}

ثورة شعب: انتفاضة 87 الفلسطينية ومجتمع دولة الاحتلال (1-2)

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 26 نوفمبر 2017
استعادات ثورة شعب: انتفاضة 87 الفلسطينية ومجتمع دولة الاحتلال (1-2)
عمل للفنان الفلسطيني أسامة دياب

تمهيد

مع الاقتراب من الذكرى السنوية الثلاثين للانتفاضة الفلسطينية الأولى في الأراضي المحتلة منذ 1967، نستعيد مقالات كُتبت بعد انقضاء العامين الأول والثاني على تلك الانتفاضة التي انفجرت في كانون الأول/ ديسمبر 1987، وسعت في ذلك الوقت للوقوف على معناها في الحقل الثقافيّ، ولا سيما حيال أعمال المقاومة وإيصال رسالة الحرية التي ينشدها الفلسطينيون إلى أصقاع العالم.

وفي هذا المجال جرى التركيز بشكل خاص على الحقل الثقافي داخل مجتمع دولة الاحتلال الصهيونية، وأساسًا على كيفية انعكاس كل حدث عليه وعلى جوهر صراعه مع الشعب الفلسطيني وعلى الرواية المُعتمدة من طرفه لجذور هذا الصراع وصيرورته.

وخلصت تلك المقالات في حينه إلى أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى تركت بصمات واضحة على هذا المجتمع، لكنها سرعان ما تلاشت رويدًا رويدًا عقب ما يسمى بـ"عملية السلام" التي أفضت إليها لأسباب يطول شرحها، منها ما هو مرتبط بدولة الاحتلال ومنها ما هو متعلق بأداء الفلسطينيين وقياداتهم.

ومثلما أشرنا، ضمن معالجة سابقة، اندلعت هذه الانتفاضة بعد أكثر من خمسة أعوام على انتهاء الحرب الإسرائيلية في لبنان (1982)، ووفقًا لعدة مصادر فلسطينية إذا كانت هذه الحرب أظهرت للإسرائيليين شجاعة الفلسطينيين في لبنان وصمودهم في مواجهة جيش يفوق قدراتهم الذاتية عددًا وعدّة وخبرةً، فهي لم تطرح عليهم مشكلة الفلسطينيين في الخارج. وهذه مشكلة رأت إسرائيل في النهاية أنها "غير معنية بها" إلا بمقدار ما يقوم هؤلاء الفلسطينيون بإزعاجها مباشرة. وأمام الرأي العام العالمي كان بإمكانها أن تقول إن الفلسطينيين في لبنان هم في بلد ليس لهم وأن تضيف أيضًا، لصبّ الزيت على النار، بأنهم أحد أسباب مشكلة لبنان وحربها الأهلية بل هم سببها الرئيس أو حتى الوحيد. وانتهت الحرب، من وجهة النظر الإسرائيلية، بإظهار كون المشكلة في هذا البلد لبنانية أولًا، وثانيًا مشكلة شبكة واسعة من التدخلات والتأثيرات والصراعات الإقليمية والدولية التي تستند إلى المشكلة الداخلية وتستغلها أو تستفيد منها. في المقابل وبعد النهاية القاتمة لحرب 1982، حسمت الانتفاضة مسألة الصراع مع الفلسطينيين بكونها صراعًا "بين مجتمعين على قطعة الأرض ذاتها وعلى الشرعية"، كما كتب أحد الأساتذة الأكاديميين الإسرائيليين في تشرين الأول/ أكتوبر 1988، أي بعد أقل من عام على اندلاعها، مضيفًا أنه منذ عام 1967 عاد الصراع ليكون بصورة مباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين؛ وهو صراع مختلف تمامًا عن الصراع مع الدول العربية. فهذا الأخير كان في صلبه صراع مصالح مثله مثل أي صراع بين دولتين لا بين مجتمعات.

ولدى العودة إلى ما كُتب من مقاربات عديدة على هذا الغرار أثناء تلك الفترة، نتوصل إلى أول استنتاج، وفحواه أن الانتفاضة الأولى أظهرت كونها ثورة شعب على أرضه، ثورة شعب حُرم من حقوقه السياسية والمدنية واحتلت أرضه وجرت عليها محاولات لدوس كرامته ومُنع عنه الحق المُعترف به لشعوب العالم- حق تقرير المصير.

 ثاني استنتاج يرتبط بإطلاق الانتفاضة سيلًا من كتابات إسرائيلية تشكل في التحصيل النهائي ممارسة ثقافية خارج مجال الخضوع والإذعان لرواية الاحتلال.

وهذا السيل اتخذ، كما ستلاحظون، منحيين متصلين:

الأول، منحى قراءة الواقع الفلسطيني عبر رؤية مُستبصرة ووعي بإزاء عدة حقائق ترجع صدقيتها الأساس إلى كونها قائمة فعلًا.

الثاني، منحى إعادة استقراء تاريخ الحركة الصهيونية منذ نشوئها وما زرعته من بذور سوء تُعتبر مرجعًا ومتكأ لفهم التاريخ المعاصر وللإطلالة على المستقبل، انطلاقًا من أن ما يحدث مشدود بكل قوة إلى الماضي الذي لا يُعدّ، بحال من الأحوال، مجرّد ذكرى أو عبرة من تاريخ بعيد إنما هو استمرار يتظاهر في الحاضر. وأي تراخ في هذا الشدّ إلى ذلك الماضي يجعل التاريخ يستنقع في حركيّة راكدة.

ومن أبرز النماذج الدالة على ذلك ما كتبه الشاعر حاييم غوري، وهو المعروف بأنه من أشدّ دعاة وأنصار "أرض إسرائيل الكبرى"، بأن "المشكلة السياسية الراهنة وانزلاق المجتمع الإسرائيلي إلى حضيض فقدان المشاعر هما النتيجة (الحتميّـة) للسيطرة على شعب آخر". كذلك كتب الأديب المعروف يزهار سميلانسكي (س. يزهار) أن ما يحدث في أراضي 1967 ليس "أعمال شغب" إنما "ثورة شعب"، وأن من الحجارة ومن أنهار الفتيان يتكون شيء ما عظيم وبسيط وإنساني.

على أن أهم ما ترتّب على هذا المنحى الثاني هو إعادة التفكير بـ"فكرة إسرائيل" من طريق دحض رأي شائع يقول إنّ "مشكلات الحركة الصهيونية بدأت مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في عام 1967"، بموازاة توكيد الطابع الكولونيالي لهذه الحركة وأنها وُلدت من رحمه وبقي ملازمًا لها مثل ظلّها الذي يستحيل الافتراق عنه... وهذا هو ما تعيد إثباته يومًا يومًا.

