحزبي، ترى في "السلام مع فلسطين" حلًا وحيدًا. وبالتالي فإن أصحاب هذه الواقعية السياسية تقدموا خطوة إلى الأمام، مقايسةً بما كانوا عليه قبل ذلك، في اتجاه بلورة شعار سياسي لهم هو مطالبة حكومة إسرائيل بأن تفاوض منظمة التحرير الفلسطينية.

وليس من دون دلالة، في هذا الإطار، أن عددًا متزايدًا من المفكرين والمثقفين الإسرائيليين بدأ يشغله همّ مخاطبة الوعي الشعبي (الجمعي) الإسرائيلي، الذي على محاولات تزييفه الباهظة أمعن المسؤولون الإسرائيليون في مواقفهم الرفضية وفي عربداتهم الدموية.

إن عامًا ونيفًا من الانتفاضة، التي بالانطلاق منها جرى شن "هجوم سلام فلسطيني كاسح"، كانت كافية ليعلن الكاتب الصحافي دورون روزنبلوم (4) أنه فيما تحول الشعب العربي الفلسطيني وممثله- منظمة التحرير- في هذه الأثناء إلى "دولة ذات عضوية شبه كاملة في هيئة الأمم المتحدة" أصبحت إسرائيل تجسد نموذج "الحرب التي تملك دولة"!

وحكام إسرائيل الذين كانوا، منذ أن وجدت سياستهم الحربية العدوانية، أسرى الوهم بإمكان تبديد القضية القومية الفلسطينية أصبحوا، برأي روزنبلوم، في زمن ما بعد الانتفاضة وهجوم السلام الفلسطيني، أسرى الوهم بأنه ليس بين الفلسطينيين من نفاوضهم.

وعلى هذين الوهمين تراكمت "نظرية وعي" كاملة جديرة بأقصى الانتباه تقول بوجوب حياة الإسرائيليين في "غيتو اختياري".. ولا خيار! ولا تعترف تلك "النظرية" إلا بالواقع الذي ينتهي عند جدار أصم يفصل بينه وبين الواقع العام.

إذا كان هذا الكلام طلسميًا، بعض الشيء، فإن روزنبلوم ينبري لشرحه بمقولات بسيطة من خلال استعراض الموقف الإسرائيلي الرسمي إزاء منظمة التحرير.

يقول روزنبلوم: "يبدو أن 'عدم اعتراف' منظمة التحرير بنا كان مدماكًا مهمًا للغاية في بناء وعينا الذاتي. وكان مجرد احتمال حدوث أي تحول في هذا الخصوص من شأنه أن يؤدي إلى زلزال مفاهيمي لا يقل عن زلزال حرب يوم الغفران [حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973]. ولئن قوضت تلك الحرب تعريفنا الذاتي بأننا تجسيد للقوة العسكرية (بحسب معادلة "أنا رجل أمن. أنا خدمت في الجيش- إذن أنا إسرائيلي") فإن التغييرات في منظمة التحرير من شأنها أن تقوض تعريفنا الذاتي بأننا تجسيد للرفض الناجز (بحسب معادلة "أنا مكروه. المنطقة ترفض الاعتراف بي. أنا غريب في المنطقة. لن أفاوض منظمة التحرير بتاتًا وهي لن تفاوضني أبدًا- إذن أنا إسرائيلي")".

إذا توقفنا قليلًا عند هذه الأقوال فإننا نجد التفسير الواضح للتشدّد الإسرائيلي الرسمي إزاء برنامج الواقعية السياسية الجديد لمنظمة التحرير، والكامن في الخوف على "مشروع الحرب" من الإفلاس التاريخي بعد أن صار السلام المؤيد دوليًا أقوى أسلحة الانتفاضة ومنظمة التحرير.

وهذا هو أيضًا ما يفسر المراهنة الإسرائيلية على أن منظمة التحرير لن تجد صيغتها لخفض سقف الشروط والمطالب المتعلقة بتسوية الصراع مع إسرائيل، وإذا أوجدت هذه الصيغة فإنها قد تخسر نفسها.

ويمكن الاستناد إلى الأسس نفسها لتفسير محاولات التشكيك بإعلان المنظمة أنها تنبذ الإرهاب وتدينه وتشجبه. فعلى الإرهاب المزعوم بنى حكام إسرائيل سياسات وسياسات وربوا في أوساط رأيهم العام قناعات صنمية لا غنى عنها لمشروعهم الحربي.