هنا القسم الأول: 

بانقضاء أول عام

دفعت ديمومة الانتفاضة الفلسطينية الشعبية العارمة الأولى، بدايةً منذ اندلاعها في 9 كانون الأول/ ديسمبر 1987 وحتى انقضاء عامها الأول، أعدادًا من المثقفين الإسرائيليين، إلى تطوير الرؤية المُستبصرة، وإلى وعي حقائق موضوعية ترجع صدقيتها الأساس إلى كونها قائمة في الواقع فعلًا.

وتمثلت الترجمة الوضعية لهذه العملية السياقية، أكثر شيء، في إدراك أبعاد من القضية الفلسطينية، وفي استكناه طبيعة الاحتلال الإسرائيلي (منذ عدوان حزيران/ يونيو 1967) بشكل يمكن القول إنه بدا في ذلك الحين أشدّ وضوحًا من أي وقت سابق.

وإذا كان العدوان الإسرائيلي على الشعبين اللبناني والفلسطيني في لبنان، الذي شُنّ عام 1982، قد أحدث اختراقًا ملموسًا ومتزايدًا في صفوف المثقفين الإسرائيليين، الذين كانت السياسة الإسرائيلية الرسمية إزاء القضية الفلسطينية تحظى، حتى ذلك التاريخ، بتحيّز وتأييد كبيرين وطاغيين من جانب غالبيتهم العظمى، فإنّه بنتيجة الانتفاضة اتخذت تلك التأثيرات ولأول مرّة طابعًا اتسم بقدر من العمق ووضع مسألة "الدور الجاهز" الذي توخّت الحركة الصهيونية منذ تأسيسها أن تنيطه بجمهرة المُبدعين (دور الذي يدقّ لها الطبول) في كفّة الميزان.

وعندما نضع هذه التأثيرات قيد نظرنا، يُمكننا القول بثقة إن قطاعًا واسعًا من هؤلاء المثقفين وقف بين حقبتين من إنتاج، الفيصل بينهما هو ما يُقدمه هذا القطاع من طرائق جديدة في التفكير والمحاججة والتقبّل يُحاول بها الخروج على واقع ثقافي- إعلامي كان يقتات على الاستناد إلى الثوابت والمسلمات الرسمية مع وجود بعض الاستثناءات التي، على ندرتها، كان تأثيرها في واقع شعبي مُحاصر بتلك الثوابت والمسلمات يوازي خدش صخرة صمّاء.

غير أن اهتمام هذا القطاع من المثقفين الإسرائيليين بنشر صوته المُبشّر بهذا التفكير الجديد انصب، أكثر ما انصب، على المقابلة والمقالة الصحافية السيّارة أو العمود الصحافي. وهو في طقس اجتهاده هذا إنما يعبّر عن نزعة يدرك فيها سطوة الصحافة أو وسيلة الإشهار السائدة.

الواقع الفلسطينيّ

لئن كان الجميع، ساسة ومُثقفين، أجمعوا على أنّ الانتفاضة الأولى أخذت إسرائيل على حين غرّة وزلزلتها بقدر كبير فذلك لأنها وضعتها، وجهًا لوجه، أمام الواقع الفلسطيني الذي كان المسؤولون الإسرائيليون يتهرّبون من مواجهته بل يعملون على إزالته وتبديده.

يقول أحد الباحثين الفلسطينيين: "إذا كانت حرب 1982 قد أظهرت للإسرائيليين شجاعة الفلسطينيين في لبنان وصمودهم الكبير في مواجهة جيش يفوق قدراتهم الذاتية عددًا وعدّة وخبرةً، فهي لم تطرح عليهم مشكلة الفلسطينيين في الخارج. وهي مشكلة رأت إسرائيل في النهاية أنها غير معنية بها إلا بمقدار ما يقوم هؤلاء الفلسطينيون بإزعاجها مباشرة. وأمام الرأي العالمي كان بإمكان إسرائيل أن تقول إن الفلسطينيين في لبنان هم في بلد ليس لهم وأن تضيف أيضًا، لصبّ الزيت على النار، بأنهم أحد أسباب مشكلة لبنان وحربها الأهلية بل هم سببها الرئيس أو حتى الوحيد. وانتهت مغامرة إسرائيل اللبنانية (ومعها انتهت مرحلة التدخل الإسرائيلي الواسع المُباشر) بإظهار كون المشكلة اللبنانية مشكلة لبنانية أولًا ومشكلة شبكة واسعة من التدخلات والتأثيرات والصراعات الإقليمية والدولية التي تستند إلى المشكلة الداخلية وتستغلها أو تستفيد منها" (1).

أما الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الأولى عام 1987 فهي، برأي البروفسور أفيشاي مرغليت، صراع "بين مجتمعين على قطعة الأرض ذاتها وعلى الشرعية" (2).

ويُضيف مرغليت موضحًا: "منذ عام 1967 عاد الصراع ليكون بصورة مباشرة بيننا وبين الفلسطينيين... وهو صراع مختلف تمامًا عن صراعنا مع الدول العربية. فهذا الصراع الأخير كان، في صلبه، صراع مصالح شأنه شأن أي صراع بين دولتين لا بين مجتمعات (3).

يُمكن القول، وعبر المسار التاريخي- السياسي للقضية الفلسطينية، إن مرغليت يُقرّ بكون الانتفاضة الأولى قد أظهرت للرأي العام الإسرائيلي، كما للرأي العام العالمي، كونها انتفاضة شعب على أرضه، انتفاضة شعب حُرم من حقوقه السياسية والمدنية واحتلت أرضه وجرت عليها محاولات لدوس كرامته ومُنع عنه الحق المُعترف به لشعوب العالم- حق تقرير المصير.

وبالنسبة للإسرائيليين الآخرين، من الذين حلموا باحتلال "متنوّر" و"أبديّ" للضفة الغربية وقطاع غزة، فقد اكتشفوا بنتيجة الانتفاضة ثمن استمرار هذا الاحتلال إسرائيليًا من مختلف النواحي وخصوصًا الاجتماعية منها. وأدرك بعضهم أن هذا الثمن سيزداد بُهظًا بمرور الوقت مع تجذّر وتطوّر الروح الكفاحية لدى المواطنين الفلسطينيين.

ولذا كان التفكير الجديد لدى هذا البعض خروجًا على كل ما هو سائد، حتى بينهم وبين معتقداتهم.