يقول روزنبلوم في هذا الخصوص: "يمكن القول إنه نشأ لدينا ما يمكن وصفه بـ"إرهاب الإرهاب". وفقط في إسرائيل ثمة سياسيون من الجيل الجديد لا يشغلهم شيء سوى هذا الشاغل. وعندما ينتفي الإرهاب فإنهم يوجدونه ويؤججونه أو يؤججون الخوف منه... وخلاصة القول إن "الإرهاب" تحول لدينا إلى أكثر مما هو في الواقع، إلى كلمة سر، أيقونة، "مزوزة" (تميمة دينية يهودية)، إلى حجر الزاوية في هويتنا الذاتية"!

ويضيف موضحًا: "خذوا مثلًا عضو الكنيست الجديد [في ذلك الوقت] بنيامين نتنياهو. إذا اختزلنا من شخصه "الإرهاب" ولواء "محاربة الإرهاب" فماذا يبقى منه؟ ماذا ستكون بشراه؟ ماذا يبقى من مجرد إسرائيليته؟".

لا شك في أن هذه المخاطبة الصريحة للوعي الإسرائيلي الشعبي هي عامل ذو شأن أفسح في المجال أمام تكريس تعامل أكثر مرونة مع منظمة التحرير، كما أنه زوّد جماهير من القاع بأوراق ضغط جديدة على حكام إسرائيل لحفز وتنشيط جهود ومساعي السلام.

إن روزنبلوم هو صحافي فرد. لكن في ضوء العديد من الوقائع الحاضرة يمكن القول إنه كان يمثل قطاعًا من الرأي العام الإسرائيلي يرى في السلام مع الشعب العربي الفلسطيني حلًا وحيدًا ويعتقد، مثلما يعتقد روزنبلوم، بأنه "منذ مئة عام وربما أكثر ونحن نعيش مع الفلسطينيين. ومنذ عشرين عامًا على الأقل أصبحنا جزءًا لا يتجزأ من بعضه البعض بحيث لم يعد من الممكن فصله كما تفصل الزوائد. لكن غربتنا المعلنة حيالهم وعمانا وصممنا المبدئيين إزاء كل ما يحدث لديهم- ليس فقط في نابلس وإنما أيضًا في يافا- هما أيضًا جزء من تعريفنا للهوية الإسرائيلية جريًا على القول: "لا أعرف (ولا أرغب في أن أعرف) ما الذي يقوله هؤلاء العرب- إذا أنا يهودي إسرائيلي"!

في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن بوادر التشكيك بالممارسة والمسلمات الصهيونية اتخذت مدًّا واسعًا بعد الحرب على لبنان، التي كانت إسرائيل البادئة بشنها في حزيران/ يونيو 1982. وأفضل دليل على تلك البوادر مقال للكاتب أهارون بخار ظهر ضمن زاويته الأسبوعية "بروفيل" (ملامح شخصية) تحت العنوان "صهيونية- ليست بين قوسين" (5)، طرح فيه هواجسه تحت تأثير تلك الحرب وعلى هامش وقائع المؤتمر الصهيوني الثلاثين الذي انعقد في تلك الفترة في مدينة القدس.

يحاول بخار أن يستنطق أبناء جيله، ممن شنفت آذانهم بسماع فكرة "الوطن القومي اليهودي" فسبقت عواطفهم عقولهم إليه، بلهجة هي مزيج من العتاب ومحاسبة الذات وإسقاط هموم الحاضر على الماضي.

ونستطيع أن نشعر بأزمة هذا الكاتب في خلوصه إلى القول: "إذا كانت الصهيونية تعني ضم المناطق والاستيطان فيها وتكريس الكراهية الأبدية بين إسرائيل والعالم العربي فأعتقد أنه يتعيّن عليّ أن أتخلى عن هذه الحركة... لقد جئنا إلى البلاد لنبنيها ونبني أنفسنا لا لتشريد شعب آخر والعيش على خرائبه القومية. وأسسنا القوة الدفاعية العبرية حتى لا نعيش على أسنة الحراب... عندما أتفحص واقع حياتنا أجد نفسي متسائلًا، بالأساس مع ذاتي، هل ما زلت صهيونيًا؟! وماذا تعني الصهيونية وما هي ماهيتها في الربع الأخير من القرن العشرين؟!".