ويُمثّل على هذا البعض الشاعر حاييم غوري، أحد مؤسسي حركة "أرض إسرائيل الكاملة"، الذي أعلن في ذروة الانتفاضة أنه "يتعيّن على إسرائيل أن تُعلن جاهزيتها للبدء بمفاوضات مباشرة مع أي طرف عربي مرتبط بالصراع، بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية، بهدف وضع حدّ لسفك الدماء وإحراز السلام" (4).

وكتب غوري، في شرح أسباب هذا "التحوّل المُفاجئ"، يقول: "توصّلتُ إلى الاستنتاج بأن المشكلة السياسية الراهنة وانزلاق المجتمع الإسرائيلي، إلى درجة فُقدان المشاعر، هما النتيجة لسيطرتنا على شعب آخر… إن الوضع برمته لا يُطاق. وهو وضع يُبهظني ولا أستطيع تحمّله. ولذا فليس من خيار أمامي سوى الفصل بين عاطفتي الأرض إسرائيلية العميقة، وبين الحل الواقعي السياسي. وواضح لي أننا ملزمون بالذهاب إلى مباحثات ومضطرون للتحادث معهم. وهذا الأمر يكاد يكون حاجة حضارية" (5).

في مجمل القول فإن غوري، حتى ولو فارق الحقيقة في معظم الأفكار التي يوردها في سائر أجزاء حديثه، يعترف بفشل سياسة تجاهل الشعب العربي الفلسطيني وحقوقه القومية وممثله الشرعي والوحيد- منظمة التحرير الفلسطينية.

ومضى الخروج على ما هو سائد لدى عدد من المثقفين إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى حد المُطالبة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة "إلى جانب دولة إسرائيل". وهذا الأمر فتح الباب أمام الاعتقاد بأن كيانية الدولة الفلسطينية على أساس "مبدأ الدولتين" أمست فكرة مختمرة في وعي قطاع معيّن من الرأي العام الإسرائيلي تنتظر الخروج إلى دائرة الضوء.

وبعد أقل من ثلاثة أشهر على اندلاع الانتفاضة، أعلن الأديب الإسرائيلي الأكثر شهرة عاموس عوز أنه "يؤيد قيام دولة فلسطينية بجوار إسرائيل في صباح الغد، وذلك ليس فقط بسبب آلام الفلسطينيين ومعاناتهم وإنما أيضًا لأن هذه هي سنّة الحياة". ودعا عوز إلى التفاوض مع الفلسطينيين "وعلى رأسهم منظمة التحرير الفلسطينية". ووصف حزب "العمل" (يسار) بأنه "هراوة في يدي الليكود (يمين)"(6).

ومن الأدباء البارزين الذين علت أصواتهم في تلك الفترة في الاتجاه ذاته أ. ب. يهوشواع الذي قال: "ثمة الآن مع من نتفاوض. وإذا كانت إسرائيل تقترح على م. ت. ف [منظمة التحرير الفلسطينية] الآن، دولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة فإنني متأكد من أنهم مستعدون لقبول ذلك. لكن طالما لم تقترح إسرائيل اقتراحًا كهذا أو طالما أن الاقتراح لم يرفض من الطرف الثاني فإن واجب إثبات حُسن النية يقع علينا. وعندما يقولون لي إنّ م. ت. ف تتحاذق وتُوافق وبعد ذلك تتراجع فإنني أفهمها، فلماذا يجب على قادتها أن يُدلوا بتصريحات إلى أوري أفنيري وماتي بيلد وأن يتخاصموا فيما بينهم بعد ذلك بينما ليس في وسع أفنيري وبيلد أن يُقدّما لهم شبرًا واحدًا من الأرض وبينما لم تُعلن إسرائيل، في أيّ خطوة من جانبها، عن استعدادها للتحادث معهم"(7).

وقال الأديب عاموس كينان في اتجاه أشدّ وضوحًا: "إن الهدوء سيعود إلى الضفة الغربية وقطاع غزة فقط بعد الانسحاب الإسرائيلي الذي سيعقب مفاوضات سلمية مع منظمة التحرير الفلسطينية" (8).

ويُمكن وضع الأديب أهارون ميغد في خانة قريبة من خانة يهوشواع، ففي مقال بعنوان "اعترافات شخصية" كتب يقول: "إنّني أؤيّد تقسيم البلد بيننا وبين العرب... وإذا ما أرادوا إقامة دولة فلسطينية مستقلة لأن لهم حقوقًا على تلك الأراضي وليس في نيّتي أن أسيطر عليهم- فلتكن لهم دولتهم المستقلة. وإذا كانوا يعتقدون بأن م. ت. ف. هي ممثلهم الوحيد فعندها علينا التفاوض مع م. ت. ف" (9).

وفي هذا الشأن نشير أيضًا إلى ما يقوله البروفسور أفيشاي مرغليت: "أعتقد أنّ كلّ فرد يتحلّى بالحد الأدنى من الواقعيّة السياسية يُقّر ويُؤيّد إقامة دولة فلسطينية بجوار إسرائيل باعتبار ذلك حلًا مُفضلًا بالنسبة إلى هذه الأخيرة" (10).

عقل حادّ وتنظيم ذو فرادة

متميّزة وراء الحجر

إلى جانب أوساط المثقفين التي ذهبت ما ذهبت في دعوتها إلى تلبية مطالب الانتفاضة، لفتت الانتباه بعض الأصوات التي أكدت في أول عام للانتفاضة أنّ الحجر لم يعد المظهر الوحيد لها؛ فوراء الحجر واليد التي تقذفه عقل حادّ وتنظيم ذو فرادة متميّزة أسس سلطة شعبية في مواجهة الاحتلال.

فالأديب عاموس عوز انتقد بحدّة مناورات الساسة الإسرائيليين التي لم تعد تنطلي على شعب الانتفاضة. وتابع: "إن الشعب الفلسطيني بمُدنه وقراه والمُنظّم بشكل جيّد قد أدرك ما لم يُدركوه لدينا، وهو أنّه لا يمكن الاعتماد والثقة بإسرائيل التي تدعي بأنّها تريد الدخول في المفاوضات السياسية فقط عندما يعود الهدوء والنظام رغمًا عنه، فالأمر الوحيد الذي فعلته إسرائيل هو زيادة القمع والسلب ومشاعر الإحباط. وهذا ما ستفعله إسرائيل أيضًا إذا ما ساد الهدوء والنظام من جديد" (11).

أما الأستاذ الجامعي، البروفسور أفيشاي مرغليت، فاعتبر ديمومة الانتفاضة مظهرًا من مظاهر تنظيمها القوي. وأضاف: "لا أعرف جيّدًا المجتمع الفلسطيني الراهن. وأزعم أن أحدًا لا يعرفه وفي مقدمة ذلك أجهزة الاستخبارات. هؤلاء يعرفون معلومات عامة لكنهم يجهلون المستجدات الأعمق وذلك لأن المجتمع المذكور في خضم تغيّرات وتبدّلات ليس في مقدورنا، حتى الآن، تعقبها وفهمها كما يجب" (12).

يتبيّن مما تقدّم أن التأييد لنضال الشعب العربي الفلسطيني ولحقوقه الوطنية توفّر بشكل بائن بين مثقفين إسرائيليين بفضل الانتفاضة. ولا شك أن استمرار الانتفاضة جعل هذا التأييد يسير في خط متصاعد متنام. مع ذلك تبقى حقيقة أكيدة لا يمكن إغفالها هي أنّ الانتفاضة فرضت نفسها بقوة ملحوظة وبإقناع غير محدود على جمهرة المثقفين منذ انطلاق شرارتها الأولى في كانون الأول/ ديسمبر 1987. وأحدثت هزّة لغير صالح سياسة دولة الاحتلال.

ولعلّ وثيقة الأدباء بشأن ما هو حاصل في الأراضي المحتلة منذ 1967 والعريضة الموجهة من جانبهم إلى حكومة إسرائيل، وكلتاهما تزامنت مع مرور أول شهر على الانتفاضة، هما المثال الحيّ الذي يسندنا في الخروج بالحكم السالف.

ومما جاء في الوثيقة التي أصدرها سبعة عشر أديبًا ومفكرًا بعد أن قاموا بجولة في قطاع غزة ومخيماته يوم 8 كانون الثاني/ يناير 1988:

"هناك أعمال قمع نموذجية يقوم بها الجيش الإسرائيلي في مركزها حملة اعتقالات جماعية يجري شنّها بالاستناد إلى تقدير بارد بأن كل فتى هو رامي حجارة محتمل فضلًا عن الاعتداء بالضرب خلال الاعتقال وعرقلة تقديم العلاج الطبي بسبب تدخل رجال الأمن.

"تجري في قطاع غزة ثورة شعبية يقودها شبان وتحظى بتأييد السكان أجمعين.

"إننا متأكدون من أن سياسة القبضة الحديدية من شأنها تخفيف الثورة لكنها لن تستأصلها... وإذا لم يُوجد حل سياسي ستتفجر الثورة من جديد بقوة هائلة.

"لا نستطيع إلى ما لا نهاية اضطهاد شعب يكافح من أجل حريته.

"جميع الذين تحاورنا معهم ينشدون إقامة دولة فلسطينية بجوار دولة إسرائيل. وبموجب أقوالهم سيتوقف الكفاح الفلسطيني المسلّح فور أن تعترف إسرائيل بـ: م. ت. ف شريكًا للمفاوضات. ونعتقد أنّه حان الوقت لدرس هذا الإمكان بصورة جادّة.

"حتى يتحقق هذا الأمر، الذي نطالب بأن يتحقق في أسرع وقت ممكن، ندعو حكومة إسرائيل إلى أن تكف قبضتها الحديدية عن أهالي الأراضي المحتلة" (13).

أما الأدباء والمفكرون الذين وقعّوا على هذه الوثيقة فهم (بحسب الأبجدية): يتسحاق أورباز، عوزي بهار، يافه بولسليفسكي، د. غيلا بلاص، د. شمعون بلاص، يتسحاق بن- نير، يعقوب بيسر، يائيرا غينوسار، يائير غربوز، د. عيديت دورون، د. إيلانه همرمان، مئير فيزلتير، د. حنان حيفر، أرنون كسبي، نيلي ميرسكي، داليا ربيكوفيتش، د. موشيه رون.

وعلى العريضة الموجهة إلى حكومة إسرائيل التي تؤكد أنه "حان الوقت لإجراء مصالحة بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني والكف عن أساليب القمع والعقوبات" وقع ثلاثة وأربعون أديبًا ومفكرًا إسرائيليًا هم: مردخاي أبي شاؤول، يتسحاق أورباز، مريم إيتان، إلداد ألدن، ألون ألترس، رفكه آسا، شمعون بلاص، يعقوب بيسر، أوري برنشطاين، يائيرا غينوسار، نوريت غريتس، موشيه دور، يوسي هدار، يائير هوروفيتس، إيلي هيرتش، إيلانه همرمان، يهوديت هندل، نتان زاخ، حنان حيفر، أ. ب. يهوشواع، نتان يونتان، عاموس لفيتان، هدارا لازار، سامي ميخائيل، نيلي ميرسكي، يهوشوع سوبول، ساسون سوميخ، ألكسندر صاند، يونات صاند، بوعز عفرون، عاموس عوز، عميلا عينات، تسفي عتصمون، ألونه فرنكل، شمعون تسمرات، نسيم كلدرون، يورام كانيوك، داليا رابيكوفيتش، موشيه رون، آشير رايخ، شالوم رتسافي، نتان شاحم، يوسف شارون (14).

ثورة شعب لا

"أعمال شغب"! 

غير أن الظاهرة الأبرز، من بين ردات فعل الكتاب الإسرائيليين على الانتفاضة، كانت ظاهرة الأديب المعروف يزهار سميلانسكي [أو س. يزهار] الذي كان الأكثر اندفاعًا في المعركة الضارية ضد ممارسات الذبح اليومية التي ترتكب بحق شعب الانتفاضة.

وتوحي المقالات التي كتبها سميلانسكي آنذاك للقارئ، من غير لبس أو إبهام، أن الانتفاضة هي همّ إسرائيلي بمقدار ما هي همّ فلسطيني وذلك بمدى ما تنتقل أساليب القمع والطغيان، التي يجري الإفراط في استعمالها ضد الشعب العربي الفلسطيني في الأراضي المحتلة منذ 1967، إلى الحيّز الإسرائيلي وإلى نفوس المجتمع الإسرائيلي الهائجة بالرغم من الهدوء القسري المفروض عليها من الخارج. وإن الغوص في مقالاته العديدة يكشف عن أنّه لا يسعى إلى أن يكون مجرّد مدوّن للحوادث وإنما بحاثة مفكر ومدقق.