ونقول أزمة هذا الكاتب لأنه يضع يده، في سياق المقال، على حقائق توضح أنه ما كان من الممكن أن تعني الصهيونية، في واقع الأمر، سوى ضم المناطق والاستيطان فيها وتكريس الكراهية للإنسان العربي لمجرد كونه عربيًا. وأن الصهيونية قد خططت ونفذت عمليات تشريد الشعب الآخر لبناء "الوطن القومي العبري" على أنقاض خرائبه القومية.

ومن أهم جذور الإخفاق، الذي يهجس في صدر بخار، جملة التناقضات بين مزاعم الصهيونية التضليلية والمعطيات الأكيدة على أرض الواقع. ولعل أول هذه المزاعم التضليلية هو أن فلسطين خالية من السكان، عاجة بالقفار والمستنقعات وأن هجرة اليهود إليها لن تكون سوى "هجرة شعب بلا أرض إلى أرض بلا شعب"- كما زعم هرتسل. وبخار نفسه يقر بذلك فيكتب: "مثل كثيرين آخرين وصلوا إلى البلد دون أن يعرفوا عنه معلومات كثيرة كان غريبًا عليّ أن أواجه عربًا هنا. لم أفهم عما كانوا يبحثون هنا. لقد غسلوا مخنا، طوال أعوام، بالدعوة الحمقاء أن هذا البلد انتظرنا بقفاره مدة ألفي عام وأنه كان خاليًا ومهجورًا. وأصابت الدهشة الكثيرين منا بعد أن وجدنا فيه الشعب الشقيق. ولم يعتادوا عليه حتى يومنا هذا تقريبًا. لكنهم هنا. وهم مغروسون جيدًا في أرضهم وموثقون بها بتلك السلاسل التي تربط الإنسان بأرضه ووطنه. وإذا لم تعرف الصهيونية كيف تتأقلم مع حقيقة وجودهم هنا فإنها تضع كل مشروع الانبعاث اليهودي في أرض إسرائيل في خطر مستمر"!

والزعم التضليلي الثاني هو ما "بشَّر" به هرتسل في روايته "أرض قديمة جديدة" (ألطنويلاند) حين قال "إننا نرى هنا (يقصد في فلسطين) صورة جديدة لحياة مجتمع جديد منظم لإسعاد الناس أكثر مما كانوا عليه في السابق".

فأين من هذه "البشرى" حقيقة الواقع الكابوسي في هذا "المجتمع الجديد"؟. يكتب بخار: "لقد أراد آباء الصهيونية أن يمنحوا الشعب اليهودي الأمن المطلق. لكن ها هي ذي البلاد، التي تحقق فيها الحلم الصهيوني وتحول إلى واقع سياسي ملموس، المكان الأقل أمانًا لليهود. ففي أي مكان من العالم، بما في ذلك الأقطار ذات الأنظمة الدينية المتطرفة، لم يُسفك في العقود الثلاثة الأخيرة دم يهودي بالمقدار الذي سفك في أرض إسرائيل".

نموذج على "اللغة

الأدبية الجديدة"

ذكرت، في سياق سابق، أن الانتفاضة ساهمت في ميلاد "لغة أدبية جديدة" بدأت تشق طريقها في الساحة الأدبية الإسرائيلية.

وقد صدرت في عام 1989 حكاية للفتيان تحمل عنوان "السياج" (6) تشكل بحق ذاتها وبذاتها، ليس على سبيل الحصر، دليلًا بليغًا كفايةً على هذه "اللغة الجديدة".

في هذه الحكاية نجد لدى الكاتب باروخ تور- راز ملامح عامة جديدة في "القص الإسرائيلي المعاصر" للأطفال والفتيان. أهم هذه الملامح عدم الاستسلام لمنطق الحكاية الخارجي وإنما النظر إليه عن كثب، من مسافة جد قريبة، وإعادة بنائه حسب منطق جديد- منطق داخلي يستتبع رؤية الكاتب ورؤياه ونمو الشخصيات وخصوصيتها.

ونستطيع القول إن المسافة، التي ينظر منها تور- راز، ليست مسافة شديدة الاتساع والبعد عن منطق الواقع (رغم وقوعه في بعض المزالق) لأن منطق الواقع ذاته يظل أكثر تماسكًا واتساقًا ويظل الكُتّاب جزءًا لصيقًا منه حتى لو لم يذوبوا تمامًا في تفاصيله الدقيقة.

وحكاية "السياج" أيضًا هي أحد النماذج الدالة على ما يمكن تسميته باتجاه "المحاسبة القومية".

تدور أحداث هذه الحكاية في الضفة الفلسطينية المحتلة خلال تأدية الكاتب/ الراوي خدمته الاحتياطية العسكرية في إحدى المستوطنات اليهودية هناك. وفي سياق ذلك يكتشف أنه غريب عن المنطقة، غريب عن تاريخها ولغتها وطوبوغرافيتها ونتوءاتها.

ويستغرق الكاتب كثيرًا في اتجاه تصوير "الحصار الداخلي" الذي يطغى عليه، تحت وطأة الشعور السالف بالغربة الذي يراد منه الإيحاء بأنه يساند حق أصحاب تلك المنطقة الأصليين فيها. غير أن همّ حكايته، برغم هذا الاستغراق، أكبر بكثير من الانغلاق حول التداعيات الداخلية التي يبثها في صفحات الكتاب. كما أنه أكبر بكثير من مجرد تنميط الواقع ونمذجته. فمن تحت ركام هذا "الحصار الداخلي" يقدم تور- راز، بمنطق مبسط، عالمًا قابلًا للانفتاح على أشواق الإنسان الروحية التي فيها يمكن الانعتاق.

ويبرز هذا الأمر، أكثر ما يبرز، في الفصل الثاني من الحكاية الموسوم بـ"الحاجز" عندما يندفع الراوي الجندي، بقوة دفع عفوية، لمساعدة الأطفال الفلسطينيين الذين أكرههم الجنود الإسرائيليون على تنظيف أحد الشوارع من الحجارة عن طريق إزاحة الحجر الأكبر والأثقل- هذه الاندفاعة التي تجعله عرضة للتنديد والنظرات الشزراء من جانب زملائه الجنود ومن جانب المستوطنين وأبنائهم.

أما اللقاء مع الإنسان العربي الفلسطيني، المعادل الموضوعي للانتفاضة، فإن تور- راز يرصده من خلال أحد "أطفال الحجارة" والذي في نهايته يخلص إلى التساؤل التالي: "هل هذا الطفل هو عدوي اللدود"؟ (ص 11).

وعلى الرغم من أن هذا اللقاء يجري في أجواء عدم التكافؤ لمصلحة الجندي في الاحتياط، فإن هذا الأخير (الراوي) يظل يلازمه شعور بالهزيمة والمهانة والغربة. هذا الشعور يدلل عليه المقطعان التاليان من الحكاية:

"بدأت بتسلق مرتقى الجبل. انحبست أنفاسي. وسمرني حذائي الثقيل بالصخور. لم يكن بمقدوري أن أركض في المرتقى المتعرج. وخزتني أشواك الشجيرات كأنها تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تعرقل تسلقي. قلت لنفسي: إنها إلى جانبهم. أصوات الهاربين بنشاط انحدرت إلينا من القمة. وانهمرت باتجاهنا موجة أخرى من الحجارة كاد أحدها أن يصيب ذراعي. فتوقفت تحت ظل شجرة بلوط وأنا أكاد لا ألتقط أنفاسي. شعرت أنني خجل ومُهان ومرتبك... نظرت إلى أعلى فلمحت من بعيد طفلًا ضامرًا وقصير القامة يركض بخفة بين الشجيرات. هل هذا الطفل هو عدوي اللدود"؟ (ص 10-11).

"ظللت قابضًا على ذراعه. لم يعرني أدنى اهتمام واستمر يسير في الفراغات الضيقة بين الشجيرات والصخور. أحسست أن هذا الطفل الذي يقودني وراءه يرغب في أن يثبت لي شيئًا ما. هل يرغب في أن أحس بأنه يدرك كل مخابئ المنحدر جيدًا مثل أي شخص يدرك ساحة بيته بينما أتوه أنا وزملائي فيه مثل الذي يحل في أرض غريبة؟" (ص 12).

إن التساؤلات التي يثبتها تور- راز هنا تشير، من غير لبس، إلى رؤيته الناقدة غير المستسلمة. وهذه الرؤية هي خاصية أساسية في حكاية "السياج". بمعنى آخر فإن تلك الرؤية، سواء أكانت راصدة أم حتى متعاطفة مع الواقع أو جزيئات منه، إلا إنها لا تصل إلى حد تبني هذا الواقع.