ومن أبرز ما يسجل لسميلانسكي أنه في مرحلة مبكرة من اندلاع الانتفاضة عندما كانت هستيريا القمع تجرف إسرائيل وعندما كان التنكيل الاحتلالي في تصاعد نوعي، أطلق صيحته الشهيرة أن ما هو حاصل في الأراضي المحتلة ليس "أعمال شغب" إنما "ثورة شعب"، وأن من الحجارة ومن أنهار الفتيان يتكون شيء ما عظيم وبسيط وإنساني.

لا شكّ في أن هذا الاندفاع لجمهور المثقفين الإسرائيليين نحو فهم رسالة الانتفاضة والتيقن من عقم سياسة تجاهل الحقوق الوطنية الفلسطينية ودور م. ت. ف التمثيلي الوحداني لم يأت من فراغ، إذ إن عملية تحوّل كانت تجري في وسط هؤلاء، ارتباطًا بالحرب على لبنان.

ومثل على هذا التحوّل أيضًا انسحاب الشاعر نتان زاخ والناقد نسيم كلدورن من عضوية لجنة تنظيم مهرجان عالمي للشعر كانت السلطات الإسرائيلية تزمع عقده في احتفالات الذكرى الأربعين لـ"يوم الاستقلال" (1988) مما أدّى بالتالي إلى إلغاء المهرجان.

وجاء في رسالة الاستقالة التي وجهها هذان العضوان إلى الجهات المعنيّة: "الوقت ليس وقت المهرجانات في إسرائيل. إن حكومة- على الحزبين الكبيرين العضوين فيها- تفجّر منازل المدنيين وتشرد مواطنين من دون محاكمة وتطلق سلاح الغاز ضد النساء وتقتل فتيانًا وفتيات فيما لا يمكن وصفه إلا بأنه إرهاب رسمي، حكومة تتيح لكتائب المستوطنين المسلحين أن تنشر الرعب بين صفوف شعب مقيم في وطنه وأرضه وأن تستبيح حرماته، ليست أهلًا لأن يأتي شعراء إلى احتفال منظم من جانبها كي يقرأوا فيه قصائدهم.

"لقد توصلنا إلى الاستنتاج بأن مهرجان الشعر من شأنه أن يفسر، خلافًا لكل غاياته، كنشاط تأييد وتماثل مع سلطة تجاوزت منذ مدّة الخطوط الحمر التي من دونها يفقد الشعر إيقاعه. وتوصلنا إلى الاستنتاج بأن مجرّد رغبة الفرد الطبيعية في أن يحتفل بعيد دولته الوطني، الذي هو عيده أيضًا، ستفسّر بأنها تسليم بما هو حاصل في هذه الأيام في دولة اليهود. إننا ندعو كل الشعراء الذين جرت دعوتهم إلى المهرجان من جانبنا، في البلد وخارجها، إلى الانضمام إلينا في مقاطعة مهرجان الشعر العالمي في إسرائيل" (15).

تعقيبًا على هذه الخطوة كتب الشاعر يعقوب بيسر، رئيس تحرير مجلة "عيتون 77" الأدبية، يقول: "ربّما هذه هي المرة الأولى في تاريخ البلد التي لم تنجح فيها المؤسسة الحاكمة في التستر بالشعر كورقة تين في سبيل التعمية على الإثم الواقع في أيام الانتفاضة. وإذا كانت كلمات "احتجاج" و"إنذار" و"تحذير" ليست فارغة المضمون أصلًا، فإنها أسمعت هذه المرة بشجاعة مواطنية تستحق التقدير من جانب زاخ وكلدرون والذين استجابوا لدعوتهما" (16).

وفور إذاعة رسالة الاستقالة أعلن الشعراء داليا رابيكوفيتش وآشير رايخ ونعيم عرايدي (عربي) عن انضمامهم إلى دعوتها. بينما قدّم الشعراء ش. شيفرا وأبرهام سوتسكيفر وحاييم غوري استقالتهم من اللجنة المنظمة. وأعلن الأخير أنه من دون مشاركة نصف الشعراء الإسرائيليين "سيكون المهرجان كاريكاتوريًا" (17).

بانقضاء العام الثاني: قراءات

نقدية للحركة الصهيونية

تحرّك زمن الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى الأولى بسرعة مُلفتة، منذ أن اندلعت شرارتها الأولى في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر 1987 وحتى انقضاء عامين على ذلك. وحمل معه، في كل يوم، تطورات جديدة حتى أصبح [أي زمن الانتفاضة] المفصل الذي يتواصل عليه صراع الإرادتين المتنافرتين- إرادة شعب الانتفاضة وإرادة الاحتلال- وسط عمليات استقطاب جديدة بين المعسكرين وأيضًا- وهذا ما يهمنا في هذا المقام- في إطار المعسكر الإسرائيلي ذاته.

ومع انقضاء هذين العامين أمكن القول إن الجوهري، الذي طرحته الانتفاضة الشعبية الفلسطينية على بعض المفكرين الاجتماعيين الإسرائيليين، هو أمر أخطر بكثير من ذاك التأثير السياسي الذي طبع بميسمه بعض الأوساط الصحافية وعددًا من كتّاب الأعمدة والزوايا السريعة والذي، برغم أهميته، يتراوح عادة، بسبب افتقاره إلى منهج، بين النقائض، فيتحمّس أحيانًا لشيء ويرحب أحيانًا أخرى بضدّه.

إنّ هذا الأمر الجوهري، برأيي، يكمن في إعادة استقراء التاريخ السياسي للحركة الصهيونية منذ نشوئها وحتى أيامنا الراهنة، وما زرعته من "بذور سوء"، تشكل مرجعًا ومتكأ لفهم التاريخ المعاصر وللإطلالة على المستقبل، انطلاقًا من أن ما يحدث مشدود بكل قوة إلى الماضي الذي لا يعد، بحال من الأحوال، مجرّد ذكرى أو عبرة من تاريخ بعيد إنما هو استمرار يتظاهر في الحاضر. وأي تراخ في هذا الشدّ إلى ذلك الماضي يجعل التاريخ يستنقع في حركيّة راكدة.

وما سأورده قد لا يبدو للبعض فتحًا جديدًا. غير أن ديمومة الانتفاضة حتى بلوغها عامها الثاني مع أفق للاستمرار، بدا في وقته أنه مفتوح بلا حدود، قد راكم المزيد والمزيد من هذه المترتبات. ولئن كان بعض ما سيرد مكرورًا عمّا سبق أن جيء عليه، في مقالات منثورة هنا وهناك، فإن ما يستحثنّي على ذلك- مع اعتقادي بأن تلك الجهود ما كانت لتضيع هباء- هو ما يلي:

  • أولًا- تعمّق هذه المترتبات لاحقًا، أفقيًا وعموديًا؛
  • ثانيًا- الحاجة إلى الخروج بحكم موضوع متكامل على هذه الظاهرة التي بدا أنها ماضية إلى الأعماق (ويمثل على ذلك سيل من الكتب والأبحاث التي تشكلت في إطار هذا الهم الفكري). وهذا الأمر يستحيل من غير قراءة موضوعية، متأنية ومتنامية، تتأسس على معطيات دقيقة بعيدة عن الأحكام التصفيقية الانفعالية، أو عن المواقف العاطفية المسبقة، أو عمليات التدليس التي تتقصّد تزويق الوضع.

إنّ اهتمام عدد من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع الإسرائيليين بإعادة استقراء التاريخ السياسي للحركة الصهيونية ارتباطًا حصرًا بما يسمّى بـ"المشكلة العربية"، التي تكمن فيها منابت الصراع الإسرائيلي- العربي والقضية الفلسطينية، يملي علينا واجب التساؤل عن الغاية من وراء ذلك؟ وليس من الصعوبة بمكان الإشارة، بشكل أكيد، إلى أن هذه الإعادة فرضتها مساءلة موضوعية بشأن الجذور الحقيقية لتلك "المشكلة". وهي مساءلة بدأت تظهر وتتكرّس شيئًا فشيئًا بنتيجة إصرار الإنسان الفلسطيني على التمسك بحقّه وهويته الوطنية، والذي بلغ ذروته في الانتفاضة الشعبية المديدة.

وعملية إعادة الاستقراء هذه، كما ترجمتها على الورق النصوص التي توالت في تلك الفترة، إنما تقوم على رفض تغييب الماضي أو بعض أحداثه ورموزه تحت ذرائع وشعارات إيديولوجية معينة أو لاعتبارات سياسية خاصة. وعليه فإن النصوص هنا، تحث الحياة الثقافية والفكرية والسياسية الإسرائيلية على الدخول في دورة إنتاج موسعة تولد وتراكم المعرفة بحركة الواقع وتناقضاته وتتجاوب معها بما يمكنها من تصحيح "التاريخ" الذي "روبّوه" لها و"روبّوها" عليه. كما أن تصحيح الواقع يتمّ من خلال تقويض مجموعة من البنيانات الخربة وإيقاظ تباشير "الرفض" في هجوع الجماهير العريضة. فهذه النصوص تجاهر بإطلاقيتها في "عدم الرضى" الناجم عن وعي لا ينكص عن حقائق التاريخ ليحقق تلاؤمًا مع الحاضر، وإنّما يضطرد متسلحًا بتلك الحقائق، ليصبّ في التمرّد على "الإجماع".

ثلاثة محاور رئيسة

إنّ هذا التمرّد في "تصحيح التاريخ" (وهو التمرد نفسه الذي حمل لواءه وما يزال أولئك الذين أصبحت التسمية المتداولة بشأنهم هي "المؤرخون الجدد" وإلى جوارهم "علماء الاجتماع الانتقاديون") قد تمفصل على ثلاثة محاور رئيسية متصلة مع بعضها بعضاً في المبنى والمعنى هي:

المحور الأول: تقييم الصهيونية عبر وضعها في إطارها الفكري الصحيح، من غير تحايل أو تدليس، ومن خلال رؤية ممارساتها البشعة التي استتبعت اعتمادها المطلق على أولوية حق اليهود في فلسطين على أي حق آخر. ولدى اصطدام تلك الممارسة الصهيونية مع حق "الآخر"، الذي هو في هذه الحالة الشعب العربي الفلسطيني، فإن حق الصهيونية المدفوعة بعدم الجاهزية للتسوية بينهما له الأولوية. وأسانيد ذلك، في صياغة المبررات، إنكار حق الفلسطينيين في السيادة على أراضيهم وأبعد من ذلك إنكار أي وجود قومي أو كيان وطني للشعب العربي الفلسطيني.

المحور الثاني: اعتبار "التصادم" السالف (بين "حق" الصهيونية وبين حق أصحاب البلد الأصليين من الفلسطينيين) ورطة كبرى واجهتها الصهيونية على المستوى الأخلاقي (في الحد الأدنى)، المخرج الراهن منها- في عرف هذا المنهج- يتمثل في التخلي عن دعاوى التوسع في الأراضي العربية المحتلة منذ حرب حزيران/ يونيو 1967 وعن إنكار حقوق السيادة الوطنية الفلسطينية على أرض دولة فلسطين بجوار دولة إسرائيل ذات السيادة.

المحور الثالث: القول إن "القومية" افتقدت الأسانيد والمبرّرات العلمية في التاريخ المعاصر للجماهير اليهودية. أما "الوطنية" بوصفها رابطة بين الجماهير اليهودية المفتقدة إلى "القومية" فهي ما حاولت الصهيونية أن توجدها من خلال دولة الاحتلال دون أن تحقق النجاح المنشود.

لنمثل على منطوق هذه المحاور الثلاثة ببضع قراءات واستشهادات من تلك الفترة:

الباحثة المتخصصة في الشؤون الصهيونية البروفسور أنيتا شبيرا أصدرت مؤلفًا بعنوان "المشي على خط الأفق" (18) أبرزت فيه حدّة التناقض بين الصهيونية وبين واقع البلد الذي "حثّت" الجماهير اليهودية على الهجرة إليه والاستيطان فيه لإنشاء "وطن قومي" عليه (فلسطين).

كابوس "الشعب الآخر"...

تقول شبيرا: "تمثل أحد المنطلقات الأساسية للصهيونية في أنها عنوان حل مشكلة انعدام الأمان الجسماني، التي واكبت حياة الشعب اليهودي في الشتات (الدياسبورا)، والإحساس بالانتماء إلى وطن جرى استيعابه، أولًا وقبل أي شيء، على أنه إلغاء للحاجة إلى العيش في كنف شعب آخر والخوف الدائم من مذابح محتملة... ولم تول الدعاية الصهيونية اهتمامًا خاصًا لحقيقة أن فلسطين لم تكن خالية من البشر. وشكّلت معادلة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" شعارًا دعائيًا مريحًا، إذ إنها أعطت المبرر الأخلاقي ووعدًا بالسلام للمهاجر اليهودي، ونتيجة لذلك قاربت التوقعات التي ترتبت على اللقاء بين اليهودي وبين الواقع في فلسطين من حافة الكابوس"!.