ثمة ملمح آخر في الحكاية، يخضع في المحصلة للملمح الرئيس، يخص تداخل العوالم والأحداث. وبمعنى أدق خلط الواقعي بالخيالي، والحلمي بالمُعاش وبطرق متعددة يستطيع بعضها أن ينمي نمطًا من الأحداث قابلًا لأن يكون واقعًا وخياليًا في آن واحد.

هذا الملمح بارز في تعامل الكاتب/ الراوي مع أطفال المستوطنين. فعلى الرغم من أن الوجود الاستيطاني الكولونيالي في الأراضي المحتلة غريب ومستهجن وباطل من أساسه فإن الكاتب لا يتخذ منه موقفًا رافضًا بل يحاول أن يبحث عن المشاعر الإنسانية التي تنطوي عليها دواخل أطفال المستوطنين. ومع أنه لا يمكن نفي وجود مثل هذه المشاعر لدى أطفال، إلا إن نقل ساحة الصراع إلى الأرض المحتلة حمل في طياته، أراد الكاتب ذلك أم لم يرده، موقف الانطلاق من كون الوجود الاستيطاني الكولونيالي هناك شرعيًا. وهو ما جعل تور- راز يطارد شيئًا أشبه بالميتافيزيقا في كل وقت ومكان. بل إن مجرد الانطلاق من شرعية هذا الوجود الاستيطاني قاد الكاتب إلى الوقوع في مطبات خطرة ليس أقلها خلط الأوراق، خلطًا عجيبًا وغريبًا وغير مبرر، بين الجلاد وبين الضحية.

ففي أحد فصول الحكاية تعلن بطلة تور- راز المحببة إلى قلبه وإلى الطفل الذي في داخله "شلوميت" قائلة: "من السهولة قذف الحجارة. لكن الأصعب من هذا أن نتعرف على الإنسان الغريب (!) وأن نتعلم كيف نوده... لدينا معضلة صعبة: إنهم يكرهوننا ولا يريدون أن نحيا هنا. ويتوجب علينا مواجهة هذه المعضلة وإذا ما قلدنا العرب وقذفنا الحجارة فإننا، بذلك، نسير في الطريق السهلة لكن الخطرة. وعندها، أيضًا، نضيع فرصة التقرّب من جيراننا" (ص 22).

لعل هذا السيناريو البائس، الباطل من أساسه، هو الذي جعل الناشر في تظهيره للكتاب يصف "العالم الإنساني للصراع الإسرائيلي- العربي الذي حاول الكاتب الانفتاح وشد الأنظار إليه" بـ"السذاجة".

غير أن أحدًا لا يستطيع الزعم مثلًا أن هموم هذه الحكاية، برغم غرابتها بعض الشيء، بعيدة عن هموم الواقع الإسرائيلي المعاصر، على الأقل لدى شرائح معينة منه. ولا يمكن أن ننفي عن هذه الحكاية، أيضًا، دورها السياسي الواضح بل والمباشر في بعض الأحيان. فهي تشق طريقها، بصعوبة، من أجل أن ترى الجوانب الكامنة في الإنسان الفلسطيني بما يعتقد أنه سلب وإيجاب. 

نموذج آخر 

تنسحب هذه "اللغة الجديدة" أيضًا على كتاب "شعراء لا يكتبون قصائد" الصادر في عام 1990، وهو من إعداد وتحرير رولي روزين وإيلانه همرمان (7).

يضم هذا الكتاب حكايات وشهادات على ألسنة عسكريين شاركوا في "المجهود الحربي لقمع الانتفاضة".

تقول همرمان في تظهير الكتاب إن "شعراء لا يكتبون قصائد" يروم استحداث أسلوب أدبي جديد في محاكاة الواقع الصلد من غير تزويق، في إلماح إلى أنه في مواجهة هذا الواقع تفقد الصنعة الأدبية نكهتها وألقها وربما تنتفي الحاجة لها.

وتضيف همرمان، في سياق مختلف، إن الكتابة التوثيقية عن الواقع الإسرائيلي المتأثر بالانتفاضة أدعى إلى اهتمام الناس والقراء من قيام كاتب ما بتناول "ما هو معروف له ولنا من خلال وسائل الإعلام ثم إضافة هواجسه وآرائه وصياغة جميع هذه العناصر في إطار قصة درامية يقدمها لنا من قمة صلاحية القاص الذي يعرف كل شاردة وواردة"! بينما تعلن رولي روزين أن الهدف الأوحد لهذا الكتاب هو تحديد أهمية "أن نعرف ما هو حاصل هناك بما يستتبع معرفة كيفية تأثير ذلك علينا"!