كيف؟ - تتساءل شبيرا- وسرعان ما تجيب: "اعتقد الصهيوني المهاجر إلى البلاد بأنه ذاهب إلى موطنه حيث سيكون صاحب بيت محرّرًا من التعقيدات والأزمات التي يعود مصدرها إلى واقع حياة اليهود بين ظهراني الغوييم [الأغيار]... أخيرًا ستكون له زاويته الخاصة. لكن في الواقع صار اليهودي مرّة أخرى إلى وضعية أقلية صغيرة وسط أغلبية عربية كبيرة".

وتقرّر الباحثة، من غير تردد، أن تعاملًا واقعيًا مع "المشكلة العربية" آنذاك، أو إجراء أي بحث جدّي معمّق حول دلالاتها، كانا من شأنهما أن يقودا، حتمًا، إلى خلاصة واحدة وحيدة مفادها: استحالة إمكان تطبيق الصهيونية في هذا البلد. فضلًا عن ذلك فإن نتيجة أخرى كانت ستتكشف أمام أنظار الكثيرين مؤداها أنّ "المشروع الصهيوني سيؤدي إلى إنشاء وضعية أخرى تكون حياة اليهود فيها مهددّة بالخطر".

وتكشف شبيرا عن شيء ثابت تاريخيًا هو أن "الكثيرين من المهاجرين تركوا البلد" تحت وطأة الخلاصات السالفة؛ لكنها في الوقت عينه تؤكد أن "دوافع الذين تركوا لم توثقها الكتب حسبما جرى توثيق دوافع الذين بقوا... وفقط الحوار مع هؤلاء التاركين يسّر سبيل سماع الصدى المدوّي لصدمة وقوفهم وجهًا لوجه أمام المشكلة العربية" (19).

لعل الجديد، كل الجدة، الذي تقوله هذه الباحثة هو تباين آراء المهاجرين اليهود أنفسهم بشأن جدوى الصهيونية بالارتباط مع ما يسمى بـ"المشكلة العربية"، التي "تجاوزتها" الأدبيات الصهيونية المبكرة واللاحقة بطريقة نعمائية بائسة لم تكن مؤهلة للصمود أمام الواقع. وعندها استل آباء الصهيونية، من ترسانة أراجيفهم، أكذوبة "الرسالة الحضارية" للصهيونية التي صاغها هرتسل في مقولته الزاعمة إنّ "دولة إسرائيل الصهيونية ستكون سورًا واقيًا للحضارة الأوربية الغربية من الوحشية الشرقية البدائية"!.

تقول شبيرا: "انصرف الشبان اليهود، الذين اختاروا الطريق الصهيونية- الاشتراكية، إلى مراجحة المناهضين للصهيونية الذين زعموا بدورهم أنّ المشروع الصهيوني في فلسطين هو مشروع استعماري في جوهره ومجُحف بحق العرب. وتمثّلت "المعادلة الدفاعية" في مواجهة هذا الادعاء في القول التالي: الاستيطان اليهودي الصهيوني سيجلب التقدّم والتطور إلى منطقة يسود فيها إقطاع آخذ في التحلّل. أمّا المقاومة العربية لهذا الاستيطان فليست ناجمة عن دوافع قومية، وإنما عن تحريض العناصر الرجعية في الشارع العربي (رجال الدين والأفندية وغيرهم)" (20).

إنّ تعامل الصهيونية مع الفلسطينيين منذ أن أطلقت مشروعها الاستيطاني هو- برأي شبيرا- مفتاح لفهم كل تطوّر الصراع الإسرائيلي- العربي في السنوات اللاحقة حتى زمن الانتفاضة، هذا التطوّر الذي جاء برسم ذلك التعامل.

ويوافقها هذا الرأي الكاتب والصحافي بوعز عفرون الذي أصدر كتابًا بعنوان "المحاسبة القومية" (21)، وضع من خلاله الحركة الصهيونية وتاريخها السياسي- الاجتماعي في إطار عيني ملموس من التناقضات القائمة فيه يدفعه إلى وعي القارئ بصورة حارّة وواضحة.

يقول عفرون: "لقد ارتعدت فرائص الحركة الصهيونية، على تيّاراتها المختلفة، من مُجرّد الاعتراف بوجود قومية عربية- فلسطينية. لأنّ ذلك من شأنه أن يجرّها إلى أن تقرّ بوجود حقوق قومية لها على البلد... وكانت المعارضة الطبيعية من طرف الجماهير المحلية للقومية الأجنبية الغازية سببًا جعل الصهيونية تعتمد، منذ البداية، على الدول الإمبريالية".

إذا انتقلنا إلى مفكّر آخر هو الباحث النفساني البروفسور بنيامين بيت هلحمي، من جامعة حيفا، نجده يؤكّد، شأنه شأن سابقيه، أنّ مشكلة الصهيونية والأزمات التي أفرختها وما تزال ترجع إلى جذر أساس واحد هو "الفجوة الكبيرة بين الحلم الصهيوني وبين واقع البلد الذي جرى اختياره لإخراج هذا الحلم إلى الوجود"(22). وهذه الفجوة كانت ماثلة أمام أصحاب ذلك "الحلم". كما كان واضحًا لهم أنّ "تحقيقه مستحيل بتاتًا وأنّ النجاح في تحقيقه، تبعًا لذلك، يستلزم الحرب من ناحية وارتكاب إثم فظيع بحق الشعب الآخر- الشعب الفلسطيني- من ناحية أخرى".

ويشير هذا الباحث إلى أنّ "الخطيئة الأصلية" - أصل البلاء- للصهيونية كامنة في كونها "تغاضت عن حقيقة وجود مئات الآلاف من العرب الفلسطينيين في البلد الذي اختارته أرضًا لمشروعها"! وعلى هذه "الخطيئة" جرت، بمنهجيّة، عملية تأسيس "تراث" كامل شديد الوطأة من "تجريم الضحية"- بمعنى اتهام الفلسطينيين بالإثم الفظيع الذي ارتكبته الصهيونية بحقّهم- شكل ويشكل غطاء لجرائم الجلاد وشططه.

"عندما خططت الصهيونية لإقامة دولة يهودية- يكتب بيت هلحمي- فإنها في الوقت نفسه قررّت عمليًا أن يكون نسل الشعب المقيم في البلد هو الضحية. وهذا واضح تمامًا. وبعد كل ذلك ما زلنا نتساذج ونتساءل: ماذا فعلنا بالعرب؟ لماذا يكرهوننا إلى هذا الحدّ؟ إنّ طريقة التساؤل هذه لا يمكن أن تصدر إلا عن إيديولوجيا كولونيالية ترى في هذا النسل بشرًا يفتقرون إلى أي وعي قومي. ثم يأتي دور نعتهم بأنهم قتلة وإرهابيون. ومع هذه النعوت فإنّه من المنطقي أن يكون السلوك الوحيد تجاههم، من جانبنا، هو الرد الانتقامي بما يستحقونه"!.

إنّ إصرار بيت هلحمي، هنا، على عدم تغييب الماضي قاده عن وعي معرفي إلى تسخيف الرأي الشائع الذي يقول إنّ "مشكلات الصهيونية بدأت مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في العام 1967".

المسألة إذًا أكثر من واضحة: السقف الزمني لمشكلة الصهيونية، برأيه، هو قبل مئة عام حين "تظاهر آباء هذه الحركة بأنهم اكتشفوا وجود عرب في البلد الذي اتجهت أنظارهم إليه ليكون وطنًا قوميًا لليهود"! لكن الأنكى من ذلك أنّه الآن "بعد مرور مئة عام لا تزال الصهيونية تتظاهر بأنها فوجئت بوجود عرب في هذا البلد"! وهذا التظاهر يزيّن لأصحابه الهروب إلى الأمام من جدل أخلاقي، حتمي، لا بدّ من أن يفضي إلى النتيجة التالية: "إنّ مجمل حياة اليهود هنا قائمة على غبن ومعاناة شعب آخر"!

من الواضح، بالاستناد إلى ما يقوله هذا الباحث الذي يعتبر رائدًا، أنّ الهروب المستمر من هذا الجدل "الأخلاقي" الحتمي رافقه تصعيد هائل في العنف الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين... عنف يحاول أن يوحي للإسرائيليين أنفسهم باستعادة "الاستقرار المفقود" من دون أن يقدم شيئًا يذكر للفلسطينيين، ومن دون أن يحقق الشعب العربي الفلسطيني هدفه في الحرية والاستقلال.

أما المحور الثالث والأخير فيمثل عليه مقال منمّق للباحث يورام كاهتي بعنوان "العنصر القوموي والقوموي- الديني في الصراع العربي- الإسرائيلي"(23). يحوي المقال جملة من المغالطات ليس هنا مكان الاستغراق في تفنيدها لابتعادها عن جوهر ما نبتغيه. غير أن "مركز الثقل" فيه هو الاعتراف بأنّ الجماهير اليهودية شكّلت، قبل نشوء الصهيونية، مجموعة "إثنية"، متميزة، الرابطة الوثقى بينها تبدأ من الدين اليهودي وتنتهي عنده. أمّا جوهر الفكرة الصهيونية فاستند إلى مسعى "نقل اليهودية من نطاقها الديني الثقافي الوحيد إلى النطاق السياسي". وهذه النقلة قام بها آباء الصهيونية من خلال الإيهام بأنّ معاناة الجماهير اليهودية في أوروبا تحت وطأة معاداة الساميّة هي "معاناة اليهود أجمعين لمجرّد كونهم يهودًا". ويفنّد الباحث هذا الأمر من خلال تسجيل حقائق واقعية.

ويشير أيضًا، ولو مداورة، إلى أنّ الصهيونية جيّرت المحرقة النازيّة (الهولوكوست) التي لحقت باليهود ترتبًا على صعود النازية إلى سدّة الحكم لمصلحة دعاواها السياسية، فيقول إنّ ما أسفرت عنه ممارسات النازية "أعطى دفعًا قويًا للدعاوى الصهيونية بشأن ضرورة إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل [فلسطين]".

بوعز عفرون لا يشير، خلافًا لكاهتي، إلى المحرقة لا من بعيد ولا من قريب. غير أنّه يؤكد أنّ الصهيونية "جعلت من الشعب اليهودي في المهجر أداة ووسيلة بيديها في سبيل بناء أمّة وقوة في أرض إسرائيل". ويضيف: "غدت الصهيونية، التي تشكلت لحل "ضائقة اليهود"، معنية بتأبيد هذه "الضائقة" في سبيل الدفع بأهدافها إلى الأمام!".

 ____________________

هوامش:

1- داود تلحمي: "الانتفاضة الشعبية الفلسطينية والفعل في معسكر الأعداء"، فصلية "الفكر الديمقراطي"، العدد 2، ربيع 1988.

2- مقابلة مع البروفسور أفيشاي مرغليت، مجلة "عيتون 77"، العدد 105، تشرين الأول/ أكتوبر 1988.

3- المصدر نفسه.

4- يعقوب بيسر: "حديث الشهر: مع حاييم غوري"، مجلة "عيتون 77"، العدد 100، أيار/ مايو 1988.

5- المصدر نفسه.

6- صحيفة "هآرتس"، 17 شباط/ فبراير 1988.

7- يارون لندن: حديث مع أ. ب. يهوشواع، مجلة "بوليتيكا" العدد 22، 1988. أوري أفنيري وماتي بيلد من قادة "اليسار الإسرائيلي" وكانا يجريان محادثات مع م. ت. ف.

8- صحيفة "يديعوت أحرونوت"، 20 شباط/ فبراير 1988.

9- أهارون ميغد: "اليسار وأنا: اعترافات شخصية"، مجلة "بوليتيكا" العدد 22.

10- مقابلة مع البروفيسور أفيشاي مرغليت،  مصدر سبق ذكره.

11- صحيفة "يديعوت أحرونوت"، 20 شباط/ فبراير 1988.

12- مقابلة مع البروفيسور أفيشاي مرغليت، مصدر سبق ذكره.

13- صدرت هذه الوثيقة يوم 9 كانون الثاني/ يناير 1988 ونشرت في مجلة "عيتون 77"، العدد 96-97، كانون الثاني/ يناير – شباط/ فبراير 1988.

14- نشرت العريضة في صحيفة "هآرتس" يوم 8 كانون الثاني/ يناير 1988.

15- مجلة "عيتون 77"، العدد 100، أيار/ مايو 1988.

16- المصدر نفسه.

17- صحيفة "هآرتس"، 25 نيسان/ أبريل 1988.

18- البروفسور أنيتا شبيرا: "المشي على خط الأفق"،  منشورات "عام عوفيد"، تل أبيب 1989.

19- المصدر نفسه، ص34 و35.

20- المصدر نفسه، ص46.

21- بوعز عفرون: "المحاسبة القومية"، منشورات "دفير"، تل أبيب 1988.

22- صحيفة "دافار"، الملحق الأسبوعي، 8 حزيران/ يونيو 1989.

23- فصلية "أبيريون"، صيف 1989.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.