إذا شئنا أن نوضح أكثر جوهر فكرة الكتاب المحورية فإننا لا بد واجدون أن في أساس تلك الفكرة الدعوة الأصيلة إلى الوحدة، الضرورية، بين المبدع ونتاجه. وهي وحدة إن لم تكن متوفرة فهي طموح يسعى المبدع إلى تحقيقه ومثال يتطلع إليه، وذلك بالانطلاق من ضرورة الوحدة بين الوعي والفعل، بدءًا من أبسط مستوى للإدراك وصولًا إلى الأشكال الأكثر تعقيدًا في الفكر النظري.

صحيح أن أي انتصار للنيات الواعية لدى المؤلف قد يميت العمل الإبداعي، بحسب المقاييس النقدية العلمية. ولهذا فإن هذا الكتاب يطرح نفسه باعتباره أسلوبًا جديدًا في الكتابة الأدبية. وهو أسلوب يكرثه تصوير الواقع حسبما هو، بمقدار ما يكرثه الطموح إلى تغيير الواقع.

لعل هذه الإشكالية المعقدة، التي يمثل عليها هذا الكتاب، تطرح مرة أخرى ضرورة مساءلة معنى الثقافة في ظروف الأزمة. فإن كان السعي إلى الخلاص كمفهوم نظري وعملي لا ينفصل عن الأزمة، فإن الثقافة ليست أكثر من الفعل النظري والفعل العملي المقاتل في سبيل الخلاص، في الآن نفسه. بهذا المعنى، وانطلاقًا منه، وتأسيسًا عليه، ينكسر التصور "التقني" لمفهوم الثقافة الذي يبدأ بمقولة "قل كلمتك وامش" لينتهي إلى حالة من السكون والمراوحة. وتصبح حكايات وشهادات "شعراء لا يكتبون قصائد" حاملة صورة صحيحة للهامش العملي الذي يعيشه المثقف الإسرائيلي في صيرورته الراهنة، في انتمائه الملتبس إلى الواقع وفي لا انتمائه.

ومثل تصوير الواقع، الذي يحمله ويروج له بصفة أسلوب جديد في الكتابة الأدبية، لا يصرف القلق جراء هذا الواقع بل هو يركز القلق ضمن دائرة يتحرر معها صاحبها من إسار "السحر" الكامن في الكلمة المكتوبة التي لا تمارس أدنى فعل تغييري أو تثويري أو تعبوي.

مع كل ذلك، وفوقه، يظل التظاهر والاحتجاج الرافض لما هو سائد يشكلان ممارسة ثقافية خارج نطاق الخضوع والإذعان.

يمكن، بطبيعة الحال، الاستطراد أكثر فأكثر في متابعة البراهين على الرؤية المغايرة واللغة الجديدة في كتابة الأدب والتاريخ السياسي. لكن الأمر الأكيد أنّ هذا النهج يعكس، حقيقة، تحوّلًا في الكتابة الإسرائيلية. وهو تحوّل لم يأت صدفة ولا جاء مفاجئًا بل كان أحد تجليات مظاهر استخلاص الضوء من براثن العتمة، وهي مظاهر دججتها انتفاضة 1987.

 ___________________________

 

هوامش:

 

1- راجع مقال الناقد يوسف أورن "قصة حب روسية- رواية مناهضة للصهيونية"، فصلية "أبيريون"، ربيع 1989.

2- من حديث له مع محرر "هعولام هزيه"، عدد 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989.

3- صحيفة "هآرتس"، 25 نيسان/ أبريل 1989.

4- صحيفة "حدشوت"، 23 كانون الأول/ ديسمبر 1988.

5- صحيفة "يديعوت أحرونوت"، 10 كانون الأول/ ديسمبر 1982.

6- باروخ تور- راز: "السياج" (حكاية للفتيان). منشورات "شوكن" - القدس وتل أبيب، 1989.

7- رولي روزين وإيلانه همرمان: "شعراء لا يكتبون قصائد". منشورات "عام عوفيد"، تل أبيب 1990.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.